قد يكون التكريم عند البعض لحظة للتجلي، لإثبات تميزٍ وتفوق، لإظهار "قصة نجاح" (حسب لغة هوليوود).
فيما يخصني، لا أحب التكريم، ولأكثر من سبب؛ منها أنه يجعلني أشعر بأنني قد شختُ وشختُ، وبأنني بتُّ جاهزًا للتوضيب في خانة، في سيرة، في متحف ذاكرة وغيرها. لا أحب التكريم لأنه يُخرجني – وإن معززًا – من شغف العمل وبهجة الحياة.

إلا أن في التكريم، بالمقابل، ما يساعد على السؤال، على القيام بجردة حساب، قد يُجريها الكاتب مع نفسه : بين ما كان عليه، وما أمل به، وما يصير عليه. وهي جردة حساب قد تطلبها الجماعة، أـو النخبة، أي أفراد منها، إذ قد تسأل بلسان هذا أو ذاك هذا الكاتبَ، ومن تطلَّعَ إلى أداء دور فيها، عمّا فعلَه، عمّا اقترحَه عليها.

فماذا فعلتَ، يا شربل ؟

 

صُدَف كما لو أنها ضرورات

قد يجد البعض في سيرته – إذا طلب رسمَ خطٍّ لها – أن ما يصلح لها، في الغالب، هو رسمُ مسار السكك الحديد للقطار، إذ ينطلق من نقطة ثابتة، ويتعرج ويتقدم، ثم يبلغ نقطة وصول، طبعًا من دون أن يخرج عن مساره : لا أعتقد أن هذه الصورة تناسب مساري.

لو طلبتُ استبيان هذا المسار لوجدت تقطعات أكيدة فيه؛ كما أن وقفات سريعة، ضرورية، تكفي لإظهار ذلك : لو كان لي أن أنطلق من تطلعاتي عشية الحرب في لبنان، لوجدتُ وحسب أملي في أن أكون شاعرًا... 
حتى بداياتي الصحفية، منذ العام 1974، في مجلة "الحرية" ومجلة "آفاق" ثم في جريدة "السفير"، كانت ممّا لم أطلبه، بل دعاني للقيام بهذا العمل أو ذاك صديق مقرَّب : فواز طرابلسي، أو المطران غرغوار حداد، أو سعد محيو.

هذا ما أصابني غداة الحرب أيضًا، إذ ما كنت أطمح ولا أرغب في مغادرة لبنان مطلقًا : كانت الحياة فيه بهيجة ومجزية... إلا أنني غادرته في نهايات صيف العام 1976، بعد أن أُكرهت عنفيًّا على الخروج منه؛ وهذا ما جعلني أكتب بعد ذلك عن كوني "مهجَّرًا" إلى فرنسا، لا مهاجرًا إليها.

هذا يصحُّ أيضًا في تحصيل الدكتوراه الأولى، في صيف العام 1982، في جامعة باريس الثالثة من السوربون الجديدة، إذ إنني لم أطمح إلى تحصيلها، بل لم أجد أمامي – للبقاء الشرعي في فرنسا - سوى استكمال دراستي. هذا ما جرى لي بعد تحصيلها كذلك، إذعرضَ عليَّ، في صيف العام 1982، أستاذي البروفسور محمد أركون – وقد كان رئيس دائرة العربية والإسلاميات - القيام بالتدريس في الجامعة، لكنني رفضتُ - أمام دهشته البالغة.

يمكنني أن أذكر أحداثًا ومعالم أخرى، تُظهر لكم بأنني لم أرسم خطًا لحياتي، ولم أبلغ تمامًا ما كنت أقصده. ولو شئتُ استخلاص عبرةٍ مما جرى، لتنبهتُ إلى أن الخيوط دقيقة بين الحلم والوهم، بين أن نسعى إلى أن نكون وبين أن نتوهم بأننا نكون...

حتى علاقاتي بالانتظام الحزبي - لمدة ست سنوات - كانت نوعًا من الحلم : الحلم بعالم مختلف، إلا أن فيها أيضًا – على ما تبينتُ – كثيرًا من التوهم.

