إن دراسة أي حضارة إنسانية بصورة متكاملة، يجب أن يمر بمحطة النظر في تاريخها الإبداعي، وينطبق ذلك كله على دراسة أي شعب أو أمة أو عرق. فالفن هو أرقى وسائل التعبير التي أتيحت للإنسان، سواء كان ذلك الفن ينطق بصورة مباشرة، وتكاد تقترب من السذاجة، فيأتي كمجرد تسجيل أو تدوين يتسم بالبلاغة الحسية للإنسان، أو كان يرتفع بالتجريد إلى حدود استفزاز مخيلته وتحفيز ذهنه. إلا أن دراسة تاريخ الفن على المستوى الجمعي، أي على مستوى شعب معين، فهي مسألة لا تخلو أيضا من التعامل مع تتبع مراحل التطور التي يشهدها أي شعب، ومجمل الظروف السياسية والاجتماعية والمادية. فالحضارة في دورة حياتها، وفي مراحل النشوء والصعود والنضوج والانحدار والانحطاط، تتخذ مواقف متباينة تجاه الفنون المختلفة. كما أن المنتج الفني يتغير شكله ومضمونه في كل مرحلة، كما لا يجب الفصل بين الفن وبين العوامل البيئية التي تحيط بالإنسان. فالفنون التي تتميز بها المناطق النهرية، المعتمدة على الزراعة، تختلف عن الفنون السائدة في المناطق الصحراوية الرعوية، والأمر نفسه، في التباين بين صور التعبير الفني بين المدينة الكبيرة وبين الحواشي القروية والريفية. والنتيجة أن الفن ليس أمرا منفصلا عن الحياة، ولكنه آلية إنسانية مرتبطة بصورة جذرية بمعطيات الحياة الإنسانية وظروفها المختلفة.
إن تاريخ الفن يعتبر من أحدث مجالات التأريخ التي أخذ يهتم بها العاملون في مجالي التاريخ والنقد ودراسات الحضارة والإنسان. فبينما كان النظر في تاريخ أي مجموعة إنسانية يتركز على الحدث السياسي وظواهره، مثل الحروب والكوارث والفتوحات والثورات، فإن النظر اليوم يتركز على الجوانب الاجتماعية، ويمكن أن يرتبط الاهتمام بتاريخ الفن بالفورة التي حدثت في علوم الأنثروبولوجيا، وكذلك التأطير المعرفي لعلم الجمال، وهو الحقل الفلسفي والعلمي الذي أخذ يفرض نفسه بصورة مستقلة على الأوساط الفكرية والأكاديمية منذ القرن الثامن عشر، وبالتالي فالمسألة تتجاوز مجرد رصد التطورات التي تحدث على أشكال الفنون، كالانتقال مثلا من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة، ومن ثم الشعر الحر، وبعض المعالم التي وجدت على طريق التطور في الشكل الشعري، مثل الموشح الأندلسي والسير الملحمية. والأمر نفسه بالنسبة للفنون البصرية التي أخذت تنتقل من التصوير المباشر للعالم والأشياء، حتى كانت المطابقة بين اللوحة الفنية والمشهد الطبيعي، هي غاية الاتقان والرقي الفني، ليصبح القدرة على التعبير من خلال التقنيات التكعيبية والسوريالية هو المذهب الفني السائد، وذلك لم يكن لمجرد اعتبارات فنية أو جمالية بحتة، وإنما ارتبط في حالة الشعر العربي بمخالطة الشعوب الأخرى مثل الفرس والقوط في أسبانيا، وكان متعلقا بالثورات الفكرية والاجتماعية في أوروبا في حالة تتبع تاريخ الفنون البصرية.

