ذات يوم، في مقهى قرب "محطة جوسييه" الباريسية، أبديتُ لأستاذي محمد أركون إعجابي بما انتهيتُ إلى قراءته في أحد كتبه الجديدة وقلت له : "ها أنتَ قد تقدمتَ كثيرًا في فهم المسألة الإسلامية". فأجابني بصرامته - المعهودة من قبلي : "ليس المهم أن يتقدم فهمي ويتحسن، المهم أن تتقدم أحوال مجتمعاتنا وتتحسن".

أجد في هذا الحوار القديم، في حواري الممتد معه في سنوات الدراسة وفي سنوات الزمالة، ما يلخص، في حسابي، مسار أركون، بل شيئًا من أزمة الخطاب الأركوني بمعنى من المعاني : عينٌ على الدرس، وعينٌ على المجتمعات المعنية نفسها، لو شئت التبسيط.

 

يجتمع خطاب أركون في ثلاثة مفاهيم أساسية : نقد – عقل – إسلامي، ما يلتقي ابتداء من عنوان أحد كتبه : "من أجل نقد العقل الإسلامي" (1984).

لم ينقطع أركون، منذ بداياته التأليفية، عن الخطاب الإسلامي درسًا له، وتغييرًا له. هذا ما يَظهر منذ كتابه الأول : "جوانب من الفكر الإسلامي الكلاسيكي" (1963)، وهو ما استمر في جميع كتبه، بما فيها كتابه الأخير : "قراءات في القرآن".ولا يختلف عن ذلك إلا في كتاب وحيد : "الفكر العربي" (1975)؛ وهو كتاب مطلوب من أركون في السلسلة الشهيرة (que sais je ?).

 

لهذا يمكن للمتتبع لفكره أن يلحظ وجود خطين متوازيين ومتلازمين : يتابع رصد الزمن التاريخي، من جهة، ويتابع إعمال الفكر ومناهجه في الخطاب المناسب لهذا الزمن التاريخي.

لا يجد المتتبع في كتبه ومحاضراته الوفيرة رصدًا دقيقًا أو متناميًا لتغيرات الزمن، ولا سيما في السياق الإسلامي، إلا في إشارات سريعة تخترق سوية النص، إلا أن في إمكان المتتبع أن يلحظ أحيانًا متابعة لقضايا تشغل هذا السياق، أو يجد في ثنايا النص الأركوني إشارات بالغة أو خافتة لما يجري خارج الخطاب ويلحظه الخطاب.

ذلك أن شاغل أركون الأساس يبقى الخطاب. وهو في ذلك اختلف مع معاصريه، بين مسلمين وعرب وأجانب معنيين بمسائل الإسلام. اختلف معهم في كونه طلب تعاملًا منهجيًا مختلفًا يستند إلى إخراج الخطاب الإسلامي من نطاقه الضيق، اللغوي وفق معنيين مختلفين، عند المسلمين والأجانب : خرج من خطاب الفيلولوجيا، من جهة، ومن خطاب الإعجاز القرآني، من جهة ثانية. القرآن نص تاريخي، معيدًا وصل ما انقطع مع نظرية "خلق القرآن" لدى المعتزلة. والأهم من ذلك أنه تعامل مع القرآن بوصفه نصًا، ما رافق صعود النظريات والمناهج المرتبطة باللسانية الحديثة، وما رافق أيضًا احتياج النص إلى مقاربات مسعفة له، من الأنتروبولوجيا وغيرها.

 

يحلو لي التوقف عند لفظ أساس في هذه المقاربة، وهو : النقد.

لا أريد التوقف عند معاني ودلالات هذا اللفظ الفائق التعيين، سواء في العربية القديمة أو في أكثر من لغة أوروبية. ما يعنيني - باختصار - هو التشديد على انبناء الخطاب الأركوني عليه؛ وعنى في حسابه أكثر من عملية فحص أو استخراج معايب أو تناقضات في الخطاب... عنى أكثر من إعمال العقل في مسائله، كما نلقاها في الخطاب الفلسفي الحداثي الأوروبي ابتداء من الفيلسوف كانت : عنى النقد لديه إخراج القرآن مما فعلته الجماعة فيه، من كيانه الموروث، المتراكم، المبعَد عن النظر الدقيق والسليم...

