يقتفي اللبنانيّ شربل داغر، في روايته «شهوة الترجمان»، أثر الفرنسيّ أنطوان غالان (1646 - 1715) في يوميّاته وترجمته لـ«ألف ليلة وليلة»، وينبش في خفايا تلك الترجمة وملابساتها، عبر بطله الذي يكون ضليعاً في اللغات، ومتخصّصاً في علم الترجمة، فيتقصّى حياة غالان، ويفكّك علاقته باللغة العربيّة، ومدى الأمانة في ترجمته، وما إن كانت تلك الترجمة تقترب من التأليف، في بعض المواضع، أو من النقل بتصرُّف، كما يثبت في مواضع أخرى.

يستهلّ داغر- وهو صاحب عشرات المؤلَّفات في البحث والترجمة والتأليف - روايته بمقولتين عن فنّ الترجمة: الأولى للجاحظ، من كتابه «الحيوان»، والثانية للأرجنتيني ألبرتو مانغويل، من كتابه «تاريخ القراءة». ثمّ يقسّم روايته إلى سبعة فصول، هي على التوالي: قتيل في غابة الأرز، عراك في جسد واحد، ليالي الأنس في فيينا، الترجمان قيد الامتحان، أكواز صنوبر للبروفسور، شهرزاد تنهي ليلتها الأخيرة، «سكايب» بين فيرا وأليس.

يختار الزمن بين عامي 2013-2014، يرصد أحوال العالم العربيّ من فرنسا، من منظور بطله الأكاديميّ الذي يرحل إلى ستراسبورغ في منحة بحثيّة، ليتعرّف هناك، أكثر، إلى ماضي أجداده وبلده وثقافته.
الباحث الأكاديميّ الشابّ، الذي يفترض به أنّه يترك بيروت بكلّ تجاذباتها وتخبّطاتها وجماليّاتها خلفه، تراه يسعى إلى اكتشاف الماضي وفكّ شيفراته، في الوقت الذي ينشد فيه البحث عن مستقبله في مدينة ستراسبورغ، وهو الذي فاز بمنحة جامعيّة، يقوم فيها بالتدريس بضع ساعات أسبوعياً، بالإضافة إلى إجراء بحث في قضايا الترجمة وشؤونها.  

يقول إنّ الجامعة قَبِلَتْه في عدادها إثر مسابقة تقدمَ إليها أكثر من دكتور شابّ من المتعاملين مع «المكتب الإقليمي» للفرنكوفونية، وقضتْ باقتراح بحث يتمّ استكماله في فرنسا، خصوصاً في ستراسبورغ، فضلاً عن ثلاث ساعات تدريس أسبوعية وبعض المتابعات البحثية لعدد من الطلبة. ولقد اقترح على «دائرة الدراسات الشرقية» القيام ببحث يتناول سياسة الترجمة لدى المترجم الفرنسي أنطوان غالان، المترجم الأوروبي الأول لـ«ألف ليلة وليلة».  

يُخصّص للباحث اللبنانيّ مكتب بروفيسور فرنسي راحل، مؤخّراً، في الجامعة، يُعثَر، بين أوراقه، على اعترافات بخَطّ يده، تفيد بإقدامه على قتل أحدهم ليلة السابع من نيسان في العام 1961، دون سابق إصرار أو تعمُّد، على مبعدة بعض الأمتار من أحد المداخل المؤدِّية إلى غابة الأرز في شمال لبنان. ويعترف أنّه يكتب ذلك إثر عودته إلى باريس، في العاشر من الشهر نفسه، ومن السنة عينها، طالباً إجراء تحقيق عادل في الحادثة المشؤومة، والحادثة تقود الباحث الشابّ إلى أرشيف أسرته وبلده.

يُجري الكاتب، في روايته التي تقترب من البحث، تداخلاً بين مقاطع من عمله ومقاطع من رواية «التربية العاطفية» لغوستاف فلوبير. يعيد ترجمة بعضها، ويُجري إسقاطاً واقعياً على حياته والمنعطفات التي مرّت بها. يقول إنّه قام بـ«الدخول» إلى عالم غالان، من خلال أوراقه، وما كُتب عنه، وإنه خاصم غالان، وصالحه في أكثر من لحظة، في أكثر من مقطع، مثلما حصل له مع بعض شخصياته.

ينوّه الباحث إلى تصرّف غالان بالأصل، ويشير إلى «التنبيه»، الذي يتصدّر المجلَّد الأوّل لترجمته، وهو اعترافه- صراحةً- أنه لجأ إلى تعديلات في ما ترجم: «ما ابتعدنا عن النص إلا لمّا اقتضت ذلك اللياقةُ، بلزوم عدم التقيُّد به. إنّ المترجم يتفاخر بأن الأشخاص الذين يعرفون العرب، والذين يرغبون في مقارنة الأصل بالنسخة (المترجمة)، سيقرّون بأنه عَمِلَ- بحذر ولباقة- على إظهار العرب للفرنسيين، أي ما تطلبه لطائف لغتنا وزماننا».

