صدرت في مدينة آخن الألمانية، أنطولوجية لشعر الشاعر اللبناني شربل داغر، بعنوان: «جسدي الآخر»، عن «دار شاكير ميديا»، في 188 صفحة من القطع الكبير، وقام باختيار قصائدها وترجمتها الدكتوران سرجون كرم وسيباستيان هاينه، وراجعت النصوص ودقّقتها كورنيليا تسيرات، وصمّم الغلاف الفنان العراقي ضياء العزاوي. وشملت الأنطولوجية، فضلاً عن التقديم، قصائد مختارة من عدد من مجموعات داغر الشعرية العشر: «فتات البياض»، و«حاطب ليل»، و«إعراباً لشكل»، و«لا تبحث عن معنى لعلّه يلقاك»، و«القصيدة لمن يشتهيها»، و«على طرف لساني»، و«دمى فاجرة». وهي الأنطولوجية الثانية بلغة أجنبية للشاعر، بعد «عتمات متربّصة» 2005 بالفرنسية، التي أعدّها وترجمها الدكتور نعوم أبي راشد، فضلاً عن صدور مختارات شعرية عديدة له بالعربية في مصر والجزائر وتونس وغيرها.


ما يتعدى الشاعر

وقال الشاعر عن الأنطولوجية: أعتزّ بصدور هذه الأنطولوجيا، خصوصاً أن من قام بها أستاذان مرموقان، ومترجمان متميزان لأعمال شعرية سابقة، فضلاً عن أن كرم بينهما شاعر بالعربية. وما سرّني في الترجمة، أنني خضعت من قبل هاينه، في لقاءات في بيروت، لمناقشات مدقّقة حول تجربتي الشعرية، وحول علاقاتها الجلية والمضمرة، باللحظة، واللغة، والفلسفة، وجمالية الفنّ وهو ما لم يحصل لي مع مترجمين آخرين لشعري. ولا يضيرني في هذه الأنطولوجية أنني لا أعرف من الألمانية سوى ألفاظ قليلة، ما دام أنني تعاملت دوماً مع قصيدتي، لمجرد ما أن أنتهي منها، بوصفي غريباً عنها. ذلك أن الشعر، في ما أرى، اشتغال وبناء يتعدّيان الشاعر نفسه، بل هما كيان آخر، جسد آخر. فمنذ العام 1982 شغلتني علاقة القصيدة بالجسد، لا بوصفه موضوعاً ممكناً للشعر، بل بوصف القصيدة تشكلاً آخر للجسد. ففي تلك السنة البعيدة، في باريس، شرعتُ في تأليف كتاب حول هذه العلاقة، ولم ينجح الشاعر محمود درويش حينذاك في نشر أقسام منه في مجلة «الكرمل»، إذ إنني أتلفته من دون شفقة… ما كتبتُه وقتذاك هو ما كنتُ أهجس به، مثل وسواس يلاحقني ويتملّكني، إذ إنني كنت أشعر في مفاصل جسدي كما في مقاطع قصيدتي بعلاقات من التنابذ والتنافذ… إلا أن عدّتي، يومذاك، في الشعر أو في الفكر، لم تكن قادرة على استجلاء هذه العلاقات، بعدما تبيّنت أن في القصيدة ما يتصل بي وينفصل عني، وأن القصيدة تشملني من حيث لا أقصد ولا أدري".
ومما كتبه المترجمان في تقديم الأنطولوجية والشاعر: «نشر شربل داغر قصيدته الأولى في العام 1971، ومجموعته الشعرية الأولى في العام 1981، من دون أن ينقطع، حتى صدور هذا الكتاب من شعره، عن التجديد والتجريب في نطاق قصيدة النثر، بل يعدّه نقاد عرب وأجانب رائدَ ما بعد قصيدة النثر. فقد دعا، منذ مجموعته الأولى، «فتات البياض»، إلى «الكتابة المتعدّدة»، أي اشتمال القصيدة على أساليب تعبير متنوّعة، متأتية من الشعر وغيره، ومن فنون مختلفة. هكذا خرج داغر على النَّظم بوصفه نظاماً قديماً للشعر والجمالية، وأفاد من هذا الخروج لكي يُدرج شعره في الأزمنة الحديثة، كتابة وتخييلاً وقيماً. هكذا تكون كتابة القصيدة، في حسابه، أكثر من تعبير، ما يتعدّى التخاطب، إذ هي إعادة تشكيل للعالم بأدواته المناسبة.
القصيدة في ذلك نصّ مفتوح على غيره، وعلى خارجه أيضاً وهو ما جعل بعض شعر شربل داغر خشبة قولٍ وتخاطبٍ وعَرضٍ في الوقت عينه. هكذا تكون القصيدة واقعاً وجودياً مختلفاً، كياناً تعبيرياً قائماً بنفسه، إذ تستدعي، إلى خشبتها الداخلية، عالماً إحساسياً، فيه نكهة الوجود، وفيه إمكانٌ جديد له.
هكذا يبدو شعر شربل داغر اجتماعاً لفنون، وخلاصة لها، ما يجعل للكلمات ألواناً وأشكالاً وحضوراً وتمايلات وأصواتاً، فتكون القصيدة بذلك أعلى تجلٍّ ممكنٍ لتعبيرية الإنسان، كما يقتنع بذلك داغر فكراً وشعراً. وهو اجتماع التعدّد الأسلوبي في بناء كتابي واحد، ما أخذَه داغر من خبرته الكتابية المتنوعة ابتداءً من الصحافة وصولاً إلى الرواية، وما خبرَه في دراساته الجامعية العالية: سواء للشعرية وفق اللسانية الحديثة، أو للجمالية وفق لسانية الخطاب.

