شربل داغر من الشعراء اللبنانيين الذي تنقلوا في غير منطقة، تنقلاً فرضته ظروف الحياة التي يعيشها مع مختلف أفراد عائلته. كتب الشعر والمقالة الصحفية والنقد، حتى استقرت به الحال أستاذاً جامعياً في البلمند. هذا لم يبعده عن مجال التأليف، لا بل استغرق فيه استغراقاً كلياً. أصدر الدواوين الآتية: فتات البياض، تخت شرقي، حابط ليل، إعراباً لشكل، لا تبحث عن معنى لعله يلقاك، تلدني كلماتي، ترانزيت، وليمة قمر وغيرها.
حول عالم شربل داغر، وعلاقته بالأفكار والأشياء التي حوله، كان لنا معه الحوار التالي:
- أين شربل داغر، اليوم؟
= حيث أعيش، وأعمل، وأسافر، وأحلم، وحيث أكتب خصوصاً. إقاماتي متعددة، موصولة ومتباعدة في الوقت عينه. عدا أن ما يجمعني في شتاتي موصول بخيط ممتد بين الانفعال والتفكر، بما حمله العمر من وعود وخيبات، وبما أتبينه من حراك قد يفضي إلى انتقالات داخلية، على الرغم من العنف والعسر في الخروج إلى حالات ما يسمى بـ"الثورة".
أعيش في زمن فردي، يخصني، وهو زمن افتراضي في أحوال عديدة، يقع بين الكلمة وظلالها، بيني وبين قارىء لا أعرف وجهاً له. هذا ما أجد فيه شيئاً من المتعة، إن لم يكن من الجدوى.
- الشعر هاجسك الإبداعي، يشغلك باستمرار. بعد هذه التجربة الطويلة، هل من جدوى؟
= الشعر هاجسي بدليل أنه رفيق عمري، تنفست وأتنفس فيه أينما كنت وكيفما كنت. فكيف إن ضاقت الأمكنة، وضعفَ منسوب الأمل. الشعر حياة أخرى، بل حيوات، جالب للدهشة والمتعة حتى حين يفيض بحزنه.
في بداياتي الشعرية كان جناح الشعر أسرع وأرفق من غيمة عابرة للوجود، قبل أن أتوقف عن كتابته إثر اندلاع الحرب في لبنان في نوع من المراجعة النقدية اللازمة في حسابي. وإذ عدت من جديد إلى كتابة الشعر، أصدرت أكثر من مجموعة، ونشرت عدة دور في أكثر من بلد عربي "مختارات" من شعري، بعد أن كتبت في تذييل مجموعتي الشعرية "حاطب ليل": "لذة الكتابة فيها". وهو ما يكفيني، في الفعل الشعري نفسه، في حدوثه، عند حدوثه، بعد أن تحققت من احتياج خارجي يكاد أن يكون معدوماً للشعر، سواء هنا أو هناك. بات صوت الشعر غائراً، على الرغم من أن الشعر العربي الحديث، في عدد كبير من أصواته وتجاربه، يتنوع ويتعدد ويتجدد، حتى إن بلداناً بعينها ما كانت تعرف غير شعر الفقهاء والبلاطيين الرتيب باتت تشهد بزوغ وتنامي حراك شعري لافت.
وحشة الشعر لا تدينه، بل تشير إلى خيارات ذوقية سارية تستنكف عن فنون لصالح فنون، فيما يحفل بعض الشعر بتجديدات تغني مشهد الفنون وتحييه بتشكلات جديدة.
الفنون تتغير، وتخفف من غلوائها الحداثية، وتعمل على إنتاج استهلاكية ثقافية وإبداعية مختلفة، قابلة للرواج السريع، على حساب فنون صعبة وتحتاج إلى ثقافة مزيدة لتذوقها. هذا ما لا يستجيب له بعض الشعر في نوع من المكابرة الجمالية ربما...
- كيف تنظر إلى الحب اليوم؟ هل خضت تجارب أودت بك إلى حكمة ما؟ أوضح ذلك.
= أنظر إلى الحب، بل أعيشه برغبة مزيدة فيه، حتى إن تعبير الحب لا يكفي إن لم يقترن باللذة نفسها. لهذا لا أعرف عن أي حكمة تتحدث، كما لو أن التوبة مستحسنة في غمار الرغبة. بالرغبة يحلو العيش، بل أتجدد طالما أنني أحسب الحب نوعاً من الولادة، من جهة، ودفعاً للموت المحيق، من جهة ثانية. ذلك إن اللذة تنصرف إلى هوسها، فلا تلتفت إلى الوراء.
