ان تستوقفنا النهضة ويشغلنا التفكير فيها والبحث في مكتسباتها امرٌ فيه ما يكفي من التحدّي في زمن عنوانه الغياب، ومساره الانسحاب، ومنهجه الانكفاء. لن أتوقف هنا عند الحديث عن جدوى التفكير في النهضة، لأن التفكير في حدّ ذاته ميزة راقية ومتعة محبّبة، بغض النظر عن النتائج المثمرة التي من شأنه ان يتوصّل اليها أم لا. ان تستوقفنا مشاهد نيّرة تفحم الخطابات الضبابية المتربعة على منابر الوعي وتبرز هشاشتها، امر يضخّ كميات من الطاقة المحفّزة على عدم رمي السلاح والركود خلف صيحات اليأس.

لقد انصرف بالفعل أعداد من الدارسين العرب إلى مراجعة إرث "عصر النهضة"، من أجل نقده، او نسفه أو تجديده، تبعاً لحاجات ومنظورات واستهدافات مختلفة. ويمكن القول إن "مدونة عصر النهضة" تشكّل مدونة واسعة ومتنوعة، ولا سيما منذ أربعة عقود، شاملة للعصر كله أو متخصّصة في أحد ميادينه، ما يستوجب قراءة نقدية فاحصة لها. من هنا بات من الضروري ان نطرح سلسلة من الاسئلة الاشكالية، نختصرها بما يلي:

هل بات "عصر النهضة" منفصلاً، في كتابات دارسيه، مثل حقبة ماضية، أم لا يزال موصولاً بالراهن؟

هل يمكن التحدّث فعلاً عن قطيعة معرفية داخل تاريخ الفكر العربي الاسلامي ؟

ماذا عن "النهضة" بين تجديد أو نقض لها؟

هل تعني "النهضة" تأويل الماضي أم معاينة الحاضر؟

هل يشكل الوعي الماثل في الكتابات المعاصرة عن "النهضة" فكراً علمياً ام "تعبوياً" و"ترشيدياً"؟

ان التوقّف اليوم بالتحديد عند قراءة نقدية للنهضة يعتبر أمراً ملحاً على صعيد تاريخ الافكار وتطورها، بخاصة وأنه مقارنةً مع الضفة الغربية للمتوسط، نجد ان المراجعة النقدية لم تنحصر بالنهضة وحسب، انما طاولت الحداثة وما بعدها، مما قد اثمر انطلاقات متجددة للفكر وللاشكاليات المطروحة على بساط البحث. ان النظر في المسار النقدي للفكر الغربي يحثنا على المزيد من ممارسة المراجعة النقدية لما كان الفكر النهضوي العربي قد أنتجه، من أجل مزيد من الفهم لما يحدث من حولنا في الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي الراهن.

 

 

لن أعدّد الاسماء ولن اتوقف عند كل النماذج التي استغرقت تنظيراً وتمحيصاً في الخطاب النهضوي، وأنتجت كمّاً من النصوص النقدية التي يجدر بنا ايفاءها ما تستحق، لما تحمله من جدية، ورؤية نقدية، ومقاربة علمية، لكني سأكتفي بالتوقف عند علمين اثنين قدّما الكثير من العمل الجدّي والرصين كل في حقله من أجل المضيّ نحو التحديث، وتحقيق خطوة مهمّة تمكّننا من السير في ضوء مكتسبات الحداثة وتخطّي العوائق الفكرية التي تحول دون التقدّم، بالاضافة الى الجهد الذي بذلاه في فهم النهضة وحقيقة ما يجري على الساحة العربية الاسلامية، عنيت بهما محمد أركون وشربل داغر. لماذا محمد أركون؟ لماذا شربل داغر؟

الاول لأنه أمضى ما يقارب الخمسين عاماً يحفر بإزميل النقد صخوراً مكلّسة من الاحكام المسبقة، والحقائق المثبتة، والقراءات المؤدلجة التي قولبت العقل وحدّت من انطلاقته وضيّقت آلية اشتغاله، مما حال بينه وبين النهضة التي باتت صورة خيالية تحلم بها الاجيال لا أكثر. وضع الاصبع على الجرح مباشرة، وسلّط الضوء على مكمن الخلل: انه العقل العربي الاسلامي بشقيه اللاهوتي والسياسي.

الثاني لأنه انشغل بالهمّ النهضوي لغةً وأدباً وشعراً وفناً وتاريخاً اجتماعياً، فأنتج الكثير، وكأن الحداثة حاصلة حقاً، وليست بالهدف البعيد المنشود منذ قرون، انها أمر يعني كل مفكر على حدة، فكتب وانتقد ورسّخ ما يراه مناسباً من مفاهيم ومناهج ومقاربات نقدية طاولت العديد من المجالات، واحدها الفكر النهضوي.

بين محمد أركون وشربل داغر أكثر من وجه قربى، وأعمق من علاقة عابرة بين أستاذ في السوربون وتلميذ مجتهد لفت انتباهه. إنها مسألة قناعات مشتركة، ووضعية انفتاح ذهني، ورغبة في الحفر في طبقات المعنى. إنه العطش النهِم الى تلقّي العلوم الحديثة، وهضمها، وتطبيقها، والإستفادة منها. إنه الدخول في الحداثة واستثمارها، وأخذ مسافة نقدية منها. إنه الهمّ المعرفي الذي لا يهدأ ولا يعرف الراحة، فيجنّد المفكر نفسه في "مهمة لم يكلفه بها أحد" (حسب داغر)، يشاغب، يناضل، لا ينتظر مكافأة أو انتصاراّ يُتوّجه علماً على منبر.لا يهادن،لا يساوم، ولا يتراجع.

إنه الإنشغال بالتراث من وجهة البحث في المنهج. فالمنهج ليس عند المفكرَين معا مشروعاً جاهزاً يتمّ تبنّيه منذ البداية، ولا بناءً مكتملا يتمّ اختياره مسبقاً، إنه يتبلور تباعاً وفق معطيات البحث، وانسجاماً مع طبيعة الحقل الذي يحفران فيه. من هنا نجد أركون يتحدث عن اختيار المنهج باعتباره مشروعاً يتحقق خطوة تلو الأخرى، ليس دفعة واحدة منذ البداية. كذلك نجد شربل داغر يستخدم مراراً مصطلح "انبناء" المنهج، لكي يشير الى أن هذه العملية هي دائماً قيد التحقق، وبعيدة عن الإنجاز التام مسبقاً، قبل البدء بالبحث. فالإثنان معاً يتركان المجال مفتوحاً للبناء، طالما أن كلمة الباحث تعني التفتيش، وسبر أغوار مخفية.

بين محمد أركون وشربل داغر أواصر مودة فكرية جعلتني أرى في تجربة كل منهما نموذجاً للمنهج النقدي، وللمقاربة الرصينة، ولخوض معترك الحداثة والإستفادة مما نتج عنها، كلٌ في إطار عمله. هذا ما يحثّ باحثة مثلي في فكر محمد اركون على الإهتمام بنص شربل داغر والتوقف عنده عن كثب، لما فيه من همّ معرفي رصين، ومنهج علمي دقيق، وأطروحات تستوقف الباحث لكي تطرح عليه أكثر من سؤال. إذا كان داغر يشدد على رصانة البحث وجديته، فإنه ينحو في كتاباته الإبداعية، ولا سيما الشعرية، صوب منحى يتخذ من اللهو (وفق معان وجودية ونقدية ومعرفية) طريقة له، منصرفاً إلى تحريك اللغة تحريكاً شديداً، وإلى فتح أفق التخيل، وإلى العمل على تجديد الشكل الادبي المستقر، أو على تمكينه من تشكلات مغايرة.