 

نزاع الأصل

القصيدة، في شعر داغر، تعبير عن قلقه الوجودي، عن عيشه بين الحدود بأكثر من معنى : الحدود «الداخلية» لبلده لبنان ، وحدود البلاد المختلفة التي عاش فيها ما يزيد على 18 سنة قبل عودته من جديد إلى لبنان، وحدود الثقافات والفنون والأنواع والأساليب التي عرفها ومارسها، هو الذي قال: «الحدود ليست ما يفصلنا، بل هي ما يجعلنا نتلامس كذلك».

في شعره نزاع الأصل والتوق إلى التملّص منه، وفيه صعوبة أن يكون الشاعر متكلماً، ما دام الموقع، والاسم، والدور، «محجوزة» بصورة مسبقة، و«تتداولها أصابع الغائبين»، كما يقول في قصيدة . هكذا تكون القصيدة عنده خروجاً على «مجتمع الأهل»، بحيث يقوى المتكلم على القول في قصيدة: «تلدني كلماتي»، و«لا أدرك رحلتي قبل تمام كتابتي». 

هكذا عنى الخروج عنده دخولاً متعدد الخطى: إلى التجارب، والقيم، والانفتاح على الغير، في شعر الآخرين، ما ظهر في ترجماته الشعرية المتعدّدة، من رامبو إلى ريلكه مروراً بشعراء «الزنوجة» الأفارقة. كما عنى أيضاً دخولاً إلى عوالم النصّ: في تكوينه، في أبنيته، في مراميه، ما تمرس به في درسه في جامعة السوربون، أو في كتبه وبحوثه المتعدّدة بين درس الأدب ودرس الفن، أو في تجاربه شديدة الغنى والاختلاف مع فنانين تشكيليين ومسرحيين، في أعمال عديدة بين معارض وعروض، وفي أكثر من مدينة عربية وأوروبية. هذا ما يمكن أن يلخّصه عنوان العرض المسرحي المستوحى من شعره: «عتبات للرحيل و… للوصول أيضاً» 2006 .

تنخرط قصيدته في جدل اللحظة، فتستحضر قضاياها، حتى إنها تقلب الواقع أحياناً على قفاه، فتستبدله بغيره، وتفتح النصّ على إمكان آخر للوجود. وإذا كان شربل داغر لا يكتب، «إلا حين يرى»، فإن قصيدته تتحوّل أحياناً إلى شاشة إلكترونية، وإلى خشبة تتداخل فيها أصوات وأصوات.