 

بين القوة والقوت

مثل هذه الأحلام، والأوهام، حركتْ أيامي ورسمت لي آفاقًا مشرقة، إلا أنني كنت أطير فوق غيمة، فوق غيوم حبلى بالمطر، فيما تبدت لي – سريعًا - فوق أكثر من حاجز عسكري، لبناني وفلسطيني، أنني لست يساريًّا في حسابهم، بل وليد مذهب بعينه، وأن لا اسم لي يخصني تحديدًا، ولا وجه لي، ولا أفكار، ولا مسار، وإنما لا أعدو كوني نطفة مذهبية... كريهة بالطبع : تهاوتْ أحلام كثيرة، بل تمزقتْ وتحولتْ إلى جثة مشوهة في حرب. 

هكذا بلغتني الحكمة مبكرًا في مقتبل العمر : هددتني الحياة قبل أن أذوقها. 

كانت مسرحية دامية، وكشفت عما لم أكن أعلم بحقيقة وجوده، بعد أن. صدَّقت أننا متجهون صوب غدٍ علماني...
للأسف صدَّقتُ ما قرأتُ...! لم أعلم وقتها أن الموت يمكن أن يكون تجارة رابحة، وأن التسيُّد على القريب، قبل "العدو" المفترض، هو شاغلُ الجالسين على كراسيهم المهزوزة. ذلك أنني ما كنتُ قد تبينتُ حقيقة ثقافة القوة في المجتمع بدل الدستور والقانون. كنتُ أظنها ثقافة شاذة، كريهة، مما تمجُّه الأخلاق. بينما تكشفَ لي أن ثقافة القوة وأعرافها وسياساتها هي التي ترسم العلاقات وتوجِّهُها؛ وأن "الشعب" أو "الطبقات" تمارس، هي بدورها، ثقافة القوة (بين طاعة وانتفاع) مع الحاكمين بتلقائيةٍ ما كانت تصلني فوق مقاعد الدراسة.
جماعات، أو نخبٌ فيها خصوصًا، تمجِّد القوة، وتتعاطى بها، وإذا خضع بعض أفرادها لهذه القوة مرغمين فإنهم لا يقاومونها.

ما كنت أعلم الصلة الشديدة بين : القوة والقوت. القوة بتاء مربوطة، فيما تاء القوت مفتوحة، باسطة يديها أمام صلف الحياة. فكيف إن كان علينا أن نجعل من قوَّتنا وحشًا نربيه ليأكل غيره، بعد أن يسود عليه ! 
كانت القوة قوتَنا.

لم تكن المدرسة ولا الجامعة مربيتي، بل الحرب نفسها. حاولتُ ردَّها عني ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا : ردَّها بالإسهام في بناء معرفة أكيدة من جذورها، ومتمكنة من مناهجها. 

تأكدتُ، غداة الحرب، من خفة ثقافتنا... يبدو أنني لم أكن مهيئًا للحياة التي عشتُها. وأنني تدبرت العيش فيها بصعوبة، مع أوجاع كثيرة. لعل البعض يعتقد بأنني فشلت في عداد جيل مهزوم، وفي ما يقوله بعض الصحة من دون شك. أعددتُ وقمت بدروس وأعمال مع أعداد كثيرة من جيلي من دون أن تجد بالضرورة من يستقبلها في مجتمعنا. كنا أشبه بمثقفين وكُتاب لبيئات غير بيئاتنا، لا بمعنى أننا متفوقون عليها أو متقدمون، وإنما بمعنى عدم التناسب بيننا وبينها.

في عدم التناسب هذا، عشتُ، أعيش. في عدم التناسب هذا، كتبتُ، أكتب، وأجهد في استبيان معنى، مما قد يضيء، مثل "بصبوص بو فعالي"، في ليل المشهد. أتحدث عن ثقافة، وعن كتابة، فيما أجاب كثيرون، متزايدون : لا حاجة لنا بهذه كلها؛ هي مما يفيض عن حاجاتنا... فقد باتت الثقافة مقيمة في أدنى تمثيلاتها وتعبيراتها، في أدنى الإقبال عليها.

 

بين الأنا واللسان واللهو

أعرف أن كثيرين يجدون صعوبة في "ربط" الميادين التي أكتب فيها، حتى إن بعضهم يكتفي بأحدها وحسب مشددًا على أنني هذا من دون غيره. فيما أعتقد أحيانًا أنني أكثر من أنا واحدة تنشط في جسدي الضئيل والضيق. ولو شئتُ تقريب الصورة لقلتُ – بلغة السينما – إنني أقف في كتابتي أمام الكاميرا بما يُظهرني؛ وإنني أقف، في أحيان أخرى، وراء الكاميرا، فأديرها وأتبين غيري فيها، من دوني. كيف لا، وقد كتبتُ الشعر ودرستُه في آن؛ كتبتُ الرواية ودرستُها وحققتُها في أعمالها السردية العربية الأولى؛ درستُ فلسفة الفن وتاريخه، بين الفن الإسلامي والفن العربي الحديث؛ وبلغ بي الأمر، في السنوات الأخيرة، القيام بدرس التاريخ المحلي، ولا سيما تاريخ بلدتي : تنورين؛ كتبتُ بالعربية كما بالفرنسية، فيما لا أنقطع عن عيش العربية مع غيرها عبر الترجمة.