 

 

1- النهضة في نص محمد أركون

قام أركون بدارسة العقل العربي الاسلامي من منطلق التاريخية، أي أنه حاول القيام بإعادة تقييم نقدي يشمل الموروث الاسلامي منذ ظهور القرآن وحتى اليوم. ميّز في دراسته هذه بين أربع مراحل رصد فيها مسار العقل الاسلامي عبر التاريخ، ضمن التحقيب الزمني التالي:

- المرحلة الاولى عرّفها بمرحلة القرآن والتشكّل الأوّلي للفكر الاسلامي.

- المرحلة الثانية هي مرحلة العصر الكلاسيكي ويقصد به عصر العقلانية الذي انطبع بالازدهار العلمي والحضاري.

- المرحلة الثالثة يسمّيها العصر السكولائي التكراري والاجتراري المعروف يعصر الانحطاط.

- المرحلة الرابعة هي مرحلة النهضة التي عرفها القرن التاسع عشر وهي تمتدّ برأيه حتى منتصف القرن الفائت.

يشير في هذا السياق الى أنه يمكن أن نضيف مرحلة خامسة تبدأ مع الثورة القومية التي أطلقها عبد الناصر وتنتهي بالثورة الاسلامية في أيامنا هذه. يؤكّد بعد هذا التحقيب، على ان الاولوية هي للمراحل الثلاث الأولى لانه في هذه الاثناء تمّ تأسيس العقل الاسلامي لكي يتبلور ويترسّخ في ما بعد، لذلك نجده في مختلف أبحاثه يولي الاهمية لهذه المراحل أكثر من مرحلة النهضة، لكي يتوقف تالياً عند ما يسمّيه بـ "ايديولوجيا الكفاح" التي سيطرت على مرحلة الثورة، ومن ثم يدرس ملياً الحركات السلفية والدعوات الاصولية المتكررة والمنتشرة في أكثر من مكان (لمزيد من التفصيل، أنظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الاسلام اليوم؟، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998، ص238- ص297).

يهمّنا هنا أن نسلّط الضوء على قراءة أركون للمرحلة الثالثة من تاريخ العقل العربي الاسلامي، أي مرحلة النهضة، علماً أن المراحل التي سبقتها مرتبطة بها، لكنني منعاً من تكرار دراسات سابقة كنت قد قمت بها حول مشروع أركون النقدي، وانسجاماً مع عنوان البحث الذي أقدّمه، سأحصر عملي بعصر النهضة.

نودّ أن نشير في البداية الى أن أركون عندما يريد مقاربة النهضة العربية يتوقف أولا لكي يرى ما الذي حصل في الضفة الغربية من المتوسّط، ويقارن في ما بعد ليبرز الفارق بين المسارين الغربي والشرقي للفكر المتوسطي. من هنا نجده يتحدّث عن التفاوت التاريخي بين العرب والغرب، مشيراً الى الدور المهم الذي لعبته العلمانية في أوروبا بخاصة في مجال تطوير العقل النقدي. نجده، في نص عنوانه: "سر انهيار الحضارة العربية الاسلامية"، يميّز بين الزمن الاوروبي والزمن العربي، معتبراً انه عندما كانوا نائمين، "ويغطون في نوم عميق، كنا نحن مستيقظين نصنع العلم والفكر والحضارات. وعندما ابتدأوا يستيقظون رحنا نحن نغطّ في النوم وندخل في عصور الانحطاط الطويلة. وبالتالي فالزمن العربي الاسلامي هو غير الزمن الاوروبي المسيحي، وقروننا الوسطى لا تتزامن مع قرونهم" (محمد أركون، تحرير الوعي الاسلامي، نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2011، ص142).

هذا ما يميّز بين الشرق والغرب، لكن ما يجمع بينهما في نظر أركون، هو الدور الريادي الذي لعبته البرجوازية في الجهتين والذي أدّى الى نشر التيار الانساني وازدهار العقلانية، إذ لا يمكن برأيه أن يزدهر الفكر العقلاني ما لم يُؤمَّن له السند المادي "من قبل طبقة اجتماعية قوية وغنية" .

يشير الى أن الطبقة البرجوازية الناشطة في العراق وبلاد فارس بين القرنين التاسع والعاشر الميلادي، كما في بعض العواصم الاسلامية في المغرب والاندلس قد لعبت دوراً ايجابياً في تأسيس ودعم " تيار انساني حقيقي متأثر بقوة بالعقلانية الدنيوية الوضعية وذلك على غرار ما حصل في عصر النهضة الاوروبية بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر،(...). فالبرجوازية الاوروبية كانت هي وراء التنوير، والبرجوازية العربية أيضاً كانت وراء التنوير العربي الاسلامي الذي سبق التنوير الاوروبي بخمسة قرون قبل أن ينطفئ كلياً" (محمد أركون، م. س. ص 143).

يردّ أركون سبب التراجع والنكوص الى انهيار البرجوازية التي وقفت الى جانب الكتّاب والشعراء والفلاسفة والمعتزلة، ثم ان فترة الدعم هذه لم تكن طويلة الامد إذ سرعان ما انقلبت الاوضاع واستولى العسكر على جهاز الدولة، وهم- أي العسكر- إما من "أصل اجنبي"، وإما "مماليك أي عبيد".

ان درس أركون لظاهرة البرجوازية في المجتمعات العربية الاسلامية خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، جعله يضع سببين أدّيا الى المصير المشؤوم الذي لقيته، من دون أن تحظى بفرصة كبيرة للتقدّم والتغيير. يمكن ان نوجز السببين بما يلي:

أولاً: ان البرجوازية العربية التي صنعت "مجد الحضارة العربية الإسلامية"، انحصر تواجدها وبالتالي عملها بالمدن الكبرى والمراكز الحضارية المتفرّقة في رحاب امبراطورية شاسعة مترامية الاطراف. الامر الذي أدّى الى بقاء الارياف والبوادي والجبال الوعرة بمنأى عما يحدث فكرياً في المدن الكبرى. " بمعنى أن معظم السكان كانوا محرومين منها تماماً كما حصل للنهضة العربية في القرن التاسع عشر حيث اقتصرت على برجوازية المدن والعائلات الغنية في القاهرة وبيروت ودمشق وفاس وسوى ذلك. فهؤلاء وحدهم كانوا قادرين على الاتصال بتيارات الحداثة في اوروبا وإرسال أبنائهم وأحياناً بناتهم الى الجامعات الغربية. هذا بالاضافة الى بعض العائلات الاقطاعية في الأرياف" (محمد أركون، م.س. ص143).

ثانياً: يرى أركون أن البرجوازية العربية كانت مبعدة عن المشاركة في جهاز الدولة كونها تابعة للمراكز السياسية المتنافسة في ما بينها. فعندما استولى قادة الجيش على مراكز الدولة تمّ القضاء على الطبقة البرجوازية من خلال مصادرة العسكر " للأرزاق والأموال والأراضي من أجل أن تمتلئ خزينة الدولة. كما وقضت الاضطرابات الاجتماعية المندلعة هنا وهناك على ازدهار الحضارة البرجوازية" (محمد أركون، م. س، ص143-144).

هذان هما بنظره السببان اللذان ادّيا الى انهيار البرجوازية العربية، الأمر الذي أسهم في نمو الارثوذكسية المتحجّرة وبالتالي هيمنتها على العالم الاسلامي ابتداء من القرن الحادي عشر. نجد أركون ينتقد هذه الارثوذكسية لكونها " أصولية نكوصية وارتدادية وجامدة فقيرة من الناحية الفكرية على عكس التيارات الابداعية التي كانت سائدة سابقاً إبان العصر الذهبي " (محمد أركون، م. س، ص 144).