أما الحكمة، بل الباكرة، على ما ذهبت إلى القول، فقد بلغتني مع الأيام الأولى في الحرب، ووجدتني أتحقق من نقلة أقدامي قبل أن تصبح خطوتي...
- هل تنصرف إلى القضايا اليومية انصرافاً كلياً، وهل يكون ذلك على حساب العمل الإبداعي؟
= بات يضيق العالم إذ نتقدم في السن، وتتحدد الاحتياجات والرغبات في صورة مزيدة، فضلاً عن إن انهمامي بما يشغلني، بما يثيرني ويحرضني، يخطف وقتي. هذا ما أختصره بالقول إنني أعيش كاتباً، بما تحتاجه الكتابة وأطلبه منها. أحاول أن أتخير في أيامي ما يجلب لي متعة وجدوى متخففاً – ما أمكنني - من الواجبات واللياقات.
- أنت أب مثالي. ماذا أضافت الأبوة لديك؟
= لا أعرف إن كنت أباً مثالياً. هذا ما لم تقله لي أبداً ابنتي الوحيدة. ما أعرفه هو أنني طلبت أن أكون أباً، ولابن وحيد، منذ دراستي الجامعية. وهو ما انتهيت إليه. ما عشته وكابدته هو صعوبة التواصل بين الوالد والابن، إذ إن عمراًَ يكون قيد الانقضاء فيما يشرع عمر آخر بالولادة والتجدد.
إلا أننا نقع أحياناً في الحياة، في الحوار، على ما يوحدنا في موقف، في خيار، في انفعال، ما يجعلنا كائنين راشدين، أقرب إلى صديقين من عمرين مختلفين.
- ما علاقتك بالخالق؟ وكيف تترجم هذه العلاقة؟
= ما يمكنني قوله هو أن لي علاقة بقيم ما، لم أنفك عنها منذ ولعي الأول بالسياسة، أو بثقافتي الدينية في سنوات العمر الأولى. هي تحركني، وهي خياري الراشد، أكثر مما تحرك من يقولون عن أنفسهم إنهم متدينون، وممارسون. ذلك أن التدين في بلادنا، على ما أتحقق منه، هو الشكل الذي تتجلى فيه السياسة وتمارس به من قبل جماعات لم تصل إلى تشكل الأفراد إلا في أعداد معدودة منها. وإلا كيف لنا أن نفسر كل هذه الكراهية، كل هذا العنف، بين أناس يجمعهم دين واحد أو مذهب واحد؟!
الخيارات هي ما أعمل عليه في صورة دائمة، إذ إنني أعتبر أن الإنسان يمكن بل يجب أن يكون محل بناء جديد لما يعتقد به ويعمل من أجله. الإنسان في نظري هو ابن نفسه بمعنى من المعاني، أو له أن يكون كذلك بدل أن يبقى ابناً لبنية راسخة في عنفها المخزون.
- هل ما يزال المبدع أمياً في المسائل التكنولوجية؟ كيف تتعامل معها؟
= لا يسعني القول بأنني متمرس في التكنولوجيات، خصوصاً وأنني لا أحسن تثبيت مسمار في حائط. بخلاف ما هي عليه علاقتي الباكرة بالحاسوب. فمنذ أواسط الثمانينيات في القرن الماضي انقدت إلى تعلم النقر الإلكتروني، وهو أداتي الكتابية وميداني، بل فضائي الذي أتنقل فيه بحرية ومتعة... فيما خلا ذلك أجدني أحياناً أخط في الهواء كلمات كما كنت ألهج بها في طفولتي.
- هناك موسيقي شهير، لم أعد أذكر اسمه، ترك الموسيقى وانصرف إلى الطعام إعداداً وأكلاً، باعتباره اللذة الأشهى. أين أنت من هذا الأمر؟
= أنا أختلف معه تماماً، لأنني لو كنت موسيقياً لما كنت تخليت عنها. أما الأكل فأنا أستذوقه منذ أن توقفت عن التدخين بقرار من طبيبي، ولكن ليس إلى درجة التخلي عن أي شيء. عدا أنني ضعيف العمل بأصابعي، فكيف بأن أكون حاذقاً في إعداد الأكل.
- ما مدى اهتمامك بالشأن السياسي. وكيف تنعكس السياسة على نفسيتك، وعلى إبداعك؟
= خفتَ انهمامي بالسياسة، بعد الانكشاف الدامي لها في اندلاع الحرب. وخصوصاً بعد أن تحولت السياسة إلى اصطفاف في قطعان، أو في صناديق تفاح، كما شبهتها في مقالة، لا تعلم وجهة انتقالها أبداً، وإنما السائق هو من يعرف ذلك، وهو ما يفعله بل يتصرف به... السياسة أعيشها بالمقابل، ولا سيما في لبنان، حيث يتنفس الناس السياسة ويعيشونها مثل احتراب كلامي وعصبي يومي. يكفي أن تنظر إلى كيفية قيادة الناس للسيارات... ما هو أفدح من ذلك هو ثقافة المراتب والمكانة والجاه، التي تعطب الوجدان بل السلوك والخيارات، وتحرك الدوافع وتملي القرارات، الفردية كما الجماعية...