هذا كله لم ينتظم من دون جامعتي، جامعة البلمند، التي دعتني إلى العودة إلى لبنان، وإلى التدريس فيها : هذا ما اقترحه علي الصديق الدكتور جورج دورليان، وهذا ما ظهر في عقد عمل عرضَه عليَّ عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية حينها الدكتور جورج نحاس، وهذا ما أشرف عليه رئيس الجامعة وبانيها معالي الدكتور إيلي سالم. من دونها، ما كان لي أن أكتب ما كتبت، حتى إنها تبدو لي أحيانًا مثل جزيرة أمام المتوسط وفيه، فيما هي أكيدة في جذورها، وتشرف من تلتها الخضراء وتنظر في اتجاه الأفق.
"الضجر، ليس صديقي" : هذا ما أجبتُ به، ذات يوم، في مدينة آسفي المغربية، في ردٍّ تلقائي، على سؤال أحد الدارسين، إذ احتارَ في تحديدي. وهو ما لا أكتفي به اليوم، إذ إن ما يضجرني كثيرٌ، وما يسليني كثير، هو الآخر : رؤية مباراة لليونيل ميسي تعيدني إلى ملاعب طفولتي في "ملعب سحاقيان" قرب نهر بيروت؛ ورؤية فيلم بوليسي تعيدني، هي الأخرى، إلى أفلام ألفرد هيتشكوك البعيدة، التي كانت تخيفني وأنشدُّ إليها... لا أعيش لحظة واحدة في حياتي مصحوبة بسؤال : ماذا عليَّ أن أفعل الآن ؟ كيف لي أن أتسلى ؟ اللهو يُحييني ويُحرِّكني؛ هذا ما أكتشفُه عندما يعلو صوتي صراخَ بهجة في أكثر من وضع؛ أو حين ألتقي بصديق قديم إذ أجدني أحيانًا ألاكمُه أو أشاكسه كما في حوش مدرسي...

للهو تسمية بل مرتبة أخرى في الثقافة، في الكتابة، وهي : الشغف. هذا ما أعايشه منذ سنوات بعيدة، لمّا أُمضي أيامًا وساعات طويلة في "المكتبة الوطنية" بباريس، أو بين مخطوطات بالخط المغربي في الرباط، أو لمّا أُمسك دفتري، وبرفقة الكاميرا أحيانًا، لتتبعِ آثار خطية فوق صخور قرب غابة أرز تنورين؛ أو لمّا أنصرف إلى كتابة قصيدة بدقة نملة وبرغبة فراشة...

هذا الشغف حياة في الحياة، بل تسريع فيها ولها، على ما أظن. وهو مما جُبلت عليه في هذا المجتمع؛ إذ

أتبين ذلك، لمّا أكون في بغداد أو الرياض أو القاهرة أو طنجة أو سوسة وغيرها، ويبادرني أحدهم بالقول، مثل د. جابر عصفور، على سبيل المثال : "إيه الحيوية دي عند الشعب اللبناني !".

هذه الحيوية، في حسابي، خروج سابق من استكانة وبلادة اجتماعيتَين، كان فيها الفلاح أو التاجر مقيدَ الحركة من شيخه المحلي قبل الوالي العثماني، ومن سياسات القوة وأعرافها... هذه الحيوية لا تعدو كونها تعبيرات – ربما "برِّية" و"فجّة" - عن خروج عامي (من العامَّة) ظهرت بعض ملامحه، هنا، في عامِّية انطلياس وغيرها، وإن فشلت في خواتيمها السياسية. هذه الحيوية هي ما تحصَّلناه من قوت ورزق وأمل خارج الدولة نفسها، بل في الصراع معها أحيانًا. هذه الحيوية هي ما يجعل مجتمع الأهل والأفراد أقوى من الدولة، ما نجده في المطعم والفندق والمصرف والمستشفى والجامعة والمطبعة وغيرها.
هذه الحيوية، هذا التعدد، لا يعودان إليَّ حصرًا؛ هي مما تشرَّبتُه وعملتُ به تأثرًا بغيري، من دون شك. بل أجد أحيانًا أنني لم أكن "شاطرًا" مثل غيري من اللبنانيين الذين ينصرفون إلى نشاطات أخرى، بعد أن يجدوا أنها غير مربحة لهم. يبدو، فيما يخصني، أنني ممن صدَّقوا مثالَ الثقافة في لبنان الستينيات، أو لعلني تورطت كفاية، فيما لا أحسن عملًا آخر لكي أقوم به أو أنتقل إلى غيره. أفي هذا جدوى لي وجدوى لغيري ؟