هذا ما بدأ منذ دراسة أركون في السوربون، إذ لاحظ، كما قال لي ذات يوم، أن جدران الجامعة كانت سميكة للغاية، لا تصل أبدًا بين ما يقوله المحاضر المستشرق وأستاذ محاضر في الغرفة الملاصقة. قال لي : "كان مشهد الاستشراق مزريًا، ودراسته ضحلة، وغائبة تمامًا عن مجادلات العصر، وعن التجديد المنهجي في أدوات العلوم الإنسانية". ثم أكمل  : "كان المستشرقون شارل بيلا وريجيس بلاشير وروبير برنشفيك وهنري لاوست يتابعون ما افتتحَه سيلفستر دو ساسي قبل نيف ومئة وخمسين سنة في فقه اللغة، وفي كتابة تاريخ وقائعي، مجزأ، من دون نظرة تفكيرية جامعة". أماأركون فقداستوقفتْه أعمال كلود ليفي-شتراوس في "بنى القرابة"، وفرنان بروديل في "المتوسط والعالم المتوسطي"، ولوسيان فيفر في مجلة "الحوليات"، أو الكتب الدينية "دين رابليه: أو مشكلة عدم الايمان في القرن السادس عشر"، وكتاب آخر عن مارتن لوثر...

لهذا يبدو مشروع أركون في النظر متساوقًا مع تجديدات البنيوية التي ما كانت قد اخترقت جدران "السوربون"، ولا سيما في الإسلاميات. وهو في ذلك رسم خطة منهجية للبحث، أكثر مما انصرف إلى معالجات موضعية أو "قطاعية"، إذا جاز القول. ولعله أفاد خصوصًا من نظرية "الإرسال" (أو البث، أو التلفظ)، (l'énonciation)، التي جعل منها مرتكزًا لفهم حقيقة الانتقال من القول المنزل وشروطه إلى تدوينه وتلقيه في لحظة تالية.

"بانفتاحي على هذه العوامل الجديدة، قطعتُ تمامًا مع عالم الاستشراق المغلق، لم يشجعني أحد منهم على دراسة ليفي شتراوس من أجل فهم مجتمعاتنا العربية" ! كان يتابع دروسه في السوربون، مثلما اعتادت قدماه على ارتياد محاضرات القسم السادس من "المدرسة العملية للدراسات العليا"، الذي كان بروديل يشرف عليه. الى جانب هؤلاء، ذكر لي أركون أستاذا آخر، غبريال لوبرا، استاذ مادة القانون الكنسي الذي أسس في العام 1953 مجلة "أرشيف علم الاجتماع الديني"، وعمد إلى تطبيق قواعد هذا العلم لفهم الظاهرات الدينية. 

لهذا يُعد كتاب أركون المتأخر، "قراءات في القرآن"، كتابًا جديدًا على قدمه، إذ عمل عليه وزاد فيه ووسعه؛ واقترح قراءات متنوعة المناهج والمقاربات لبعض سور القرآن، ما يعد إطلالات تُظهر قيمة المنظور والحاجة إليه، من جهة، وتُظهر نتائج مختلفة في النظر إلى بعض معاني ودلالات القرآن، من جهة ثانية.

ما يعنيني التشديد عليه في بناء أركون النقدي هو أنه وسع مدونة الدرس دومًا، مثل أي دارس رصين، كما لو أنه لا يزال في مرحلة إعداد الدكتوراه، حيث نجده بخلاف كثيرين وكثيرين يرصد ويتابع ويفند ما يقع عليه من بحوث وكتب جديدة في ميدان الإسلاميات. وهو ما لا نجده عند غيره بمثل هذا الشمول والحرص والأمانة والجدة.

 

قد يكون لفظ : "العقل" لفظًا إشكاليًا في الخطاب الأركوني. أي عقل ؟ ما المقصود، خصوصًا وأنه درج الحديث عنه في الخطاب الفلسفي الحداثي الأوروبي، ثم في بعض الخطاب العربي المتأخر ؟

أذكر، في محادثة معه في بيته الباريسي، نقاشًا طويلًا حول معاني ودلالات "عقل" في العربية، وتاليًا في الخطاب؛ حول معناه المادي الملموس : أي "عَقَل" الناقة، ما يعني الإمساك بها، وإبعادها عن التهور. وهو ما يشير إلى معنى سلبي للعقل، بمعنى من المعاني، أي الإمساك والتنبه والحرص.