ان هذا المصير الذي ألمّ بالبرجوازية في الناحية الشرقية للمتوسّط كان مختلفاً عما حلّ بها في الناحية الغربية. في حين كانت الاولى تعاني من ضعف في بنيتها المجتمعية، مع افتقاد الأمان، والقطيعة بين المركز والاطراف، كانت البرجوازية الثانية الصاعدة منذ القرن الخامس عشر واثقة من نفسها، تنعم بالطاقة الابداعية والتواصل والتوسع عبر البحار والمحيطات. يفسّر مفكرنا تدهور الاوضاع وصعود الفكر الارثوذكسي المتصلّب انطلاقاً من ثلاثة أسباب:

الاول: مردّه الى ضرورة تحفيز الهمم في تلك الحقبة من أجل مقاومة الهجمات الخارجية المعروفة بالحروب الصليبية وهجمة الاتراك السلاجقة وصولا الى العثمانيين.

الثاني: يعود الى استمرار الحرب الداخلية بين المسلمين أي بين الشيعة الفاطميين والسنة.

الثالث: مؤدّاه غياب الظروف المناسبة كما الأطر الاجتماعية التي من شأنها أن تشجّع على ازدهار التعددية العقيدية والثقافية التي عرفتها المرحلتان السابقتان، أي مرحلة التشكّل الأولي للفكر الإسلامي، والمرحلة الكلاسيكية، أو العصر الذهبي الاسلامي.

بعد أن أوجزنا المسار التاريخي للعقل العربي الاسلامي في مراحله الثلاث الاولى، نصل الى المرحلة الرابعة من تحقيب أركون لتاريخ العقل الاسلامي، عنيت بها مرحلة النهضة. أهم ما يميّز هذ المرحلة على الصعيد السياسي يكمن في "هجمة الاستعمار التوسعية" والدخول تحت السيطرة الكولونيالية، مما أفقد المجتمعات العربية والاسلامية السيطرة على نفسها، إذ أصبحت المبادرة السياسية والاقتصادية ممسوكة من قبل المستوطنين المستعمرين. يلحظ أركون في هذا المجال أنه عندما حاولت بورجوازية محلّية ما أن تتشكّل في تلك الحقبة، تمّت محاصرتها، فهُمّشت في الجزائر مثلاً أثناء حروب التحرير الوطنية. أما في تونس والمغرب فالبرجوازية التقليدية كان لها حظٌ اوفر من الاحترام خلال السنوات الاولى للاستقلال، لأنها هي التي أشعلت النضال الوطني ضدّ الاستعمار في تلك الحقبة. كذلك إن التزايد السكاني المتسارع قد سبّب اختلالاً في التوازنات الاجتماعية وقضى على هذه البرجوازية منذ بداية تحرّكها. الصورة التي تمّ تظهيرها يختصرها أركون بما يلي: "بدا للناس عندئذ أن البرجوازية الليبرالية عاجزة عن تلبية حاجات الناس وأنهم بحاجة الى قائد جماهيري وحزب واحد. وعندئذ سيطرت الديماغوجية السياسية على الجميع تقريباً، وانتهى العصر الليبرالي العربي وكذلك العهد العهد البرلماني القصير في مصر وسوريا وسواهما " (محمد أركون، م. س، ص).

يشير أركون الى أمر هام على الصعيدين الثقافي والاجتماعي انه التناقض الصارخ بين شريحتين: العامة/ والخاصة، البرجوازيون المثقفون/ والفلاحون، الطبقة الحاكمة/ والجماهير الشعبية الأمية والمهمّشة. كما في الماضي كذلك خلال عصر النهضة والتنبّه الى الحداثة، نرى الشعب مقسوماً الى مثقف حديث قادم من جامعات الغرب ومتحمّس لأفكاره يريد نقلها الى هنا، في المقابل هناك شعب بقي يراوح مكانه محافظاً على وضعه كما في العصور الماضية والزمن السابق. القسم الاول يتواجد في العواصم والمدن الكبرى، والقسم الثاني هو السواد الاعظم أو الجماهير الشعبية. أما النخب المتحضّرة، فهي منقسمة بدورها الى طرفين متواجهين أيضاً: هناك تيار تقليدي يتمثّل بأبرز رجال الدين من فقهاء وقضاة ومتصوفة، وتيار تحديثي ليبرالي يتمثّل بطه حسين وأبناء جيله. حلم التياران بتثقيف الشعب، إما بواسطة الاصلاح الديني مع محمد عبده وتلامذته، وإما بواسطة فلسفة التنوير والوضعية العلمية مع أتاتورك وباقي النخب التحديثية مثل طه حسين وقاسم أمين وسواهما...الخ بالاضافة الى المثقفين الأتراك.

يشير أركون الى أن الليبراليين المستغربين كما الاسلاميين كانوا متفقين على الاهداف الكبرى للنضال التحرري والوطني الذي أخذ حيّزاً كبيراً من تاريخ المجتمعات العربية والاسلامية منذ القرن التاسع عشر. هناك عاطفة قومية راحت تنتشر في مواجهة الاستعمار في مختلف الاوساط. وهناك أيضاً تلاقٍ وتداخل بين مختلف القوى الاجتماعية والثقافية حول فكرة القومية والوطنية مما أدّى الى نضج الانتفاضة الوحدوية بين الخمسينيات والستينيات في ما بعد. لقد تمّ التركيز أكثر على فكرة العروبة منه على الفكرة الاسلامية، لكن الفشل المريع الحاصل عام 1967 زعزع أركان الايديولوجيا الاشتراكية العربية، فتحوّلت بذلك الآمال المبنية على الرؤية العلمانية والقومية الى ساحة "الاسلام"، والايديولوجيات الاسلامية. يلحظ أركون هنا " أن الجواب " الاسلامي" على تحديات الحداثة المرئية عبر منظور الهيمنة الاستعمارية ثم إشكالية التنمية/ وسوء التنمية لسنوات الستينيات قد أبانا أنهما أكثر فعالية من الجواب السابق ( أي الناصرية والبعث ) سوسيولوجياً ( أي عددياً ) وايديولوجياً. وقد ازدادت فعاليتهما كلما أصبحت الظروف الاجتماعية والثقافية أكثر تحبيذاً للرؤيا التبشرية المهدوية وللحركات الدينية " (محمد ألاكون، الاسلام الاخلاق والسياسة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الانماء القومي، ط1، 1986، ص161).

في سياق نقده للفكر النهضوي يرى أركون أن مثقفي النهضة حاولوا أن يطبّقوا على تاريخ المجتمعات الاسلامية قِطعاً متبعثرة ومقطوعة عن سياقها من المنهجيات الاوروبية التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. نقل المثقفون الى لغاتهم ما تمكنوا من فهمه واستيعابه بعد انبهارهم بالحداثة. انهم قاموا بقطع فكر الحداثة الاوروبية عن سياقه الطبيعي لكي يزرعوه في سياق آخر مختلف. يشير مفكرنا الى أن المستشرقين قد صفقوا لتلامذتهم الذين اخذوا المنهجيات المنقولة عن اوروبا، وقلّدوا ما أنجزه أساتذتهم ، من دون أن يؤدّي ذلك الى " تأثير حاسم على كيفية فهم التراث الديني الاسلامي. ولو فعلوا ذلك لما انفجرت الحركات الاصولية الحالية بمثل هذه القوة والعنف" (محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س، ص 170).