 

 

خروج طلبًا لاتصال مختلف

لا يسعني الحكم على إنتاجي؛ ما في إمكاني فعلُه هو استبيان الدوافع والتطلعات التي قامت وراء هذه الخيارات. ذلك أن من يفحص ما كتبتُ – وهي كتبٌ زادت على الستين، مع عشرات البحوث المحكمة ومئات الدراسات والمحاضرات وآلاف المقالات الصحفية – يتحقق من أن لها خيارات، لها "خطط" وفق المعنى المعماري القديم.

هذا ما يصحُّ حتى في شعري، على الرغم من أن الشعر هو الأبعد تلاؤمًا، بين أصناف الكتابة، مع الخيار والخطة. فلو عدتُ إلى الكلمة الموجزة، الموضوعة على الغلاف الأخير من مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض"، لقرأتُ فيها أنني كنتُ أطمع في بناء "كتابة متعددة"، تَخرج على "أسلوبية قصيدة النثر". منذ شعري الأول، إذًا، طلبتُ من القصيدة الانصراف أو عدم التقيد بأساليب راجت فيها بين محمد الماغوط وأنسي الحاج، ما دام أن هذه القصيدة "برِّية"، في حسابي، ولم تستثمر – في ظني – حريتها المكتسَبة. من يَعُدْ إلى مجموعاتي التي فاقت العشر مجموعات في الشعر سيجد بأنني أسعى إلى تجريب الجمع بين الشعر والنثر في بناء شعري وجمالي واحد، ما يدلُّ على صعوبة هذا المسعى، وعلى أنه اجتراح يبتكر موازينه ومعادلاته، بل يقوم على إزاحة الحدود، وعلى ابتداع منطقة جمالية غير مسبوقة وغير مألوفة : هذا ما حاولتُه، هذا ما أسعى إليه...

هذا ما يجده الدارس بوضوح أشد لو اقترب من مشروعاتي في درس الشعر، أو السرد، أو الفن. فما هو نطنطةٌ وقفزٌ فوق حدود الشعر وأنواعه، يتحول، في البحث، إلى تحقيق مزيد ومدقِّق في ما هو عليه رسمُنا للثقافة العربية الحديثة، وللحداثة نفسها. وهو ما لا أفهم ضرورته، أو إقدامي عليه، إلا بعد انصرافي الشديد إلى فحص ثقافتنا، إلى التحقق من ارتكازات بنيتها المعتمَدة والمألوفة في الكتاب، ولا سيما في التعليم الجامعي والمأثور الثقافي. 

لو استعدتُ درسي للشعر العربي الحديث، لتحققتُ من كوني أسقطتُ العمل بالتاريخ المتوافر له، أي بلوغه الطور "الحديث" في أربعينيات القرن العشرين. فقد تبينتُ، في فحصي للشعر العربي في القرن التاسع عشر، حصول تغيرات شعرية فيه، اجتمعتْ في الكلام عن شعر "عصري"، بألسنة بطرس البستاني وخليل الخوري وسليمان البستاني وعيسى اسكندر المعلوف وجرجي زيدان وفرنسيس مراش وسليمان الصولة ومحمد سامي البارودي وجميل الزهاوي ومحمود قابادو وروفائيل بطي وغيره.  

أسقطَ النقدُ الشعري تاريخَ الشعر ما دام أنه انطلق دومًا من موروث العروض وحده... أسقطَه بل تلهَّى شعراء ونقاد، بعد صحفيين، طوال سنوات وعقود وحتى اليوم، بحادثة بائسة في نهاية المطاف : أظهرتْ القصيدة الحديثة في اليوم الفلاني أو في غيره بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ؟ حادثة بائسة، لأن ما أشاروا إليه من تغيير عند الشاعرين العراقيين حصل قبل عقود بعيدة على ذلك، أما ما يستحق الانتباه للدرس في شعرَيهما وشعر غيرهما فما انتبهوا إليه...

