صدر عن دار أزمنة وعن دار مجاز في عَمان كتاب جديد للكاتب شربل داغر، بعنوان : "في الهواء الطلق : سيرة مختلَسة"، في 225 صفحة من القطع المتوسط، وورد في "توطئة" الكتاب :

 

يعود هذا الكتاب، في أساسه التأليفي، إلى بعض ما كتبت في باريس، بين حلولي فيها في نهاية صيف سنة 1976، وبين رحيلي عنها في منتصف صيف سنة 1994، في مجلات وصحف عربية، وإلى بعض ما بقي محفوظاً منها بين أوراقي، وما ناسبَ خطة انتظام هذه المقالات في كتاب.

كتابات متفرقة ابتداء من السفر، عن أمكنة جديدة، قريبة أو بعيدة. في فرنسا نفسها، أو في شيكاغو ونيويورك واستانبول، بلوغاً إلى مدن أندلسية عديدة، وبيروت نفسها: ما حصل في الهواء الطلق.

تجتمع في كتاب، لكنها لا تجتمع في نمط تاليفي واحد، إذ إنها شبيهة الرحلة نفسها، التي تلتقي فيها، في أيامها ولحظاتها، تعبيرات مكثفة من العيش والانفعال والتفكر والتأمل، في أحوال متداخلة من التذكر والمفاجأة والكشف والخيبة والبهجة.

كان يمكن أن يكون هذا الكتاب: كتاب الترحال، كتاب الطائرة (أو القطار أحياناً)، ما يجتمع في حقيبة، في دفتر صغير، في أوراق طائرة (بأكثر من معنى).

كان يمكن أن يكون كتاب المشي، كتاب الخطوات: بين خطوة وخطوة، بحذر، بدهشة، في أماكن أرتادها غالباً للمرة الأولى.

كان يمكن أن يكون كتاب العين: بين التفاتة وأخرى، ما يستنفرها ويستفزها، ما تبحث عنه فلا تلقاه، ما تمعن في تأمله، أو تتحسسُه مثل يدٍ حبيبة... ما تقرأه العين في مشهد، في وجه، بين الهواء واليدين، أو ما تقرأه في كتاب، في جريدة، عن أمكنة ترودها ربما لآخر مرة.

كان يمكن أن يكون كتاب الانفعال، ما يغسل العينين، طالما أن السفر – أياً كان، وأينما كان – ينتسب حكماً إلى المباينة، إلى المفاجأة.

كان يمكن أن يكون كتاب اللحظات، التي تنتقش مثل أبد، أو تجتمع مع غيرها مثل نشيد، أو في ليلة عامرة.

كان يمكن أن يكون كتاب الصور الفوتوغرافية، قبل أن يكون كتاب الصور الكتابية، خصوصاً وأن الكاميرا رافقت بل استبقت الكتابة نفسها بمجرد الانتقال إلى هذا المكان أو ذاك...

هذا الكتاب هو مجموع هذه الكتب المتحققة والمتخيلة في آن، وهو غيرها في الوقت عينه. إذ إن ما يجمع كلُّ مادة فيه يتعين في كتابيتها طبعاً، في "أسبابها الموجِبَة" (كما يقال في سياق آخر)، لكنه يجمعها بـ"خارج" عليها، متعينٍ في مدينة، في واقعة، في أثر وغيرها: كتابة في خدمة غيرها، بمعنى من المعاني.

إلا أن هذه الكتابات – على ما تحققت عند جمعها – "تخون" نفسها كذلك، تتبرم أو تتملص على الأقل مما عملتْ من أجله، في خدمته: تخونه سراً، أو "تبصبص" على خارجه وعلى غيره في آن؛ تبتعد عن "موضوعها" عمداً، من دون خجل، بل بتلذذٍ يبلغ الألفاظ نفسها. هي كتابات في الرحلة، في متابعة أحداث جارية، في التعمق في أحوال، إلا أنها غير ذلك، إذ يمكن أحياناً ملاحظة "كواليس" الكتابة، أو مشاهدها الخلفية، مما يحركها وينغصها ويبهجها. كتابة تتحدث عن "موضوعاتها" بالطبع، لكنها تتأمل نفسها أحياناً في المرآة من دون انتباه أو قصد.