من هنا يلحظ أركون في أكثر من موضع أنه لم تكن معرفة الليبراليين العرب بأوروبا دائماً صحيحة، أو عميقة، أو تاريخية بالفعل. لقد حاولوا ان يخصّبوا الفكر العربي والفكر الاسلامي، والحياة الاجتماعية والسياسية والفعالية الاقتصادية ببعض الافكار والاستعارات الانتقائية والمجتزأة من أوروبا الغربية. ان النخب الثقافية المحدودة العدد لم يُتَح لها " الوقت الكافي، وربما لم تكن تمتلك المقدرة الثقافية اللازمة من أجل إدخال الحداثة ودمجها في لحمة هذه المجتمعات الاسلامية ذات البنية العتيقة والبدائية. أقصد دمجها بمنأى عن السلطات التقليدبة وبمنأى عن الحضارة الغربية" (محمد أركون، الاسلام الاخلاق والسياسة، م. س، ص 164).

ان الفشل الذي لاقاه الفكر النهضوي، قد أدّى الى تراجع الليبرالية واحتلال الساحة من قبل الحركات الاسلامية. هذا ما يبيّنه النظر الى أرضية الواقع الراهن والبحث في العوامل التي أدّت الى انبثاق الحركات الاسلامية وانتشارها وتوسّعها بسرعة ملفتة. كذلك هناك فشلٌ آخر لا يقلّ خطورة عن الاول، يعود الى سياسات المغامرة للحزب الواحد والانظمة الديكتاتورية الحاكمة التي عُلّقت عليها الآمال بعد زوال الانتداب، فإذا بها تعجز عن حلّ الأزمات المتعدّدة التي كانت تهدّد المجتمعات العربية الاسلامية. تفاقم الوضع، واشتدّ الخناق، فانفجرت الأزمة على أكثر من صعيد.

يسعى اركون مراراً الى أن يسلّط الضوء وفي أكثر من موضع على الاسباب التي أثبتت فشل النهضة الفكرية، وكرّست بالتالي إخفاق الأنظمة الحاكمة، وأدّت أخيراً الى تسريع انتشارالحركات الاصولية.

ان هذه المشاكل وغيرها قد أثيرت من قبل مفكري عصر النهضة، على حدّ تعبير أركون، لكنها تُطرَح اليوم بشكل ملحّ أكثر لأن الأوضاع زادت تفاقماً وتدهوراً. انتشرت الايديولوجيا الطوباوية الوردية التي بإمكانها تحريك الجماهير في سبيل ردّ هجمة الغرب والوقوف سدّاً في وجه التحديات التي أوجدها. نتوقف في هذا السياق أيضاً عند النقد الذي يوجّهه أركون الى النهج المتّبع من قبل الحركات الاسلامية كما الى خطاباتها المعبّئة للجماهير، يجدها تتحرّك ضمن ازدواجية فاضحة تفصل بين الشعارات المطلَقة وحقيقة الفعل والواقع، كما أنها تحقق قطيعة بين الدعوة القرآنية وما تتضمّنه من تعالٍ وتنزيه وبين الممارسات السياسية الضيّقة بإسم الاسلام، نراه يقول: "إن هذه الحركات السياسية إذ ألقت على كاهل الاسلام مسؤولية كل الاعمال المنقذة والمخلّصة للشعب من همومه وآلامه قد خلقت نوعاً من الأقنوم الضخم الذي أنساها حتى الله مؤلّف هذا الدين بحسب المنظور الأكثر أرثوذكسية. وقد اختفى علم التيولوجيات والالهيات من الساحة الثقافية الاسلامية كما اختفى علم الاخلاق والفلسفة السياسية. لقد انقرض العلم والعقل والفكر الحر. (...) إن هذا الاسلام التاريخي السياسي قد أساء الى فكرة التعالي والتنزيه التي دشّنها القرآن في اللغة العربية، والتي تجلّت على مدار التاريخ في شخصيات روحية ذات ورع وزهد كبيرين. والواقع أن التحليل الدقيق يبيّن لنا أن هذا الاسلام الاقنومي ليس هو في نهاية المطاف الا خطاب الملجأ والملاذ، خطاب المأوى والمخبأ، خطاب الحجة والتعلّة، خطاب الوسيلة والعذر لتاريخ معقّد مليء بالمشاكل والآلام" (محمد أركون، م.س، ص 168).

يمكن القول انطلاقاً مما تقدّم أن قراءة أركون النقدية لما أنتجه فكر النهضة تلحظ ثلاثة أمور:

الامر الاول: يكمن في علمية انتقاء غير ممنهجة لأفكار الغرب والمنهجيات التي أنتجها من دون التأكّد من صوابية هذا الخيار، ومن دون إعداد مسبق للمتلقّي الذي ستُنقل اليه المفاهيم والافكار والمنهجيات الحديثة. فجاء الاسقاط غريباً ومقلقاً ومشوَّهاً إن على الصعيد السياسي أو الفكري.

الامر الثاني: ينحصر في كون المثقفين الذين ثأثروا بالفكر الغربي بعيدين عن مركز القرار، لم يتمكّنوا من القيام بالتغيير المنشود. أما الذين كانوا موظفين في خدمة الدولة، فلم يكن لديهم الجرأة الكافية للنقد وتطبيق الاصلاحات الضرورية.

الامر الثالث: ازدياد حالات الفقر، والاخفاقات العسكرية المتكرّرة والنكسات المخيّبة، جعل الشعوب العربية فريسة اليأس والاستسلام للواقع المرير، مما فسح المجال واسعاً لدخول خطاب متزمّت يدعو الى الخلاص عن طريق العودة الى الاصول ونبذ الحداثة وفكر التنوير. أن هذا الامر فتح الطريق واسعاً لكي تستغلّ الجماعات الاسلامية الفرصة وتملأ الساحة وتقيم فيها حتى يومنا هذا.

بين الوحي والتاريخ، أوبين المثال الأعلى والتطبيق، كذلك بين اللغة والفكر، أوبين اللفظ والمعنى، يكمن الحراك الفكري للمؤمنين، في أي دين آمنوا، والى اي تراث انتموا. ثنائيات ثوابت ترتكز عليها غالبية النصوص التي انتجها الفكر الديني عبر التاريخ، فهل من الممكن أن تتمّ مقاربة كل عنصر من هذه الثنائيات في علاقته مع الآخر وليس على حسابه؟ وبالتالي، هل يمكن ان يصل الفكر العربي الاسلامي المعاصر الى سبر أغوار هذه الثنائيات ومعالجتها كموضوعات فكرية معرفية بعيداً عن التشنّج والصراعات العقيمة؟

ان هذه الثوابت التي سيّرت منهج محمد أركون ووجهّت خطواته النقدية ليست غريبة عما أنتجه شربل داغر- الذي تتلمذ على أركون في السوربن- إن في مجال الأدب أوالشعر أوالفلسفة أوالجماليات. صحيح أن داغر اشتغل على النص الشعري والادبي في عصر النهضة، لكنه كما أركون توقّف عند تحليل العقل الذي أنتج النص، والظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي أحاطت به، والمجتمع الذي تلقّاه بعد إنتاجه. كلها أمور أخذها بالإعتبار داغر في مقاربته للخطاب النهضوي، وهو يلتقي هنا مع أركون عندما فكك التراث العربي الإسلامي ورصد آلية اشتغال العقل الذي أنتجه. ما الذي يميّز مقاربة داغر لما سبق وأفرزه الخطاب النهضوي؟ ما هي مرتكزات قراءته لتجربة النهضة؟ وكيف تجلّت بالتالي الحداثة في نصه الشعري؟

 

 

2- النهضة في نص شربل داغر

" لي وحدي، أن أكتب لقرّاء... وما أن يناموا، أشدّ على أجراس آذانهم؛

لي أن أتقافز أمام متفرّجين ساهمين في مناظر غائبة، في تعاليم الفقيد المعبود؛

أن أروي ما أشاء، بألسنة متبدّلة، وثياب بيضاء، تصلح لمن يقعدون في شهوة الانتظار، تحت شمس الطفولات...