قد ينساق البعض إلى القول بأن أركون شارك، بعد غيره ومع غيره، في إعلاء "العقل" بوصفه مرتكَز النظر الفلسفي بل غايته أيضًا. وهو قول صحيح في جانب منه، إلا أن أركون خفف بل انتقد "غلواء" هذا العقل، إذ لم يجده واحدًا، بل متغيرًا بين غالب ومغلوب؛ كما لم يجد له قيمة متعالية إلا بالقدر الذي نعمل فيه على توفير شروط العقلانية السليمة للعقل. لذلك هو عقل تاريخي ومتعين، ويحتاج إلى بلورة، لا إلى تقديس واتباع. 

أركون، بخلاف الكثرة الكاثرة من مؤرخي الفكر الإسلامي ودارسيه، لم يجعل "العقل الاسلامي" صيغة فكرية، منها ما هو عقلاني وغير عقلاني، بل جعله ملكة نقدية، "عقلا عاقلا" لكل ما أوتي من ثمار العقل: لا يقدم تفسيره للتراث، ولا يختار حيّزه فيه، بل يخضعه لنقد العقل في شرطَيه، التاريخي والمعرفي؛ أي أننا لا نجد "مفكِّرا" بل ذاتًا مفكِّرة، تتفحص ما تقول، وتُعمل الفكر فيه.

 

يبقى أن أتوقف عند اللفظ الثالث، وهو "الإسلامي"، في منظور أركون. وهو أكثر من لفظ، أكثر من صفة لاصقة أو ناعتة للعقل. وقد جرى نقاش غير كاف في أحوال كثيرة، حول التناظر والتباين بين "العربي" و"الإسلامي" في المنظورين. وهو نقاش مفتعَل في جانب منه، ولا يتبين في صورة وافية حقيقة الفصل والوصل بين اللفظين : فما هو مدعاة إلى النقد هو اعتقاد البعض بأن التشديد على "عربية" العقل، تأكيد على "قومية" فيه، خافية أو طالبة ظهور، مثل حق مبدد أو ضائع. فعربية ابن المقفع أو الفارابي أو ابن سينا وغيرهم ليست عربية أقوامية، بل هي عربية بالمعنى الديني والثقافي. كما أن استخلاص القومية من هذه "العربية" القديمة لا يجدي نفعًأ، بل يضلل سبيل نظر العرب الحاليين إلى أسباب تمكنهم من النظر العقلي، ومن إقامة شروطه.

يبقى أن أشير إلى أن "الإسلامي" ما عنى عند أركون المتن السني وحده (وهو ما يروج في كثير من الدراسات حتى يومنا هذا)، بل كان أركون – على ما أعتقد - أول من أدخل المتن الشيعي إلى نطاق الدرس في العقل الإسلامي، مع المتن السني وغيره أيضًا من المذاهب.

 

في المقدمة، التي ألحقها بكتابه الشهير، "الفكر العربي"، في طبعته الرابعة في العام 1991، كتب أركون : "جميع المثقفين العرب يبحثون عن مساحات حرة، ولو كانت ضيقة ومؤقتة،ويحملون في نفوسهم شروط تاريخ شديد الوجع، وهم يعرفون أن الخلاص غير وشيك(...). هذا المثقف العربي لا يفهمه أهله في غالب الأحيان. مهمش، أو منبوذ، أو مدفوع إلى "الاندماج" في المساحات الحرة التي يبحث عنها في الغرب. لهذه الأسباب مجتمعة، يصبح المثقف، على غرار كبار الفنانين، امتحانًا لوجود الحرية في العالم، طالما بقي وفيا لوظيفته النقدية".

هكذا احتكم الى العقل، لا إلى العقل في استعمالاته الجارية، وفي قيمه الاستنسابية، بل إليه بوصفه ملكة نقدية تقوم على مسافة بيّنة، هي مسافة التبعيد والنظر، من التاريخ والخطابات، وفق مقتضيات المعرفة والحرية. كما لو أنه راهنَ، في نهاية المطاف، على قدرة العقل في إقامة مناهجه، وفي التزامه شروط الدقة العلمية، في الإنصاف، في إحقاق الحق، في دفع المهانة عن المغلوب، وفي تعيين حيزه المستعاد في حوار الثقافات.

أنجحََ أركون في ما طلبه، في ما درسه ؟ الجواب أكيد في خطابه، أما الجواب في السياق الإسلامي فعلينا أن نجيب عنه بأنفسنا.

 

(من كلمة في ندوة حول كتاب محمد أركون، الصادر بعد وفاته : "قراءات في القرآن"، في مهرجان الكتاب اللبناني الذي تنظمه "الحركة الثقافية"، في انطلياس-لبنان، 14-2-2018).