مسار متقطع، فيه نقاط استدلال تربط بعضه ببعض. الكتابة ابتداء من مكان، بحثاً عن وجوه مفقودة أو مفتقدة، منسية أو مهمشة. وهي كتابة بقدر ما تنطلق من واقعة بسيطة، بقدر ما تقفز قفزات هائلة عبر الزمن والأمكنة، مما يقوى عليه المسافر وحده. هذا ما يتيحه الانفعال - على الرغم من ضلالاته، من حماسته أو خيباته. إذ إن في الصلة بالأمكنة، بالشخصيات، ما يناسب (أو لا يناسب) ميلان النفس، ما يجعلها مبتهجة أو غاضبة أو خائبة وغيرها من أحوال التقلب بين لحظة وأخرى. وهو ما استوقفني في أمكنة مختلفة، بين التجوال والتحقيق والتعقب و"تمضية الوقت" وغيرها، مما يقع بين اللهو والجد.

لا أحب كتابة السيرة، ولا المذكرات، مما يندرج في الاعتراف والصدق والأمانة والإفصاح، ومما يصب في رسم الهوية، بل في إعلانها... وهو ما تجنبتُه فعلاً في كتاباتي حتى اليوم. ما أنشره في هذا الكتاب ينتسب إلى أنواع صحفية وكتابية معروفة، أهمها: التحقيق من دون شك، أو كتابة نبذات في الرحلة. وما كتبتُه منها استجاب أحياناً لدواع مهنية معلنة، في أنماط و"أبواب" سارية في المجلات والجرائد التي عملتُ فيها. إلا أن فيها شيئاً من سيرتي – سيرتي الانفعالية تحديداً.

في إمكان غيري- لو شاء – أن ينصرف لدرس هذه المقالات من ناحية صحفية، كتابية، أسلوبية، فيتناول مدى قربها أو ابتعادها من هذا الأسلوب الصحفي أو ذاك. ما يعنيني منها يتعين في أوجه اهتمام أخرى: منها، أن في هذه المقالات ما يكتب سيرتي على الرغم مني، إذ يتعرض للحظات ومعايشات بعيداً عن لبنان، بفعل الحرب، خصوصاً وأن المقالة الأخيرة من هذا الكتاب هي آخر ما كتبت في باريس قبل عودتي إلى لبنان. هذا ما يصح كذلك في توقفي في مدن مختلفة، كنت أطرق شوارعها بخطواتي للمرة الأولى، فيتسلل عبر الكلمات، عبر الأحوال التي تستوقفني وأعالجها، ما يشير إلى "إمالات" النفس والهوى، إلى بعض الانشداد الانفعالي، والإلحاح الفكري، والهوس النفسي ربما. وهو ما يصح خصوصاً في طبيعة هذه الكتابة: المنفتحة فيما تتابع انشغالاتها الملزمة لها، الكتابة التحقيقية فيما لا تتوانى عن قول الذات... طالما أنها تُعنى بالكتابة بمجرد الانتقال، ما يعني شيئاً من التداخل، من التباس الحدود.

هكذا أجد فيها ميلاً صوب سردية، ما كنت أنوي خوضها في تلك السنوات؛ أو صوب تناول "شعري" في سنوات ما كنت أكتب فيها الشعر إلا في النادر؛ أو صوب كتابة في تاريخ الفن كنت أستعذب وأجرِّب تمريناتي الأولى فيه...

مقالات "غيرية" بأكثر من معنى: عني مع غيري، وعن الكتابة الصحفية مع غيرها من أنماط وأساليب كتابية.

مقالات أشبه بمرآة متنقلة، منقلبة، غير مقصودة، سواء في باريس نفسها أو في غيرها: اهتزازات الحرب المتمادية لم تجعل مني "مهَجَّراً" وحسب (وفق لفظ راج في الحروب اللبنانية عمن اضطروا إلى الانتقال القسري من مكان إلى آخر في لبنان)، كما أطلقتُ على نفسي غير مرة، وإنما أجبرتني كذلك – على ما يتضح - على تناول مسائل "الهوية" بين المنشإ والغير، بين المخزون وهواء السفر، ما عرُضُها وعرِّضُها لمساءلات متمادية.