سأكون شريكاً وإن من دون دعوة" (شربل داغر، ترانزيت، بيروت، دار النهضة العربية، ط1، 2009، ص 47 ).

أجل إن كاتب هذه السطور قد وفى بوعده، فهو شريك لنا، واكبنا في التفكير في النهضة، لكن مع فارق بسيط أنه هو من وجّه الدعوة. لماذا هذا النص تحديداً للبدء بالكلام على النهضة في فكر شربل داغر؟

أولاً: لأن الكتاب الذي استُلّت منه هذه الكلمات كتاب شعر موضوعه اللغة، والتجديد اللغوي، وهو يبحث في التشبيه والاستعارة من خلال قالب شعري حديث تجري أحداثه على نحوٍ ممسرح. من البديهي أنه لا نهضة من دون لغة عربية حديثة نحمّلها الافكار الادبية كما العلمية، وتواكب التطور في مختلف مجالاته. وجدنا أن الموضوع الذي يعالجه النص الشعري جديد، كذلك صيغة تقديمه. فالطرح يثير الاهتمام، والمقاربة نقدية بامتياز. يعلن الكاتب بشكل مقتضب ومعبّر أن " التشبيه قطار، والطير استعارة"، محللا مرجع " الحقيقة الاستعارية" ان شعراً أو فلسفة.

ثانياً: لأن عنوان الكتاب ملفت لما يتضمّنه من توصيف لواقع الفكر العربي منذ النهضة وحتى يومنا هذا. وكأننا فعلاً مجموعات من المسافرين قابعين في قاعة ترانزيت، لا نرحل، لا نصل، لا نستقر، بل نقبع متفرجين في ساحة الانتظار، تلفحنا " شمس الطفولات" التي لا تعرف أن تغيب لكي نبلغ سن الرشد. لسنا في مكان على الخارطة، أفعالنا مبنية على مستقبل نريده قريباً لكنه بعيد. لا نقيم في الماضي لأنه عبر، ولا نستوطن في الحاضر إذ ان أقدامنا لم تطأه بعد. نعيش في الانتظار، نترقّب، قد يأتي الفرج من مصدر ما، من إشارة ما، من لوح الكتروني ما رُسم عليه الاتجاه الذي يجب أن نعتمده.

ثالثاً: لأن هذا القول الذي استشهدنا به في البداية يتضمّن موقفاً ثائراً يرفض الاستسلام، أو الاتكال على أمر ما قد يأتي من خارج المفكر ليحثّه على العمل. "لي وحدي" يقول الكاتب في البداية، وكأن في هذه الوحدة إشارة الى وضع المفكّر العربي في الحقبة الراهنة. يغرق في العزلة، في الوحدة الصامتة التي تضجّ بالمشاريع الفكرية المتوهّجة. لا ينتظر دعوة من أحد، يسير في شغفه الفكري حتى النهاية، غير عابئ بدعم أحد. يوكل لنفسه مهمة شدّ آذان الآخرين التائهين في الغياب، علّ من هم نيام ينهضون ويتنبّهون الى كونهم يزدادون غرقاً في بحثهم وتنظيرهم حول "تعاليم الفقيد المعبود".

تجدر الاشارة هنا الى أن داغر كان قد أصدر عدة كتب في نطاق "النهضة"، منها:

- "العربية والتمدن: في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة" (دار النهار للنشر، بيروت، مع منشورات جامعة البلمند-لبنان، 2009)، و"الشعر العربي الحديث: القصيدة العصرية" (منتدى المعارف، بيروت، 2012)، و"الشعر العربي الحديث: كيان النص" (منتدى المعارف، بيروت، 2014). كما عمل على تحقيق "أول" رواية عربية: "وَي. إذن لست بإفرنجي" لخيل الخوري (1859-1860)، وضمنها دراسة وافية عن يدايات السرد في القرن التاسع عشر (دار الفارابي، بيروت، 2009). وأشرف على إصدار الكتابين التاليين: "العربية في لبنان" (منشورات جامعة البلمند، 1999)، و"عصر النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة" (المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2000)؛ فضلاً عن إشرافه العلمي على أكثر من مؤتمر دولي بخصوص "النهضة" في الجامعة الأميركية في بيروت، أو في جامعة البلمند.

ما ظهر في بحوثه الأدبية، ظهر كذلك في بحوثه الفنية: يكتب داغر في "مقدمة" خاصة بالطبعة الثانية من كتابه: "مذاهب الحسن: قراءة معجمية - تاريخية للفنون في العربية" (2013): "قد يبدو للبعض أن وضع كتاب مثل "مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية" اشتغالٌ في الماضي المحض، فيما هو ينطلق كذلك من أسئلة متجددة، ويعمل في نطاق رهاناتها كذلك. بل يمكن نسبة هذا العمل إلى نقد خطاب المثاقفة، إذ يعيد النظر في حاضر الكتابة العربية (والأجنبية) عن الفنون. وهو نقد يطاول وجهاً من أوجه ثقافة "النهضة" المستمرة حتى أيامنا هذه؛ وهي ثقافة لم تقرّْ وحسب بنظام المعارف والفنون والعلوم ذي الأساس الأوروبي، بل عملتْ كذلك على "استدخال" مترتبات الجدولة والتبويب (والتفسير أحياناً) التي خص بها هذا النظامُ ثقافةَ العرب (والمسلمين) الماضية.

يكفي للدلالة على هذا التغير الوقوف عند لفظين-عمادين في الثقافة العربية المعاصرة: لفظُ "الأدب" يعني حالياً إنتاجات اللغة، ولا سيما الشعر والنثر، فيما كان يعني قبل القرن التاسع عشر التربية والتعليم خصوصاً. هذا ما يمكن قوله في لفظ "الفن" أيضاً، إذ كان يعني الغصن والفرع من الشيء أو من العلم أو من الكتاب، قبل أن يعني في الثقافة العربية الراهنة الإنتاجات البصرية المستحسنة (الجميلة) تحديداً" (وزارة الثقافة الأردنية، عَمان، 2012).

وهو ما يُظهره في درسه لبدايات التصوير الحديث في البيئات العربية المختلفة، في كتابه: "العين واللوحة: المحترفات العربية" (المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، 2006) وفي غيره أيضاً إذ إن تبدلات إنتاج الصورة حصلت فيه، فضلاً عن أن الفن راح ينحو صوب "المعاينة والإظهار"، كما يحددهما.

ينتقد داغر في أكثر من كتاب وبحث مفهوم "النهضة" نفسه، مظهراً انه مفهوم "مضلِّل" بأكثر عن معنى: يشير إلى دلالات مفهومية ملتبسة بين "النهضة" (وفق المعنى الاوروبي)، و: "المثاقفة" و: "الحداثة"؛ كما أن تعيين "النهضة" مختلف تاريخياً بين بيئة عربية وأخرى، إذ إن ما شهدته بيئة جبل لبنان، على سبيل المثال، منذ مطالع القرن السادس عشر لم تعرفه بيئات عربية أخرى قبل بدايات القرن التاسع عشر في بعضها، أو في بدايات القرن العشرين، في بعضها الآخر.

كما يشدد داغر في مباحثه، بعد جورج بالندييه، على وجوب التمييز بين: "التحديث" (وهو ما عرفته "النهضة" العربية، بتفاوت وتقطع) و"الحداثة" (وهو ما لم تعرفه)، مؤكداً على أن خطاب "النهضة" خطاب تثاقفي، عمل على الحديث "عن"، لا على الحديث "في"، من جهة، وعلى أن السلوكات المصاحبة للخطاب لم تتناول الشروط الاقتصادية-الاجتماعية والشروط السياسية المناسبة لحدوث "النهضة"، من جهة ثانية.