خرج شربل داغر من النظام القديم، من دون أن يخرج على العربية، بل جعلها عنواناً لشغف شديد بها، وبما تتيحه له في التعبير، بل في إعادة صوغ العالم. لهذا تبدو قصيدته شديدة التجذر في اللغة، طالما أن الشاعر، في حسابه، «حبيبُ اللغة»، لا يستعملها، بل يُحييها ويستولدها من جديد. وهو في ذلك جعل من القصيدة، من تكوينها، موضوعاً للشعر، على غرار شعراء ألمان وجدوا في القصيدة «جارة» للفلسفة، وجمعوا بين الغناء- الخافت خصوصاً عند داغر - وبين التأمل. وإذا كانت اللغة «بيت الكائن»، بحسب هايدغر، فإن له نافذتين متجاورتين عند داغر: للفلسفة كما للقصيدة.

قال داغر في لقاء حول شعره في برلين، في ربيع عام 2014: «هكذا أزور قصيدتي في هيئة ضيف غريب، على أنه يلتقي بمن يشاركونه متعة الاستقبال والضيافة». كما قال: «هناك من الشعراء من ظهروا في هيئة المتصدّر في القصيدة، فما ميّزوا بين الشاعر بوصفه علامة اجتماعية، وبين المتكلّم بوصفه وظيفة شعرية، وبين الصوت بوصفه نَفَس القصيدة. ذلك أن بين العلامة والوظيفة والنَّفَس علاقات ملتبسة ومتداخلة أستحسن الفصل بينها: فلا تعمل القصيدة في خدمة الشاعر ـ الاسم، ولا تعمل في خدمة الوظيفة المرتجاة أو المكتسبة، إنما تعمل القصيدة، بين أصواتها، في خدمة نفسها، بما يقيمها في بنائها الذي يتكشف في كل مرّة عن شكله المخصوص. صفحة القصيدة - لو طلبتُ تشبيهها - ليست في حسابي منصّة لمنبر، ولا لمرآة، وإنما هي خشبة داخلية، معروضة على غيرها».

ومما ورد في صفحة الغلاف الأخيرة: «شربل داغر، شاعر من لبنان، له أكثر من عشر مجموعات شعرية بالعربية، وأنطولوجيات عديدة لشعره، بالعربية وبلغات أخرى، فضلاً عن مختارات شعرية عديدة إلى الألمانية، قبل هذه الأنطولوجية التي تُعدّ الأولى لشعره في الألمانية. شاعر مجدّد ومبتكر، تمثلُ تجربته تحوّلاً في قصيدة النثر العربية، سواء لجهة أشكالها البنائية المميزة، أو لجهة موضوعاتها المبتكرة، أو لجهة التناول الحسّي والفلسفي في آن للوجود وللإنسان فيه: القصيدة، معه، جسد آخر للجسد، ووجود آخر للوجود. 

أصدر شربل داغر ما يزيد على عشر مجموعات شعرية، وخمس مختارات شعرية، منها أنطولوجية بالفرنسية، وله مجموعات من قصائد مترجمة إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية واليابانية وغيرها. واختيرت قصائد من شعره في أكثر من أنطولوجية، عربية وأجنبية، عن الشعر العربي الحديث، بين فرنسية وألمانية وإنكليزية الولايات المتحدة الأميركية وغيرها. وممن ترجم كتاباته: جورج دورليان، فينوس خوري - غاتا، نعوم أبي راشد، كريستين زيمر، سوزان اللقاني، كاميليو غوميز - ريفز، بن بناني، باسل سمارة، سيمون فتال، عيسى بلاطة، خالد المعالي، سليمان توفيق، سرجون كرم، سيباستيان هاينه وغيرهم. وكان شعره موضع درس في بحوث محكمة، عربية وأجنبية، وفي أطروحات جامعية. 

اعتنى بدرس شعره أكثر من ناقد، كما تعامل فنانون مع شعره، ونظّموا حوله معارض تشكيلية، وأصدروا عنها كتباً شعرية ـ فنية، ومنها معرض جامع لسبعة فنانين عرب مستوحى من شعره، في المتحف الأردني للفنون الجميلة 2003 بعنوان: «تواشجات بين شاعر وفنانين».

(جريدة "البناء"، بيروت، 29 أيلول-سبتمير 2016).