تستوقفني هذه القدرة التي للناس على التصديق، على القبول، والتي هي في حسابي نوع من الاتكالية: اتكالية على الخصم في تدبيره للمؤمرات والخطط، واتكالية على "الزعيم" الذي يتكفل وحده بالسياسة.
السياسة موسيقى جانبية أو خلفية في نصوصي، وهي ما أتناوله في بعض قصائدي أحياناً بما يفيد عن تبرمي وتنكري لما أعايشه ويرزح فوقي، ويهدد أيامي، ويسد الأفق أمامي.
- لو عدت إلى البدايات هل تكرر تجربتك الإبداعية أم تنصرف إلى أمر آخر تعتبره أكثر أهمية وأكثر جدوى؟
= ندمت بالطبع على جملة قرارات لم أتخذها في حينها، وعلى غيرها مما اتخذته، في حياتي المهنية خصوصاً، وفي حياتي العاطفية أحياناً. إلا أنني مقيد في جسمي، في إمكاناته، في ما حصلته، فلا أقوى – حتى لو شئت - تبديلاً. ماذا لو أكون كذا أو كذا؟ ماذا لو أستعيد هذا الأمر أو ذاك؟ مجال الخيارات محدود، طالما أن ما أقوم به وأقوى عليه واقعاً هو الكتابة، لا أي شيء آخر. وهو ما يفسر – ربما – تعدد مجالات الكتابة في مؤلفاتي، بدل الانصراف إلى مهن مختلفة، أو إلى استدراك ما فاتني... الكتابة تتيح لي حيوات مختلفة.
- من أين تبدأً قراءة الجريدة؟ من أي قسم بالضبط؟ ولماذا؟
= لا أقرأ أي جريدة، إلا في الطائرة أحياناً، أو في بهو الفندق، في السفر، عند انتظار سيارة أجرة. مضى الزمن الذي كنت أنتظر في الشارع ميعاد وصول جريدة "الموند" الفرنسية إلى كشك الجرائد في "جادة الشانزيليزيه" حيث كنت أعمل...
ما خلا ذلك، أتفقد بعض الأخبار إلكترونياً، وأراجع ما يكتبه بعض الزملاء في هذه الجريدة أو تلك. أما ما أسعى إليه خصوصاً فهو أخبار اللاعب ليونيل ميسي، إذ إنه يعيدني إلى ولع الطفولة والدهشة الأولى على القيام بأفعال بسيطة وباهرة، بإيقاع القدمين فوق أرض صلبة. أفرح إذ يبدو لعب الكرة سهلاً فيما هو شديد الصعوبة. بين أقدام ميسي أكثر من قصيدة، وأكثر من دراما.
- هل ترى أن هناك مستقبلاً للشعر في ظل ثقافة "الواوا"؟
= لا يغضبني ما تعرفه هيفاء وهبي من شهرة حتى لو قالت كلمات واهية، وبصوت لا يصلح للغناء أبداً. لا يغضبني حضورها المدهش في الناس، لأن في كبتهم ما يفسر ألقها المشع. وتفرحني هيفاء أحياناً إذ تبقي للشهوة حصتها من العيش بعد أن استبد بالخطاب العام حديث الخطباء والدعاة الذين يُخْصون النساء قبل الرجال عن ملذاتهم في هذه الحياة.
- النشاط الثقافي من ندوات ومحاضرات وأمسيات غالباً ما يتم إحياؤه بحضور الأصدقاء والأقارب، أما الوجود الثقافي الحقيقي فوجود نادر. ماذا تقول؟
= سؤالك يجيب عما أريد قوله أحياناً لمن ينتقد غيابي في لبنان وعن وسائل الإعلام، بالمقارنة مع ما أقوم به من أنشطة في الخارج. ففي الخارج إن أقمت أمسية، أو وقعت كتاباً، فأنا لا أقوم بما أسميه: "بطاقة جلب"، في بلدي، إذ إن الجمهور يكون ممن تربطه بي صلة كتابة، أو صداقة عبر الكتابة.
- إلى متى ستظل تكتب؟
= أكتب، فيما أكتب، لكي أدفع الموت عني. وجوابي عن سؤالك متضمن بالتالي في ما أجبت.
(مجلة "الشراع"، بيروت، العدد 1603، 8 تموز-يوليو 2013).