بين المعجمي والفني
كتاب شربل داغر ("مذاهب الحُسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية"، طبعة ثانية، وزارة الثقافة، عَمان، 2012)، هو موسوعة تتبعت الفنون العربية منذ عصورها القديمة، من خلال عملية موازاة للتعبيرات اللغوية المتعلقة بجوانب الحياة الفنية في البيئة العربية. والكتاب أخذ في عملية تأصيل اللفظة لكل ظاهرة فنية، وتتبع تطورها، وذلك لتعيين التغيرات التي طرأت على كل مجال فني بين مرحلة وأخرى. فيبدأ داغر من الدار، والظاهرة العمرانية، وتقاطعها مع فكرة التوطن والتمدن، وكذلك الانتقال الحضاري الواضح من السكن في الخيام والبادية، نحو المدينة المتحضرة والمركزية، وهو الأمر الذي أدى إلى تزايد التعقيد في المنزل وتعدد صوره، والتفنن في العمران. ويأتي الفصل الثاني من الكتاب متعلقا بالصوت، وفيه يتابع داغر ظاهرة الغناء منذ عصر ما قبل الإسلام، والجدل الفقهي حول الغناء، ويفسر بعضا من التباينات في وجهات النظر التي سادت حول الغناء في سياقها التاريخي المرتبط بوضع الدولة الإسلامية، كما ويدرس الغناء العربي في مرحلة انفتاحه وتأثره بالموسيقى الفارسية. وفي الفصل الثالث يتعرض للشعر الذي يعتبر أهم الفنون العربية وأكثرها حيوية بما تحصل عليه من تقدير وعناية، ويحاول أن يبحث في الأصول التاريخية للشعر العربي، ومسألة تدوينه ونقله ونسبته.
ينتقل داغر بعد ذلك لدراسة الدمية، ويبدأ منذ وجود الأصنام التي لم تقتصر على كونها موضوعا للدين والعقيدة قبل الإسلام، ولكنها حملت جوانب فنية لا يمكن تجاهلها، وكذلك يتتبع تطور الفنون البصرية في الدولة الإسلامية والتي وصلت إلى ذروتها مع التفنن في بناء المساجد ودور العبادة وتزيينها، وهو الأمر الذي تطلب نهضة كبيرة حتى في أدوات الرسم وتقنياته. وفي الفصل الخامس يتعرض تحت عنوان الشارة للملابس والأزياء وهو الجانب الذي تأثر كثيرا بالتفاعل مع الأمم الأخرى، وحتى الخروج من البيئة الصحراوية للجزيرة العربية نحو بيئات جديدة مختلفة مناخيا، كما ارتبطت الملابس بالميل للتأنق في مرحلة الصعود الإسلامي مقابل البساطة التي كانت معروفة لدى القبائل العربية قبل الإسلام. وأخيراً، فإن شربل يتوقف عند الكتابة والتطورات الكبيرة التي شهدتها بعد أن انحصرت في تدوين بعض الرقائق والصحف لتتحول إلى صناعة متكاملة ومنضبطة في مرحلة الازدهار. وأخيرا يتعامل داغر مع الصناعات المختلفة وهي الحرف مثل النجارة والعطارة والتي انتقلت من مجرد المعالجة البسيطة للمواد لصناعة مستلزمات الحياة، لتغدو أحد معالم التفنن والتجويد بإدخال مفهوم الجمالية للأعمال المنجزة من قبل أصحاب الصناعات المختلفة. ويمضي داغر في مقدمته وفصوله الختامية لوضع إطار منهجي متكامل لتعامله مع موضوع تاريخية الفنون العربية واعتماده على المصادر المعجمية واللغوية في دراسته لتطور الألفاظ ونشوئها، مع توظيفه للأدوات المختلفة للبحث في تاريخ الفن وتوسعه في التفسير والتحليل لمسارات تطور الذهنية والتاريخية الفنية لدى العرب، وتحديدا في سياق الحضارة العربية الإسلامية، وليس ضمن السياقات الموازية التي نشأت في داخل هذه الحضارة أو مهدت لها، وكان الأمر عائدا أساسا لعملية ربطه بين البعد المعجمي والتطبيق الفني لجميع أشكال وظواهر الفنون العربية.

(جريدة "الرأي"، عَمان، 2-3-2013).