يعود اللبناني شربل داغر في روايته الجديدة “ابنة بونابرت المصرية” إلى سنوات 1811-1825 ليؤرّخ لمرحلة هامّة ومفصليّة من تاريخ العالم الحديث، ومن تاريخ المنطقة العربية في ظلّ المتغيّرات التي كانت تتّخذ مسارات مختلفة، متضاربة في بعض الأحيان، وواقع التنقل بين مستعمر وآخر، والرضوخ للسلطة أو الانسياق وراءها ترغيباً أو ترهيباً.

هل كان ذاك عصر أنوار وتنوير أم كان عصر عتمات وتعتيم؟ هل تكشف الوثائق التاريخية عن الأسرار والألغاز الدفينة أم أنّ المذكّرات واليوميّات المفترضة هي أكثير تعبيراً عن خصوصيّة الحياة وأكثر قدرة على التقاط الدوافع الأساسيّة الكامنة وراء كثير من الممارسات والقرارات والأفعال؟ هل كان لنابليون ابنة مصريّة حقّاً؟ هل يرمز الروائيّ إلى أيّ بنوّة فكريّة ما؟

 

مشهد جديد ومختلف

ينتقل داغر في روايته (المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2016) بين عدد من المدن في الشرق والغرب، من مرسيليا وباريس إلى القاهرة والإسكندرية وعكا. يمضي مع البحّارة والأمراء والجنود والخدم في رحلاتهم إلى عوالمهم الجديدة، وكيف كانت تلك العوالم ترسم بداية مشهد غريب، حيث الثورة، التي بشّرت بالحرية، تحولت إلى وسيلة لتوطيد أركان إمبراطورية مستبدة مستعمرة، واستدرجت عنفاً لاحقاً ظلّت تداعياته مستطيلة باطّراد على مدار الزمن اللاحق.

داغر يجمع في روايته بين شخصيات تاريخية لها أثرها الكبير في التاريخ، ويتخيل محيطهم الذي يرسمه بطريقة لافتة، ويرسم لوحة المرحلة الزمنية بأدق الدقائق، حتى لكأن القارئ يشعر أنه أمام فيلم وثائقي يؤرخ الأحداث يوما بيوم.

يستعين داغر بوثائق تاريخية عن تلك الحقبة، كما يستعين ببعض الكتّاب الذين عايشوا تلك الأحداث وكتبوا عنها، مثل: جولي بييزوني في مرسيليا، وعبدالرحمن الجبرتي في القاهرة، والكاتب جوزف ميري بين باريس ومرسيليا، ويحاول عبر ذلك بناء عالم روائيّ يتّكئ على أحداث تاريخيّة معيّنة ويوميّات وشهادات بعينها ليمضي في تخيّل ما خفي وكشفه عبر استنطاق الشخصيات وتعبيرها عمّا يعترك في أعماقها.

يقتفي داغر آثار الآلاف من أنصار بونابرت العرب، ممن دعاهم للخروج مع جيشه، “جيش الشرق”، والانتقال معه إلى فرنسا، تحت حماية شعار الثورة الفرنسية: الحرية، والمساواة، والأخوة، فيتابعهم في حلّهم وترحالهم، في بدايتهم حياة جديدة وسط عالم فرنسي اعتبرهم غرباء، وما انفك يتعامل معهم على أساس مختلف، أبقاهم بصيغة ما بعيدين عن الاندماج، أو وضع عليهم قيوداً لامرئيّة.

 

المجزرة المكتومة

يصل خبر سقوط نابليون بونابرت (1769-1821) النهائيّ عن العرش لتكون هناك انتقامات من مناصريه وأتباعه، على مدى ثلاثة أيام متصلة، لأسباب مختلفة. وعلى طريقة روايات القرن التاسع عشر تقود مصادفة غريبة الراوي سنة 2015 إلى العثور على مخطوط مدفون في فندق بمرسيليا، ليغوص في التاريخ الذي ترصده اليوميات، والشخصيات التي تصوّرها، وإبحارها في قصور الأمراء والسلاطين بالموازاة مع أقبية الخدم والبسطاء.

يوثّق داغر عدداً من الأسماء والتفاصيل واليوميات التي تفيد بالتأريخ لمرسيليا والمستجدّات الطارئة عليها حينها، وكأنّه يقتفي أثر المكان وتأثيره المنعكس على سكّانه وزائريه، وكيف لعب دوراً في بلورة صورتهم عن أنفسهم وعالمهم في تلك الحقبة.