 

الاحتياج إلى التاريخ والفلسفة

هذا ما يصحُّ أيضًا في درس بدايات الرواية العربية، حيث إن الدرس جعل من رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل في العام 1910 أو 1911 الرواية العربية الأولى، وأسقطوا ما يزيد من خمسين سنة من السرد العربي الحديث... هذا ما عملتُ على التحقق منه تاريخيًّا وسرديًّا، فوجدتُ أن بداياتها السليمة وقعت بين الترجمة والتأليف منذ ستينيات القرن التاسع عشر مع خليل الخوري وسليم البستاني وفرنسيس مراش وغيرهم. وهو ما اجتمع في منظور "التمدن" وتجلياته وتعبيراته؛ وهو ما جعلني أميز بين "التمدن من فوق"، أي الذي تقوده سياسات الحكم، كما في تجربة محمد علي في مصر، و"التمدن من تحت"، أي الذي تُديرُه نخبٌ وأفراد في مجتمع الأهل، كما تحققَ في بيروت، إثر اجتماعها بمجتمع جبل لبنان، بعد ستينيات القرن التاسع عشر. 
أما بحثي في مسائل الفن الإسلامي والفن العربي الحديث فتعينَ وفق منظور آخر، وهو نقد الخطاب الغربي، بعد الأوروبي، في هذا الفن. فإذا كان درس الشعر العربي الحديث يستلزم التأكد من متانة بناء الخطاب العربي عن الشعر، فإن درس الفن يبتدىء، واقعًا، من الخطاب الأجنبي المخصص له، حيث إن بدايات الخطاب العربي في هذا الفن، لا ترقى إلى ما قبل الربع الثاني من القرن العشرين.
تحكمتْ بهذا الخطاب، قبل أي شيء آخر، "نفعيتُه"، إذ لبَّى احتياجات بناء "متن" في بلدان أوروبية مختلفة لثقافات الغير، بين مادية وثقافية. فكان أن ظهرَ الدارس في هيئة سارق أو غاصب لمواد الفن قبل أن يكون فاحصًا لها. هكذا انبنى خطاب الفن على الغصب، وعلى تسويغه، قبل بناء تاريخه ومعناه. وفي هذا ما هو أدهى من بناء "خطاب متخيَّل" عن الشرق، حسب إدوارد سعيد، إذ عنى بناء ثقافة مادية وفنية "مغتصبة" عن الغير؛ وهو ما يبقى في المتحف والمجموعة الخاصة، فلا يتبدد مثل أي خطاب متخيَّل. وهو ما أسميتُه بـ"الاستشراق الأبقى"...

هكذا انبنى هذا الخطاب تاليًا وفق مدارك ومعارف ومنظورات صادرة عن ثقافة الغالب إزاء المغلوب؛ عدا أن الدارس الغربي أحكمَ نظره على الفن المحلي من دون ثقافته الخاصة، ومن دون كتبه وقيمه، ما جعله فنًا "أثريًّا" بمعنى من المعاني، أي فنًا أشبه بلقى أثرية، من دون ثقافة وقيم واحتياجات أوجبتْه وفسرتْه. 
هذا ما قادني بالتالي إلى ما أسميه بلزوم "القراءة المركَّبة". وهي قراءة مزدوجة من جهة المدونة، بين محلية وأجنبية؛ وهي قراءة مركَّبة منهجيًّا، إذ تحتاج إلى عمليات متداخلة ومتباينة في الوقت عينه : تحتاج هذه القراءة، بداية، إلى نقد النقد، أي إلى نقد ما هو معمول به ومتَّبع في كل ميدان دراسي؛ وهو ما لا يستقيم من دون نقد المنهج بل المناهج، أي ما يحتاجه ويطلبه العمل التحليلي في هذا الميدان الدراسي أو ذاك؛ وهو ما ينتظم، وفق شرط ثالث وملازم للأولين، وهو السند التاريخي، إذ إنني وجدت أن بناء الخطاب لا يستقيم في صورة مناسبة إلا في ارتكازه التاريخي المناسب له.

