بمَ أبدأ كلامي في شربل داغر، القريب القريب في بيت القلب، "الغريب الجديد" دائمًا في بيت القصيدة ؟
لا أخفيكم أنّ الدخول إلى عوالمه يسير سلس في الظاهر، فهو منّا، وبيننا يعيش. الدخول فيه صعب المنعرجات، عصيّها، كصخور وطى حوب وجبال تنورين. فما هي نقاط الاستدلال، الظاهر منها والموارب ؟
لا أخفيكم أنّي فكّرت، تقصّيت، قرّرت، تراجعت، عاودت البحث.، أعدت القراءة علّي أكتشف مفتاحًا قد يصيب في أن نقرأ معًا مسار شربل الإبداعيّ، في أن نقرأ نتاجه الذاهب من الشعر والجماليّات إلى النقد والترجمة والرواية والبحث التاريخي. وبالتأكيد لن يتيسّر لي أن أكتب، في دقائق قليلة، "سيرة غيريّة أو "مختلسة" له ولإبداعه، وهو لا يحبّ السيرة.
ما هو ذلك الخيط الجامع في ما ائتلف واختلف ؟ ما هو ذاك النسغ الداخلي الذى سرى في أعطاف فتى من تنورين، وغذّى قوامه حتى صلب واستقام متشامخًا ؟
أهو تمثّل لصورة الموسوعي في أزمنة مضت ؟ يخوض في كلّ علم ويبرّز في كلّ ميدان ؟
أهو بحث عن تلك الصورة المشتهاة للموسوعيّ ذاك في زمننا الحاضر، زمن الإغراق في التخصّصيّة ؟ هل يصح أن نتبنّى مقولة الشاعر شوقي بزيع - المقتبسة من الشاعر أدونيس - بأن المكرّم، اليوم، هو "مفرد بصيغة الجمع" ؟
قد يكون الجواب أن نعم. شربل هو"مفرد بصيغة الجمع". غير أنّي ما سلّمت بهذه الفرضيّة، خاصّة أنّ المكرّم، اليوم، أمضى جلّ تجربته في فحص الماضي، لا ليعيد إنتاجه، لا ليقدّسه ويؤبّده، بل ليثور عليه ويتجاوزه.
وكانت اللّقيا. إنّها القلق المعرفيّ. القلق المعرفي هو الذي يسكن شربل الشخص والشاعر والناقد والروائي والمؤرّخ وعالم الجمال. وهو ما ينحو به منحى التجاوز والتخطّي، تجاوز الشخص/الإنسان لقدراته وطاقاته. تجاوز الذات الباحثة في الحقيقة وعنها.
في شربل الشخص-الفرد
ما مرّت سنة أو سنتان إلّا وأصدر ديوانًا شعريّا أو اثنين أحيانًا ؟ ماذا خبّأت عنّا يا شربل من السنتين الماضيتين ؟ نحن ننتظر...
هل اكتفى شربل بإبداع واحد في السنوات التي أوردت؟ أو تظنون أنه لم يتجاوز طاقاته الجسديّة والفكريّة ؟ لا. بعض سنوات تأتينا بالجواب (مثلًا في العام 2001 أصدر ديوانه "حاطب ليل"، وترجم ريلكيه، وعرض مختارات من شعر أندريه شديد، وشارك في إعداد فيلم عن العالم الإسلامي؛ وأصدر في العام 2004 ديوان "إعرابًا لشكل" مع مؤلّف بجزئين، بعنوان "الفنّ والشرق" وشارك في كتاب "منارات الثقافة العربيّة"...
لن أكمل ما أنجز في 2009 أو 2012 أو 2015 أو 2016 ... أوليس، في ما أسلفت، تجاوز لطاقات فرد... فرد كانت له إضافات في غير مجال، ناهيكم عن العمل الإداريّ والأكاديمي الخاص والثقافي العام.
ماذا عن الخوض في مشاريع تأسيسيّة عن اللّغة العربيّة- العرب- تاريخ تنورين-الشعر-الرواية ؟ يكفي أن نلقي نظرة أوّليّة على منشورات جامعة البلمند وعلى غيرها من مراكز نشر الفكر والأدب والثقافة...
شربل الهويّات الأخرى
شربل، ذلك المسكون بالقلق المعرفيّ ساءل تاريخ الرواية في عالمنا العربي. نقّب، فحص وتفحّص، دقّق وتحقّق من أنّ خليل الخوري هو مؤسّس الرواية في هذا العالم.
ذلك المسكون بالقلق المعرفيّ، ساءل النقد، نقد الشعر. كان له فيه عدّة مؤلفات (الشعر العربيّ الحديث: القصيدة العصريّة-الشعر العربيّ الحديث: كيان النصّ، الشعر العربيّ الحديث: القصيدة المنثورة، الشعر العربيّ الحديث: قصيدة النثر)... هكا أعاد قراءة تاريخ التجديد الشعريّ.