إذا توقفنا عند قراءة داغر النقدية لخطاب الحداثيين اليوم يلفتنا أمر مهم يبيّنه بوضوح: انه خطاب عن الحداثة وليس فيها. يبرهن ذلك في كتابه "الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية". يذكر في خاتمته المفتوحة خلاصةَ ما توصّل اليه جهده البحثي في مجال الخطاب النهضوي من خلال القصيدة العصرية، ان هذا الخطاب جاء خطاباً عن الحداثة وليس فيها. يتعلّق الأمر بـ " خطاب صادر عن نزعة تثاقفية، تهدف الى الانفتاح والتواصل والتشبّه؛ وتستند الى القراءة، لا الى المعاينات والمكابدات والاحصاءات والخلاصات، المتبلورة عن إشغال الفكر في مسائله، أي الحراك التاريخي بأوجهه المختلفة. هكذا ما اختلف خطاب "الحداثيين"، اليوم، في بعضه على الأقل، عن خطاب "النهضويين" بالأمس؛ أي إنه خطاب تعريفي وتبشيري في آن؛ وما يقوله البعض، اليوم، عن الديمقراطية والمواطن والعولمة لا يختلف كثيراً، في صدوره وبنائه، عما كانه بالأمس خطاب المساواة والعصرية والتمدّن. وهو خطاب نهل، في هذه الأحوال، من مصادر الخطاب الحضاري - السياسي خصوصاً، من دون أن يقترب - الا في النادر - من مقومات الاقتصاد والاجتماع في تحريك عجلات التاريخ وأعمال البشر " (شربل داغر، الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية، بيروت، منتدى المعارف، ط1، 2012 ، ص 563).  

نجد داغر ينتقد في موضع آخر الفكر النهضوي لأنه لم يُعر اهتماماً لدراسة اللغة العربية بذاتها، وهو يميّز في هذا الاطار بين اللسان واللغة. الاوّل يعني " المجموع التاريخي والتراكمي للعربية"، بينما تعني اللغة: " التعيّن التاريخي والاجتماعي والكتابي للسان بعينه في نطاق استعمالي ( "لغة" محلّة أو منطقة، في عهد ما )، وهو أيضاً التعيّن الاسلوبي لهذا اللسان عند كاتب بعينه ( "لغة" أحمد فارس الشدياق، على سبيل المثال )" (شربل داغر، العربية والتمدّن، في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة، بيروت، دار النهار - منشورات جامعة البلمند، ط1، 2008، ص 9- 10).

يركّز الكاتب هنا على فعل "جريان اللغة" عبر التاريخ في أبنية مختلفة من خلال مصطلح يعتمد عليه بشكل رئيس في أبحاثه الادبية كما الفلسفية، هو " التداول ". من المهم أن تُدرَك اللغة حيث يتمّ استعمالها، في حراكها، في كيفية تداولها، حيث تدور، الامر الذي يحميها من التاعطي الخاطئ معها باعتبارها " نظاماً مجرّداً، يتألّف من كلمات وصِيغ تركيبية وقواعد وغيرها، (...)" (شربل داغر، م. ن، ص 10).

يلحظ داغر ان العربية بقيت أمراً منزّهاً عن "التاريخ والاستعمال"، بسبب تثبيتها في إطار محكم هو النص المنزل، الذي يعلو الزمن كما يعلو كل مستخدميها. إن هذا التعاطي المقدّس مع العربية كان له الاثر السلبي على اللغة نفسها وبالتالي على الفكر. أصبحت اللغة نتيجة هذه الممارسة " مسبوقة التطور، محجوزة الأفق"، كما أنها من جهة أخرى، " تبطِل أو تتجنّب، في أحسن الاحوال، أشكال التفاعل بين اليومي والاسلوبي، بين النحوي والجمالي" (شربل داغر، م. س، ص 9 ).

لقد التزم داغر فعلاً بالنقد الذي أشار اليه بخصوص كيفية التعاطي مع اللغة العربية عندما اشتغل على عصر النهضة. انهمّ بالبحث عمّا أصاب العربية من أحوال في هذا العصر، متوقفاً عند "العربية العثمانية" وعند كيفية الاعتياد عليها بالسليقة، كما عند اكتسابها من خلال التعليم والتدرّج في المراتب والشهادات. هذا ما جعله يعمل على تناول " البنى التحتية للعربية "، أي المدرسة والجامعة والمطبعة والاستهدافات المهنية والدوافع التي حفّزت على الاقبال على هذه المهن. كذلك نجده قد توقف عند نتائج التفاعل مع المتن الاجنبي بواسطة الترجمة، إن في المجال العلمي أو الادبي. مما أثر في كتب العلوم المعتمدة في المدارس، وفي الادب العصري. لم يشتغل على اللغة حاصراً إياها فقط في الحيّز الأدبي انما أيضاً في مجال المهن والثقافة والفضاء الاعتقادي. اجتهد في كتابه " العربية والتمدّن " منشغلاً في تقديم فهم "يبتعد عن الفهم "التقني لحاصل النهضة (متابعة الحدوثات الناشئة في النص )، ليُدرج النص، وكاتبه، والسياقات الاجتماعية والاعتقادية والمهنية الملازمة له، في حراك تاريخي، وجب التنبّه اليه، والتعرّف على حدوثه، وعلى موجباته ومفاعيله على الانسان والجماعة والثقافة ".( شربل داغر، م.س، ص 11 )

انطلاقاً مما سبق يعيد داغر النظر في مواقيت حصول النهضة فعلياً، ليرى أن الموعد الذي تمّ اقتراحه للنهضة مع حملة بونابرت على المشرق العربي، انه يعني مصر على الأرجح من دون سواها. كما أنه تحقق من أن مصطلح النهضة " قد يعني، واقعاً، المثاقفة، أي أشكال التفاعل مع الآداب والعلوم الغربية ( وأبعد منها، مع المعنى والقيمة )" ( شربل داغر، م.س، ص 11 )

يمكن أن نشير على صعيد آخر الى أن علاقة اللفظ بمسماه، وبمرجعه قد حدّدت عملية بحث داغر عما يسميه بـ "حمولات الحداثة"، إن على صعيد الخطاب الغربي، أو على صعيد الخطاب العربي. فتبدأ بذلك عملية الإستجواب، والمساءلة، في سبيل التوصل الى معرفة الفرق بين معنى الحداثة في شرق المتوسط وغربه. يبحث عن السبب وراء صدور الخطاب العربي: هل هي الفلسفة، أم الجمالية، أم الأدب، أم التثاقف، وما نتج عنه من "تشوّف وتماثل".

يتعمّد داغر من خلال صياغة أسئلته، المواكِبة عنده لفعل الكتابة حول النهضة والحداثة، المزيد من الإضاءة على إشكالية بحثه، ولفت الإنتباه اليها من أجل الإيضاح وتسهيل مهمّة الدخول الى نصه. يهدف انطلاقاً من مراجعته النقدية التأكد من صلابة القاعدة التي يقوم عليها " خطاب الحداثة الشعرية العربية، تمهيداً لإجراء مراجعة تحقيقية واسعة، تاريخية وفنية، في بيئات عربية مختلفة، ما يساعد في التأكّد من حصول "تغيرات" (أو من عدم حصولها) ، أو من حصولها وفق وتائر مختلفة بين بيئة عربية وأخرى، أو من طبيعة هذه التغيرات..." (شربل داغر، الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية، م. س، ص 12 )

يُلفت قارئ كتاب داغر " الشعر العربي الحديث، القصيدة العصرية" هذا الإلتباس الذي يشير اليه بين معاينة الحداثة وتعيينها. هناك "بلبلة معممة" حول لفظ "الحداثة" ذي " الوجود الطيفي والمتقطع في آن"، هل حدثت فعلا؟ هل يمكن ضبطها في لحظة تاريخية محددة من التاريخ؟

نجده يتوقف عند نصين معبّرين، الأول لإبراهيم اليازجي، والثاني لمحمد رشيد رضا، مشيراً الى أنه لم يتمّ ، في الحالتين، تأسيس خطاب في التقدّم إنما عن التقدّم. بتعبير آخر، إن " الخطاب لا يستقيم بنيانه ابتداء من علاقة تقوم على المعاينة والدرس في الوقائع والأفكار، أو في "الكلمات" ابتداءً من "الأشياء"، وإنما من علاقة مصدرها ذهني، اطلاعي، ثقافوي المنزع، ومآلها نفعي وتدبيري" (شربل داغر، م. س، ص28).