كما يشير إلى أنّ غالان كان مدركاً واعياً لما يقوم به، لما يحتاجه ويقتضيه، من جهتَيْه: جهة العربية، وجهة الفرنسية والفرنسيين. وما يدركه، هو ما يبنيه مثل خيار، مثل سياسة له في عمله.

إنه يراقب المشهد الواصل من جهتَيْه، وهو في ذلك صاحب قرار، يحسن فيه النقل، ويحسن- خصوصاً- إيصال الحمولة بحسب مقتضيات الفرنسية، والفرنسيين، واللياقات، والزمن الفرنسي نفسه.

يتساءل داغر على لسان بطله: «أهي واجبات مهنية للترجمان لازمة لمهنته، أم هي خيارات يطلبها الترجمان بوصفها ما يناسب الأصل، بل سياق الاتصال نفسه؟ وهو- إذ يكون كذلك- يكون في موقع المؤلِّف العارف بعادات الكتابة وسياقاتها وشروطها، من جهة اللغة والذوق وحسن الاستقبال، أليس كذلك؟».

يتساءل الراوي عن حكايات «ألف ليلة وليلة»، وأنّ من يشغله فيها هو مترجمها، ومؤلِّفها، وليس ما تقوله الحكايات نفسها. يقول إنّ شهرزاد لا تفيدنا عن مصادر حكاياتها، كما لو أنها لسان جماعي وذاكرة عمومية، بل هي «حيلة» يتصيّدها أي حكواتي لرواية ما يشاء، على العكس منه، إذ إنه نَقَل حكاياته وشارك فيها، ويؤكّد أن شهرزاد الإلكترونية سقطت، هي الأخرى، وأنّه كان يظنّها ستفعل مثل شهرزاد، ولكن بطريقة مغايرة، جديدة.

يكشف صاحب «بدل عن ضائع» انعطافة بطله وميله من الترجمة إلى الكتابة، يستقصي عن الأزمنة والأمكنة والشخصيات، ثمّ ينقلها مترجماً أحوالها كتابةً، ويعتقد أنّ المترجم كتوم، فيما الراوي يروي، يُعبِّر، حتى في صورة صامتة، يُعبِّر بمجرَّد أن يقول، وأنّ الترجمان مشكوك في أمره دوماً، دائماً تحت المراقبة. يحتاج إلى إثبات أمانته وجدارته في كلّ لفظ، وبين لفظ وآخر تراه، وحده، تحت دائرة التشكيك أو العجز، وتراه ينقل رأياً لصديق له، يحدِّثه عن ضرورة تربية الإنسان وتثقيفه بالفنون، يؤكّد له أنّ الترجمة تفتح شهواتنا ومداركنا على كل ما يحيط باللغة، ليس نقلاً وحسب، وإنّما تأليفاً لها أيضاً.

يؤكّد أنّه خرج من الترجمة إلى الكتابة، بدليل أنّه أعاد كتابة ما سمع، وما كتبه غيره. وجد نفسه يسبح في ماء اللغة التي كان ينهل منها. يصفها بماء ولادته الجديدة، ماء ولادته الغامضة. ويؤكّد لنفسه ولقارئه أنّ الكتابة تستعيد ما كان قد ضاع، ما قد تبدَّد، بل تجعلها تحبّ حتى الموت نفسه، إذ يتيح لها أن تجمع ما لم تقوَ الأيّام على جمعه.

يتناصّ صاحب «وصيّة هابيل» في روايته مع الكاتب المغربيّ عبد الفتّاح كيليطو في روايته «أنبئوني بالرؤيا»، لاسيّما في الاشتغال على مسألة اقتفاء أثر «ألف ليلة وليلة»، وترجمة أنطوان غالان- بالتحديد- لها، كما أنّ بطليهما باحثان أكاديميّان ينبشان في خبايا التراث والفنون، وفي علاقة الترجمة والأدب والتاريخ والحقائق الروائية والبحثية والتاريخية، بعضها مع البعض الآخر، وكيف تمّ التعاطي مع عمل غالان من دون مساءلة واجبة أو مقاربة مفترضة.

«شهوة الترجمان» عبارة عن شهوات متناثرة، متناسلة، متسلسلة، تدور في حلقة من البحث عن إرواء الفضول، والاستلذاذ بالمعلومة، كما بالمتعة الحسية، هي جسور للعبور بين الروحي، والجسدي، والفكريّ، إكمال لبلورة الشخصية وإنضاجها على معارف وأسرار الداخل والخارج، الذات والآخر، اللغة وأفانينها، الكتابة وتجلّيّاتها، الكلمة وأصدائها، الصورة وآثارها، الصوت وتردّداته، التاريخ وتشعّباته، والهويّة وتداخلاتها وصراعاتها.

("مجلة الدوحة" الشهرية، الدوجة، العدد 94، آب-أغسطس 2015).