يستهل بفصل من “دفاتر” جولي بييزوني، ويحدد سنوات (1811-1815) لتكون مرتكزه الزمنيّ، وعتبة الغوص في طيّات الدفاتر والمذكّرات. تكتب بييزوني أنها وصلت إلى نسق الدفتر بعد طول ضياع وتردد، وأنها قررت الإخلاص له، وهو الذي لا يخون أبداً. تقول إنّ دفترها سفينتها، لكنها لا تنتقل إلى ضفاف جديدة، بل إلى ما سبق أن عايشتُه وشهدته بنفسها. تعود لكي تُدوِّن ما حدث، ما بقي في الذاكرة، ما بات جديراً بالحفظ: قررت أن يكون دفترها محفظتها الأثيرة. تكتب أن كل شيء بات أمامها مثل ورقة قراءة، أو ورقة كتابة. تقول إنها هكذا هي نوافذها، هكذا هي أوراق دفاترها، هكذا هي صفحات الجرائد... تكتب عما تلاحظ، عما تعايش، عما تحتفظ به من أخبار. هذا يسلّيها، ويعوض عن صمتها الذي يستبد بها، ولا سيما في الليل. هذا يبقيها حية، ذات جدوى.

كما تنقل الرواية أخبار جوزيف ميري، الروائي والصحافي، الذي يغرم بنور، الابنة التي تجهل حقيقة أمها ووالدها الغائبَين، والذي يعدو وراء قصة متخيلة، وراء تاريخ مدفون تحت رمال قرون وقرون، فيما لا ينتبه إلى قصة حبيبته المأسوية التي تحتاج إلى كتابة ربما أكثر من روايته. وتراه يقترح عليها كتابة عمل بتعاون معها، يقول لها : أتعرفين اللعبة الإنكليزية في الفروسية المسماة “steeple-chase”؟ ويستطرد في شرحه أنه في هذه اللعبة ينط الفارس على جواده فوق حواجز مختلفة، على أن المسافة قصيرة بين حاجز وآخر. ويقول لها إنّ هذا التقليد نقلَه أحدهم في إنكلترا إلى الأدب، فيتعاونُ أكثر من أديب على كتابة عمل روائي واحد، ويصرّح برغبته أنّ هذا ما يحلم به، وما يقترحُه عليها. وتكون هي في تلك الأثناء قد جلبت أوراقها وأوراق جولي وغيرهما لتسلمها له ويتكفل هو بنسجها وترتيبها.

 

هل كان لبونابرت ابنة ؟

يختم داغر روايته باستدراك هام، يكشف فيه جزءاً من خيوط اللعبة المحكمة والحبكة المتقنة، ونرى راويه يخاطب القارئ بطريقة مباشرة ويعترف له أن ما يقع تحت نظره لم يقترفه هو، وأنه إذ يدفعه إلى النشر فلم يكن مقصوده منه التجني على أحد. ففي واقع الأمر، أنه لم يكتب، وإنما ترجم وحسب ما عثر عليه – بالمصادفة - تحت الأرضية الخشبية للغرفة 213 في “فندق القديس بطرس وروما”، في مرسيليا.

كما يخلق نوعاً من التحفيز والتشويق لدى القارئ حين يشير إلى احتمال أن تكون ملكية الدفاتر تعود إلى نور المنصوري، المصرية، التي عاشت في الفندق نفسه، أو إلى أديب فرنسي مغمور، هو جوزف ميري. وينوّه في استدراكه إلى أن ملاحظة أيّ تشابه بين الوقائع المدرجة في العمل وبين غيرها، مما ورد في كتب معروفة أو منسية، أو بين أسماء أشخاص أو أمكنة أو شوارع مثبتة في الخرائط أو فوق الألسنة، ليس شبهاً، ولم يَرِد بمحض المصادفة، عدا أنه قام بنفسه بالتأكد من بعض وقائعها، وربما بصياغتها من جديد.

يجمع داغر في روايته بين شخصيات تاريخية لها أثرها الكبير في التاريخ، ويتخيّل محيطهم الذي يرسمه بطريقة لافتة، يرسم لوحة المرحلة الزمنية بأدق الدقائق، حتّى لكأنّ القارئ يشعر أنّه أمام فيلم وثائقيّ يؤرّخ الأحداث يوماً بيوم، ويصف التناقض الذي يقع فيه البشر بين عالمَين حين تتغيّر أحوالهم فجأة، ويجدون أنفسهم في معمعة حدث رهيب يرسم مساراً جديداً لحيواتهم.

ينبش صاحب “وصيّة هابيل” ركام التاريخ متخيّلاً ما يفترض أنّه قد حدث، أو كان مرشّحاً للحدوث، ويرتحل بأبطاله بين التخمين الروائيّ والتخييل التاريخيّ في مسعى لترميم العلاقة بين عالمين يبدوان للوهلة الأولى متنافرين متضادّين، فيبرز التعالقات الكثيرة بينهما والتداخلات المستمرّة منذ قرابة قرنين من الزمن.

(جريدة "العرب"، لندن، 23 تشرين الأول-أكتوبر، 2016).