يتابع داغر تحليله معتبراً أن الدافع الأساس الذي أوجب هذا الخطاب لم يكن صادراً "عن حراك في الهيئة الإجتماعية، في كيفيات العيش والسلوك وإنتاج المنافع والحاجيات وغيرها، وإنما عن سجالات واقعة وذائعة في أجهزة المثقفين، في مواقع النفوذ المتقاطعة بين المثقفين وأجهزة الحكم والتأثير(الصحافة وغيرها)" (شربل داغر، م. س، ص28 ).

نودّ أن نشير في هذا السياق الى ان داغر يميز بين: "التمدن من فوق" و"التمدن من تحت"، إذ يشير الأول منهما إلى سياسات ومشروعات يتولاها الحكم، كما في تجربة محمد علي في مصر أو خير الدين التونسي في تونس، ويشير المفهوم الثاني إلى سياسات ومشروعات أخرى تكفلت بها جمعيات وأفراد من المجتمع الأهلي، وهو ما يرسم طبيعتين مختلفتين، بين محاسن ومساوىء، للتجربتين. كما نرى انه يبغي من خلال هذا التمييز ان يلفت الإنتباه الى كيفية دخول التحديث والتغيير الى المجتمعات العربية. فهو يميّز في النص أعلاه بين أمرين يمكن أن يؤدّيا الى إنتاج خطاب الحداثة. الأول يكمن في حراك "الهيئة الإجتماعية"، أي القاعدة الشعبية بكل أطيافها في اتجاه الحرية أوالتحديث أو ما هو جديد.أما الثاني فيكمن في حراك "أجهزة المثقفين" كما "أجهزة الحكم والتأثير"، أي النخبة التي تشكّل رأس الهرم في المجتمع. فدخول التحديث لم ينشأ تلقائياً من رغبة شعبية عبّرت عن نفسها في نمط سلوكي معيّن، أي من تحت الى فوق، أنما حدث الأمر نتيجة سجالات حصلت في ما بين المثقفين والحكام والصحافة. بتعبير آخر، إن المسار قد رُسم من فوق الى تحت، وليس العكس، مما يؤدّي الى واقع مغاير لما شهدته أوروبا على صعيد الدخول في الحداثة.

الملفت هنا أيضاً، هو التحدث عن "أجهزة المثقفين"، فالأذن العربية معتادة فقط على رصد التداول بعبارة "أجهزة الحكم"، وما تحدثه من رعبٍ في نفوس المواطنين. وما الكلام على أجهزةٍ للمثقفين إلا إشارة الى نوعٍ من السلطة، أوالقوة الفاعلة المرتبطة بالمعرفة، وهو يفترض أيضاً نوعاً من التنسيق بين الأفراد لكي يتمكّنوا من الفعل سوياً وتشكيل ما يشبه الأجهزة.

نجد في عمل داغر إعادة نظر شاملة، وعملية تحقق من ثوابت وأمور تلقيناها وقبلنا بها من دون مساءلة وكأنها أمر معطى يُقبل كحقيقة ثابتة. لقد قام بالتحقق من تاريخ التفاعل بين الشرق والغرب ومن أشكاله المتعدّدة، فاضطر الى الذهاب الى ما هو أبعد من " الموعد المصري المضروب " كمؤشر لبداية النهضة. فخرج من مصر واتجه الى بيروت وجبل لبنان، ومن ثم تثبّت من " حدوثات " ترجع الى بدايات القرن السادس عشر، إن في جبل لبنان أو حلب أو الموصل. بخاصة وأن الاتصال مع الغرب قد اتخذ طابعاً خاصاً يحدّده داغر بـ " صيغة العلاقات بين إرساليات غربية وأجهزة كنسية ورهبانية في الطوائف المسيحية الشرقية ". ان مسار الحدوثات تابع سيره في اتجاه باقي المدن والسكان في مراحل لاحقة، وفقاً لتبدّل الاطر الاجتماعية العربية والعثمانية لنقل المعرفة والثقافة والآداب. من هنا نجده يبحث في كيفية تبدّل هذه الأطر المذكورة إن في البلاط أو في المدرسة أو في الكتاب، كما يتوقف عند التبدّل الحاصل على مستوى التعليم، إذ تمّ الانتقال من الحلقة الدينية قرب المسجد أو الدير الى المدرسة. كما بحث في كيفية الانتقال في مجال نقل الثقافة من المخطوط أو المجلس أو المناظرة الى انتاج الكتاب الطباعي، مما أنتج دورة اقتصادية اجتماعية جديدة يحدّدها داغر بثلاثة أطراف: الكتاب والمطبعة والسوق.

يلحظ داغر في هذا السياق أمراً ملفتاً تحقق منه مفاده أن " التشبّه بـ "عصر النهضة" (الايطالي، الاوروبي) قد يشير الى أمنية، الى طموح في أحسن الأحوال، من دون أن يعين بالضرورة حاصل الحراك التاريخي في البيئات العربية المختلفة، عدا أنه قد يكون حاصلاً هشاً وضعيف المردودية، وله ارتكازات لا تكفل ديمومته بالضرورة " (شربل داغر، العربية والتمدن، م.س، ص 11).

بعد الإطلاع على خطاب النهضويين يخلص المؤلّف الى استنتاج نوع من الحركة الجدلية بين طرفين، أثّرت في تسيير خطوات هذا الخطاب: إنه في العمق خطاب "تباعد وتقارب" من الأوروبيين ومن حداثتهم، كما انه في الوقت عينه خطاب "تشبّه وتمايز"، يريد الشيء وضدّه في آن، وهو يهدف الى "الفصل بين الغير والنحن"، من خلال السعي الى الإستقلال. يرى في مساعي النهضويين˗ الإستقلاليين محاولة تسهّل الوصول الى استلام زمام الأمور مباشرة، وجعل العرب "قوّامين على أنفسهم". فالفوز بالإستقلال، بأي شكل أتى، وبأي وسيلة، كان هو الشرط الاساس."أن يصبح الإنسان قواماً على على جسده و"أطيافه"، على أفعاله وظنونه، وأن يصبح مدارُ حياة البشر رهناً بما يصنعونه ويتدبرونه" (شربل داغر، م. س، ص28 ).

يركّز داغر في تحليله على أن عملية الفصل التي أسهم في تحقيقها النهضويون قد جعلت من العرب "قوّامين على أنفسهم". جاء هذا الفصل من وجهة نظره على مستويين: الأول، فصل بين "الغير" و"النحن". أما الثاني، فهو فصلٌ بين السياسة العثمانية الذرائعية وتورّط الجماعات والجمعيات فيها. لقد تحقّق نتيجة هذه العملية واقع مغاير: باتت شروط تقدّم العرب ورفاهيتهم مرتبطة بما ينجزوه فعلا، وأصبح تحقيق المواجهة بينهم وبين أنفسهم أمراً ضرورياً لتظهير مفهومهم الخاص بالحداثة.