هذا ما جعلني أدرس الخطاب مثل عالم آثار أحيانًا، أو مثل محقق جنائي، في أحوال غيرها، فيما كان عليَّ أن أدرسه وفق شروط المنهج المناسبة، بعد نقدها بالطبع، وبعد التحقق من جدواها. والأكيد، والخافي في الوقت عينه، هو أن هذه العمليات البحثية كلها قادتني صوب سبيلَين في الدرس لم أكن قد حصَّلتهما في سابق دراستي، وهما : التاريخ، والفلسفة. فمن دونهما لا يستقيم بحثي، ومن دونهما لا تتضح أبدًا معالم الخطة والخيارات في كل ميدان دراسي.

 

سأكون حصاة

لا أحب فيما يخصني التكريم، إذ يعني بطاقةَ موت داهم.

انتهيتُ، منذ سنوات، إلى أن ما يشدُّني إلى الكتابة حياة، حياة مزيدة. ما يؤجل الموت وما يراكم حيوات في الحياة نفسها. ذلك أنني إذ أكتب أحيا، وإذ أحيا أكتب. هذا ما أعايشه، إذ أدفع الجملة إلى حيث ما خطوتُ سابقًا : إلى اشتهاء كتابات ومعارف، متعددة ومتنوعة، عن فنون وعلوم متباينة. 

لعل الحرب صنعتْ ما أنا عليه، إذ جعلتني ضنينًا بالحياة، بما تتيحه، مثل نعمة إنقاذ متجددة، مثل متعة قانية الألوان.

يسكنني الموت، لدرجة أنه يفاجئني بحضوره الملح في شعري الأخير. أهو الشبح الذي يقترب مني ؟
لا أظن ذلك، إذ إنني لمّا سأغيب، لن أكون هنا لكي أكتب عني متحسرًا أمام الموت. ما خطر على بالي هو أنني أعايش، في حديثي عن الموت، مقادير الحياة التي عشتُها، والتي ما كان لي أن أعيشها بفعل المخاوف والتهديدات التي رافقتني في الحرب نفسها... إنها صحوة من خرج سالمًا من موت محيق... بعد أن عايش واقعًا، وتخيلًا، وانفعالًا، ما هو عليه إذ يقترب من الموت.

أحب هذه الأرض، فلا أرضى عنها بديلًا. ألهذا أسمِّي أحبتي بأسماء أشجار أزرعُها، أو زرعَها غيري في أرض عائلتي فأكتفي بتسميتها ؟

قد أكون كتابًا أو أكثر - لو شاؤوا؛ لو وجدوا في ما كتبت ما يساعد في تأكيد معرفتهم، بما يمكن أن تفعله الثقافة في تحسين وجودهم.

ما أعرفه هو أنني سأوزع حصى في مكان من دون أن أخبر بها أحدًا. سأكون هناك، في ما تفعله هذه الحصاة أو تلك، في ثبات نظرها إلى ما يحيط بها : أن تكون شريكة في النظر على الأقل. أن تبقى لها هذه المتعة...
سأكون هناك. سأكون هناك.

 

ختامًا، لا يسعني سوى التعبير عن شكري العميق لـ"الحركة الثقافية"، وللدكاترة : جورج ابي صالح، وعصام خليفة، وأنطوان سيف، ونايلة أبي نادر، وجورج دورليان، ومحمود أمهز، وسهام حرب، وأنطوان أبو زيد، وللأساتذة : كريستين زيمر، وليندا نصار، ودورين نصر، وغيث الحمود، وجوزف الشرقاوي : شكرًا للإعداد، وللشهادات والدراسات في نتاجي. وشكرا كبيرا للأستاذ الياس شاهين الذي أعد الفيلم في هذه المناسبة.

الشكر لمن كان اليد الثالثة، والعين الثالثة، في خطواتي الأولى، في حضانة داغر وسعيدة؛ ولماري، بيتي الثاني، المضيء دومًا بحبنا، ولهالة، التي باتت لها من الثقافة ما يُعين والدها في كثير مما يكتب...

الشكر لمن تعلمتُ منهم، وما أزال؛ ولطلابي الذين يعلمونني إذ أعلمهم...

الشكر لأصدقائي الصامتين والدافئين في حياتي كما لو أنهم غادروا مقاعدهم للتو قبل أن يعودوا إليها من جديد.
الشكر لقراء تابعوني وناقشوني وحملوني إلى حيث أقف اليوم... 

مثل شجرة ملتمة على نسغها، في تكوينها، وتتنفس بأفواه كثيرة.

(كلمة في تكريم شربل داغر، من "الحركة الثقافية"، في انطلياس –لبنان، في "المهرجان اللبناني للكتاب"، في 15-3-2018).