عن أي سعيد عقل أتحدث في كلمات سريعة ومقتضبة؟ كيف أودعه، وهو لا يتواني عن استقبالنا، غيري وأنا، في رحاب كونه الشعري؟ كيف أتحدث عن غيابه، وهو المقيم الراسخ والأكيد؟ كيف لعمره المديد أن يجمع، أن يوزع، أصواته العديدة، وخطابه المتنوع؟
ذلك أن هناك أكثر من وجه وإسهام لعمره الشعري والكتابي الممتد على مدى أكثر من سبعين سنة. قد يبدو غيابه غريباً للبعض، طالما لم يبقَ أحد من جيله، وقفز فوق أكثر من جيل شعري في لبنان وخارجه.
هو أكثر من شاعر بكثير، مهما غالى أو كابر معاندوه أو ناقدوه. هو مُكوِّن في التجربة الثقافية والشعرية، بل هو كيان، طالما أنه يعد مع قلة قليلة "طبعت" الاستقلال اللبناني منذ التطلع إليه. وإذا كان البعض يجد في شارل القرم، أو يوسف السودا، أو أنطون سعادة، علامات أكيدة في انطلاقته، فإن الدارس سيجد أجيالاً وأجيالاً بدأت منه، في غير ميدان كتابي وإبداعي: من أدونيس حتى توفيق صايغ مروراً بعشرات الشعراء اللبنانيين. وإذا كان شعراء القصيدة بالنثر وجدوا في شعره الصافي والجمالي ما يبتعدون عنه، فإن بعضاً مما آلت إليه تجارب بعضهم تستقي منه جذرها الحيوي البعيد – هذا الجذر الذي جعل الشعر "لغة"، وبناءً، وتركيباً، قبل أن يكون فكرة وموضوعاً ووزناً وغيرها.
ما يستوقف في تجربته الشعرية المتنوعة هو إقباله على عهد الكتاب الشعري، منذ شعره الأول، منذ مجموعاته الأولى: "بنت يفتاح" (1935) و"المجدلية" (1937)، إذ بدأ معهما عهد القصيدة التي تتخذ شكل كتاب، لأول مرة في الشعر العربي. وقد يجد الدارس تبايناً بين تجربته الأولى، التي حفلت بأكثر من شأن تجديدي، وتجاربه الشعرية التالية التي جنحت صوب اجتماعيةٍ و"وطنيةٍ" تعبيريتين، عنوانها: مكانة الشاعر نفسه. أشبه باستعادة لما كان عليه مسار خليل مطران، بين بدايته وتكريسه...
وأشد ما يستوقف في شعره كما في نثره – وهو ما انشغل به كثيرون – هو لغته، أو فنه التركيبي في لغته، التي بدت في نظر البعض مأثرة أسلوبية، كما لو أنها فعل تقني، مهني، يتأتى من الاجتهاد الخالص، من العمل الدؤوب، من المران، فيما تصدر من معين مختلف يحتاج إلى كثير من الدرس. هذا المعين هو "دنيوية العربية"، باختصار، أي هذه العربية التي يقاربها الكاتب من دون تهيب، ما يجعلها خاصته إلى حدود بعيدة في التجريب بها. هذه العربية "وصلت" إلى سعيد عقل بقدر ما انطلق بها. كانت، في بعضها، "مُسْتدخَلة" في مخزونه الاكتسابي، قبل أن يحولها إلى لعبة معمارية، فيها هوس البنائين وتطلعهم، وفيها توقيعات النَّفَس وترجيعاته.
يندرج عقل في هذه الثقافة الكتابية، البعيدة عن الديوانية والمجلسية في آن، والتي تعني في أعلى معانيها التاريخية والاجتماعية، قبل الكتابية، الدخول الحاسم لكتاب وكتاب مسيحيين في ثقافة العربية وفنونها. فكيف إن تحول هذا الشاغل (بمعان مختلفة) إلى علامة التنافس والتميز. وهو ما يغفل عنه كثيرون، إذ يُسقطون هذا التاريخ، ولا يتلمسون هذا الانهمام، بوصفه دلالة تجذر في عالم العربية. وما لا يعرفه ربما كثيرون أن انشغال عقل بدعوى كتابة العربية بحروف أخرى، لا يعدو كونه رجعاً بعيداً لدعوى، بل مشروع أتاتورك، ثم المصري عبد العزيز فهمي وغيره...
ظُلم سعيد عقل في عهد سيطرة الخطاب "القومي" كما "اليساري"، حتى بدا محلَّ تندر عند بعضهم، فيما يأتي من زمن آخر، هو عهد الخيارات التاريخية الاستقلالية الأولى. ثم ظُلم ثانية في عهد "التمذهب" الذي يهدد "وطنية" الكيان الذي عمل من أجل قيامه، حتى حدود "الأسطرة". وهو ما قد يفسر عودة البعض المتأخرة إليه، إلى تقديره المستجد، إذ باتوا يفتقدون في تغييبه بعضاً من الثقافة التي ظنوا أنه كانوا في صدد تطويرها، فيما كانوا - من حيث لا يدرون - يُدخلونها في عهد "الرثاثة" المقيم.
(جريدة "المستقبل"، بيروت، 29 تشرين الثاني-نوفمبر 2014).