إلى جانب نشاطاته الإبداعية من رواية وشعر، وبعد دراسات أكاديمية موجّهة نحو الأدب، يشتغل شربل داغر (1950) على الفنون البصرية، بمقاربة لا تنفصل عن الميادين التي سبق الإشارة إليها، إذ تظل اللغة منطلق أبحاثه. ثمة خيط ينظم انتقالات داغر بين الفنون اللفظية والفنون البصرية، نلاحظه منذ أعماله الأولى التي صدرت في ثمانينيات القرن الماضي. فبعد كتاب "التقاليد الشفوية العربية" (1985) الذي كتبه بالفرنسية، سيهتمّ في عمله الثاني "الشعرية العربية الحديثة" (1988) بموضوع يجمع بين التوجّهين، إذ يدرس، في ما يدرس، الشكل الخطي للقصيدة الحديثة. يقول: "في هذا الكتاب، درست الهيئة الطباعية للقصيدة، وكيف أن الشعراء باتوا مهتمّين بالظهور البصري لقصائدهم فوق الورق. هي عناية شكلية وتشكيلية ولكنها ذات دلالة". ويضيف: "كان لإقامتي في باريس (استقر بها مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان) ومتابعتي لحركة الفن التشكيلي التأثير الأكبر لتوجيهي صوب هذا المنحى. حتى إنني بعد فترة وجّهت دراساتي الجامعية نحو دراسة الفن العربي الإسلامي القديم".

كان أحد المداخل التي أوصلته إلى هذا المجال، دراسته عن التقاليد الشفوية في الأدب الشعبي، والذي وجد أنه "يُدرس تحت عنوان الفولكلور أو وفق منطق المخطوطة، في حين أنه أدب متناقَل وحيّ". هنا يقول: "أعتقد أن الانتقال من الثقافة الشفوية إلى الكتابية، وهو ما حصل في بداية العصر العباسي، لم يُدرس جيداً".

يُجمل داغر اهتماماته في عبارة شعرية له: "إذ أرى، أكتب"، ويشرح ذلك: "أحبّ أن أعتني بتمثيل العالم بصرياً". لعل كتاب "مذاهب الحسن: قراءة معجمية - تاريخية للفنون في العربية" هو العمل الذي نضجت فيه أدوات داغر ورؤيته ليصل بها إلى نتائج مهمة. صدر العمل سنة 1999 غير أن مؤلفه يكشف أنه اشتغل عليه في عقد الثمانينيات. وهو عمل يعتبر بأنه يشبه سيرته. يقول الباحث اللبناني: "مذاهب الحسن كتاب ترى فيه بوضوح الجمع بين اللغة والفن. فعِوَض أن أتصدّى مباشرة إلى دراسة الفن الإسلامي، اتجهت نحو التساؤل كيف نشأ الخطاب عن الفن في الثقافة العربي القديمة؟". سيُقحم هذا السؤال داغر في مسارات لم يكن يتوقّعها.

سرعان ما وجد أن الكتابات القديمة حول الفن الإسلامي قليلة ومعظمها مفقود. يقول: "لم أجد حيلة سوى العودة إلى اللغة ومعاجمها، لأستخرج منها المصطلحات التي كانت تُسمَّى بها الأشياء أو المصنوعات في اللغة العربية، وما هي الأنشطة التي اعتبرت جميلة أو محل تقدير".

يواصل مؤلف "الحروفية العربية": "اشتغلتُ على معجم "لسان العرب" لابن منظور، واكتشفت أن لفظ الحسن هو المفهوم الأساسي المستعمل، وهو في معناه قريب من فكرة "الفنون الجميلة" الحديثة. بعد ذلك انتقلت إلى "كتاب العين" للفراهيدي. سأكتشف أن هذه الأعمال غابت عن عيون المستشرقين، وهم يدرسون الفن العربي الإسلامي، لذا لم يعتبروا أنه قد كان لدى العرب وعي بمسألة الفن أو تفكير فيه".

يعود داغر إلى جذور مشروعه، فيوضّح أنه اعتبر "المعجم أداة لحفظ الألفاظ والدلالات، وأن ما هو محفوظ في المعجم يشبه ما يجمعه عالم الآثار في المتحف. لذا حاولتُ أن أستخرج من المعجم أدلة على وجود فكر حول الفن، ثم طوّرت البحث فاتجهت نحو الأدب، لأجد في أعمال الجاحظ والجرجاني والتوحيدي وابن الرومي وغيرهم حديثاً في مسائل الجمال".