نظر في المصطلحات، ما كان منها سائدًا في أثناء التجربة، وما ساد في خطاب النقّاد. اجترح تسميات أخرى. اقترح مقاربات مغايرة للسائد. أجرى حفريّات في الشعريّة العربيّة. كشف فقر الأبحاث السابقة للحس التاريخيّ، فحقّب الشعر العربي. قال بـ"القصيدة بالنثر". أثنى على شكلها المفتوح على احتمالات شتّى : القصيدة هذه، أعادت - في نظره - المعنى الخفيّ للكلمات؛ أعادت للّغة حيويّة إبداعيّة كانت على وشك أن تموت، وأكّدت على الزمن الفرديّ للشعر.
غير أنّه ما اكتفى، فتساءل : كيف يمكن الحديث عن مستقبل هذه القصيدة ؟ فأشار إلى "عطب مركزيّ" في التناول هو أنّ "ماضيها مطويّ من دون تفقدّ، وحاضرها لا يزال محلّ "حوربة" و"تخندق" في غالبه". راح يسائل الآداب الغربيّة والأدبيّات النقديّة هناك. عرّج على المستجدّات التكنولوجيّة (الحاسوب والإنترنت) في مفاعيلها على القصيدة بالنثر. راح يسأل هل يمكن مقاربتها بالمنظور السابق للشعر والقصيدة ؟
لقد فتحت ياشربل آفاقًا في تناول الشعر، وحرّضتنا على الدراسة والتقصّي.
ذلك المسكون بالقلق المعرفيّ، ساءل الجماليّة/ت : فـ"مذاهب الحسن : قراءة معجميّة تاريخيّة للفنون في العربيّة" هو الدكتوراه الثانية له. ولولا هذا القلق المعرفي، لما كان شربل قد أكبّ على معجم قديم، هو معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، يستقرىء فيه مذاهب الحسن من منظور عربيّ قديم، باحثًا عن العلاقة بين اللّغة والفكر والجمال، مناقشًا العلاقة الملتبسة في ما بينها، كاشفًا عن مواطن الجماليّة في ما يتخطّى الغناء والشعر إلى الدار والشارة والدمية والكتابة، في ما يتخطّى الفنون- كما نعرفها اليوم- إلى المكان إلى العمران.
مسكون أنت، يا شربل، بالأسئلة. في الكتابة التاريخيّة : انطلاقتك جاءت من همّ ثقافيّ وسياسيّ. وأسئلة المستقبل إنّما هي التي أرّقتك. من المستقبل أقدمت تسائل الحاضر والماضي، أقدمت تستبين الحراك السياسيّ، وتغوص في آليّات انبناء السلطة السياسيّة ورسم مساراتها في القرن التاسع عشر "بما فيه\ها من توتّرات وانفتاحات وتعثرات وانسادادات...". قراءتك كانت القراءة التاريخيّة الموصولة بسياقاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. قراءتك مغايرة، جديدة، اتّسمت بالدقّة الأكاديميّة، والامانة العلميّة. مازها حسّ نقديّ عالٍ، ما أطمأنّ لوفرة المصادر التي كوّنت منها المدوّنات، بل شرع في التفحّص والاستزادة في التفحّص؛ وشرع في المقابلة والمساءلة والغربلة... شرع في التقصّي.
مسكون أنت بالأسئلة، يا شربل. في الشعر، تقول : "لن أجد جذعًا لقوامي أفضل من الشعر". وفي موضع آخر تقول : "الشعر هو نداء الحياة وسط هذا العنف (...) وهذه الكراهيّة"؛ وتقول : "واحتياجي لكتابة القصيدة يصدر عن شاغل كيانيّ ووجوديّ".
إذ تقول : "القصيدة هي ظلّي في مساء الوجود"، و"النظر إلى الورقة" مثل "من يخاطب نفسه في عتمة نفسه، في سرّه، في قاعة هواجسه ومباهجه وشواغله"؛ وتضيف : "القصيدة هي التي تجمعني في شتاتي، في توزّعي، في تغيّري"، فإنّك إنّما تقول "ذاتك" المفردة. لذا، أنت تلهو باللّغة لتخرجها من مألوف باهت لتستحيل برقًا... أنت تبتكر مغامرتك الشعريّة. ترحل دائمًا في فضاء المعنى لأنّه، "في غمزة جملة، ما يجعل الكون يصير لهنيهة غير ما كان، غير ما يمكن أن يكون عليه".
أنت شاسع، يا شربل، ونحن لا نعرفك... في معرفتك نحن مقصّرون...
شربل داغر، أنت لا تني تنجب نفسك. وأنت، لا تني تنجبنا.
(كلمة في تكريم شربل داغر، "الحركة الثقافية"، انطلياس (لبنان)، 15-3-2018).