إن الأمر يتعلّق في نظره برصّد العلاقة بين "الأصل" و"الناتج"، أي بين الحداثة العربية وما نشأ عنها. يصف هذه العلاقة بالمراوحة بين أمرين متناقضين: "التتبّع والتشوّف" في آن. إذ انه في البداية مدح الخطابُ العربي الحداثة، وجعلها نموذجاً يُحتذى، أما فيما بعد فقام بهجائها انطلاقاً مما يحدث في الغرب. من هنا يطلق داغر العنان لأسئلته النقدية تمهيداً لما سيبرهنه، ونوجزه بما يلي: " أول ما تتسم به الحداثة هو انها لم تصدر عربياً، أو لم يرافقها تعبير فلسفي. وما جرى بعد وقت من مساعٍ في هذا المجال ظلّ ذا منزعٍ عرضي أو شرحي ، ولم يؤسّس لـ "لقول الفلسفي، بالعربية، اليوم". " وما أتحقق من وجوده فهو دراسات في "التراث"،(...)، قوامها انفراط الإيديولوجيات كتعبير عن "النزال"، وبلوغ الخطاب الإسلامي مبالغ نفوذ وتأثير جعلت "الكُتاب" يتراجعون ، ويتحولون أحياناً الى "فقهاء"، في الاسلوب على الأقل ، إن لم نقل في المضامين والأحكام، في بعض الأحوال" (شربل داغر، م.س، ص30-31).

 

  

خاتمة

هكذا نجد بعد التوقف عند كيفية قراءة داغر للنهضة أن إعادة النظر في ما سبق تقديمه على أنه خطاب نهضوي أمر في غاية الأهمية على الصعيد المنهجي. لقد حاول في أكثر من موضع أن يدخل الى "التمدّن من تحت"، من القاعدة، من المدرسة والمطبعة والكتاب وما أنتجه المجتمع في حراكه المعرفي خلال ما بات يُعرف بعصر النهضة. لم يتردّد في تسمية النهضة بالمثاقفة لأنها اقرب الى التبادل الثقافي بين ضفتي المتوسط، والخطابات المنتجة في هذا السياق تدور حول الحداثة من دون أن تنظر فيها، أن تسائلها، أوتخترق بنيتها المعرفية.                

أردتُ في ختام القسم المخصص لقراءة داغر خطاب النهضة أن أختم كما بدأت بنص عابق بالرموز ومفعمٌ بالمعنى، يفصح عن قدرة كل مفكر، إن شاء،ٍ أن يغوص في الحداثة فيفصّل ما يراه مناسباً، وينتج ويتألّق فيخترق التقليد، وينتفض ثائراً على التقوقع في مسيرة عنوانها خيانة الاجترار، واغتصاب نهج القياس على نموذج سبق والوقوع في التكرار. أردت أن أختم بنص من " ترانزيت "، لكن من دون تعليق كما فعلت بداية، بخاصة وأني وجدت ما يبرّر هذه القفزة في جزء من عبارة لداغر في مقدمة كتابه " العربية والتمدّن " يقول فيها: "إلا أن الدخول في العهد الجديد ينطلق من الإنسان ويتوجّه إليه (...)" (شربل داغر، العربية والتمدن...، م. س، ص 12).

يبقى الانسان في نهاية المطاف هو القيمة التي تشغل المفكر، والهدف الذي يسيّر بحثه حول النهضة أو الحداثة. هذا الانسان في نسخته العربية، بات فعلُ نهوضه وحراكه وثورته يتوارح بين المرتجى المحفِّز والواقع المخيّب، نهوضه وتحرره همّان رابضان على قلم العديد من المفكرين. لذلك من الصعب أن نتغاضى بعد الآن عن هذه النماذج النيّرة التي أحرزت قفزة في مسار الانتاج الفكري الحديث، بخاصة في مجال النقد والمساءلة وإعادة النظر بما هو شائع ومقبول. فما كتبه محمد أركون وشربل داغر مثلاً، ليس الا عبارة عن عيّنة من اختبارات علمية أخرى، وفسحة رحبة من نقد مجدٍ قام به كثيرون.

هذا الانسان الذي يسكن هاجس داغر كما أركون - الذي هو بدوره لم يتردّد في أن يكرّر عبارة التوحيدي في أكثر من مكان: "الانسان أشكل عليه الانسان"، وبحث في النزعة الانسية وفي الانسنة - نجد هذا الانسان في النص الذي اخترته كخاتمة لبحثي، يتمايل على وقع كلمات فيها من المشهدية الشعرية، والحداثة اللغوية ما يظهّر صورة متألّقة عما يمكن أن تصل اليه الحداثة الموقّعة مرّة أخرى بختم لبناني عربي.

يرتفع صوتٌ منفردٌ في العتمة معبّأ بالثورة ومفعمٌ بروح الانطلاق من دون إذن الى حيث يريد، يقول:

"أمحو الصور لكي أرى؛ والوضعيات لكي أتقدّم؛ والمحاورات لكي أسمع...

ذلك أنني نملة، لو طلبت التشبيه...

نملةٌ تسعى من دون أن يلحظها الكثيرون: تسعى تحت المخدّة وأنت مستلقٍ، أو على وجهك فتطردها على أنها حبةُ غُبار؛ وهي إن كانت صغيرة في فضاء فسيح فذلك لكي تنتبه الى ما يُخفى على غيرها، فترفع فوق قامتها الرقيقة ألطف الذرات في الممرات؛ تمرّ حيث يمرّون، وتشقى في نقل فتاتهم على أنه من جواهر التخمة.

هي تفحص - مثلي - الدقيق واللطيف، أقرب الى الشاعر الذي يستلّ الدلالة النادرة من ركام اللفظ أو من شرفاته الظليلة. تسعى جسورة، صبورة، بأناة الصائغ وحذاقته، فلا تأبه للضجيج الرتيب؛ يكفيـها - إذ تصل - تكون قد تعبت؛ وأن ما زرعته تُقبل على قطافه، وأنها الوديعة المؤجّلة لغيرها.

أنا مثلها، الا أنني أطير، إن شئتُ؛ وأنا القبضة على الشيء إذ يحلو للعين... أنا ومضة اللفظ إذ يقدح الحجر بالحجر.

لذلك أزهو من دون أن يبدو تعبي، وأغني من دون ألمي... أي الهدية بين عيون متذوّقيها " (شربل داغر، ترانزيت، م.س، ص 207 - 208 ).

... وبعد، يبقى لي أن أسأل عن العائق الذي يحول دون أن يقوم كل مفكر ومشتغل بالفلسفة من أن يجود بما تفيض به قدراته الذهنية ويملأ المكان بضجيج كلماته؟

ما الذي من شأنه أن يمنعنا من أن نواكب ونفعّل مجهودات كل من أركون وداغر، وغيرهما، ليُصار الى الاستفادة منها في قراءة تراثنا في مختلف حقباته وانتاجاته؟

بعد معاينة ما يحدث في واقعنا المأزوم، الى أي مدى يمكن للحراك العربي اليوم أن يستفيد من المراجعات النقدية للفكر النهضوي؟ الى متى ستبقى هذه المحاولات الجدية والمجدية غريبة عن عقل الشارع ومن يقود خطواته التحررية؟ وما هي بالتالي الامكانات المتاحة والفرص المتوفرة لتحقيق مثل هذه الخطوات المنهجية، ليس فقط على الصعيد الاكاديمي الصرف انما أيضاً على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي...ألخ؟

(في كتاب المؤتمر: "برفقة جرجي زيدان: النهضة في عهدة الحاضر"، منشورات جامعة البلمند، البلمند (شمال لبنان)، 2015، ص ص 349-371).