يبيّن الباحث: "لقد تعامل الأوروبيون مع الفن الإسلامي كما لو أنه فن آثاري، أي أنه فن قديم وجدوا بقايا منه من دون خطاب يفسّره، وهذا خاطئ. لذلك حين تقرأ كتباً غربيّة عن الفن الإسلامي لن تجد ذكراً للجاحظ أو الفراهيدي أو التوحيدي".

يتوسّع داغر في هذه الفكرة: "لقد جرى التعامل مع مواد الفن كما هي محفوظة في المتاحف والمجموعات الفنية ... بنوا مقولاتهم على الموجود فقط، ولم يذهبوا أبعد من ذلك، بل منهم من عاد إلى المدوّنة الدينية حول تحريم التصوير ليبرّروا النقص الذي يجدونه والذي لم يكن موجوداً في الحقيقة".

على عكس ما يبدو، لا يرى داغر في الأمر قصدية، أو سوء نية مبيّتة، ضمن منطق استعلائي غربي، فبحسبه "إن الباحث الأوروبي حين يدرس الفن لا يُعنى بالضرورة بدرس مصادره، لأنه يعتبر أن دارسين مختصّين قبله قد قاموا بهذا العمل، أي أنه يفترض أن يكون الأثر الفني الذي يدرسه مُصنّفاً من قبل - وهو ما لا ينطبق على وضعيات كثيرة في الفن الإسلامي - وما عليه سوى تقديم قراءة عنه". يضيف "لقد درسوا الفن الإسلامي من دون الثقافة التي تحيط به".

إلى جانب "مذاهب الحسن..."، ثمة عمل آخر مهم أنجزه داغر في مجال دراسة الفن هو ترجمته لكتاب "ما الجمالية؟" لمارك جيمينيز. يقول: "طَلَبتْ منّي "المنظمة العربية للترجمة" أن أختار كتاباً أترجمه في مجال فلسفة الفن لشعورهم بنقص المؤلفات المتوافرة باللغة العربية في هذا المجال. اخترت هذا الكتاب لكونه كتاباً ذا صبغة تعليمية ومرموقاً في آن، إضافة إلى أنه يتيح فهم تاريخ الخطاب حول الفن على مر العصور".

يرى داغر أن "الترجمة نوع من العمل الصامت خصوصاً في المجالات المعرفية وهذا يُزعج". ربما يفسّر هذا الكلام عدم مواصلته تجربة الترجمة الفكرية حيث يعتبر أن "الكاتب ليس مُجنّداً في جيش معرفي"، ويشير "أنا أستمتع أكثر حين أترجم الشعر، مثل ترجماتي لـ ريلكه أو رامبو أو سنغور".

رغم أنه لا يحبّذ العمل الصامت، إلا أن داغر قليل الظهور في المشهد الثقافي على مستوى الفعاليات. يقول: "أنا قليل الحضور في الحياة الاجتماعية التي تصاحب الحياة الثقافية اللبنانية، حتى إن البعض يتصوّر أنني ما زلت أعيش في باريس". ويضيف: "أفضّل الكتابة عن هذه الحياة الثقافية، لا حضور احتفالاتها"، ثم يصرّح: "يظن البعض أن التواجد في الحياة الاجتماعية للثقافة هو الفعل الثقافي، وهذا مجانب للصواب".

وعن واقع الحياة الفنية اليوم، خصوصاً التشكيلية منها في العالم العربي، يقول: "إن الفن بات يشهد واقعاً متغيّراً خلال العقود الأخيرة، وإن حالة التغيّر هذه تحدث بشكل مضاعف في العالم العربي، فلا نعرف شكلاً من أشكال الاستقرار، لأن التحوّل يحدث عن طريق التأثر بالتجارب الجديدة في العالم". كما يرى أن "الزخم الرئيس هو لتجارب استهلاكية، في ما عدا قلة، لذا فالتحوّلات الفنية التي نراها تظل في معظمها اتباعية تقليدية". ويقول "ثمة فنانون - للأسف - لا علاقة جدية لهم مع نقلات الفن".

ما تطوّر بالنسبة إلى داغر هو أنه "لدينا اليوم مقتنون على درجة كبيرة من المثابرة، لكن ذلك لا يعني - للأسف - أن ثقافة الفن قد زادت في العالم العربي". ولعل أخطر ما يهدّد الحياة الفنية، بحسب داغر، هو اعتباره أن "الفلسفة، وضمنها فلسفة الفن، تكاد تختفي من الجامعات العربية".

(جريدة "العربي الجديد"، لندن، 28 تموز-يوليو 2015).