1- تربط بين القصيدة الحديثة والزمن في عدد من دراساتك وكتبك. لماذا جعلت الزمن مقياساً؟ ماذا تقصد به؟

  • بدايةً سأجيب إجابة تقليديّةً مرتبطة بسياق القصيدة التاريخي والشعري. القصيدة القديمة، في جانب قليل منها، على ما أظن، تعاملت مع عصرها ومع زمنها، بينما القصيدة الحديثة أتت لتكون أكثر اندماجاً بالعصر، وأكثر تعبيراً عن ذات المتكلّم في القصيدة. لا أفاضل بينهما، على الرغم من أن القصيدة الحديثة أكثر قرباً من الإنسان، بينما كانت القصيدة القديمة تلبي حاجات اجتماعيّة مطلوبة من الشاعر ومن القصيدة في المقام الأول.

من يعد الى دواوين الشعر القديمة سيجد القسم الغالب منها يقوم على المدح، أما الأنواع الاخرى، من رثاء وهجاء وغيرها فتلبي هذه الاجتماعية. الشعر الحديث تعامل مع موضوعات وقضايا ومع أساليب، متعددة ومنفتحة، ولهذا فهو أكثر شفافيّة واتساعاً لجهة أنه شعر يصدر عن الإنسان، بحيث أن كاتبه قد لا يعرفه قبل أن يصدر عنه، وانما يكتشفه مثل قارئ.

2- اعتبر البعض أن الحداثة العربية هي امتداد للحداثة الغربيّة. هل حداثتنا ذات هويّة خاصّة بها أم أنّها ذات هويّة غربيّة؟

- يتحكّم بكلامنا نوعٌ من الخطاب الذي ينسب الأدب والشعر إلى محددات حضارية أو قوميّة أو سياسيّة أو ايديولوجيّة... لا أميل إلى هذا الرأي. نحن نتعامل في هذا العصر بالضرورة مع شعر غيرنا، مثلما يتعامل الغير مع شعر بعضهم البعض. للشعر شيء من الكيانيّة كباقي الفنون، مثل التصوير أو في أنواع أخرى مثل الرواية. إننا نقيم في عالم حديث، ووسائل التأثر والتأثير والتحاور نشيطة وحيويّة للغاية. فلو أردنا أن نضع مقاييس السياسة أو الاقتصاد أو التقدّم الحضاري ونطبّقها على الشّعر لفشلنا من دون شكّ، لأننا لن نجد أن أقوى دولة هي الأقوى في الشعر...

الشعر العربي خرج من دورته القديمة منذ القرن التاسع عشر، خرج من احتكامه الذاتي إلى مرجعية كانت تخصه وحده، ما يمكن تسميتها بمرجعية العمود. الشاعر دخل في مدار آخر، باتت فيه القصيدة تجمع بين مرجعيتها القديمة ومرجعيات أخرى... لهذا فإن نسبة الشعر إلى محددات حضارية وغيرها باتت أقل مما كانت عليه في السابق. كما أن لعبة التأثيرات باتت قوية وخفية في آن معاً. هذا لا يخفي كون ما يسمى عموما الحداثة الشعرية العربية تدور وتتحلق حول قضايا وأساليب بعينها، وحول بعض الصور النمطية أيضاً. ففي درسي للشعر العربي الحديث تنبهت الى كون الشعر،  خاصة القصيدة بالنثر منه (كما أحب تسميتها)، دخل خاصة في الربع الأخير من القرن العشرين في مدار جديد صعب التحديد. مدار تتنافر فيه القصائد وتتباعد وتتلاقى، طالما أن سمات الفردية والتجربة الخاصة باتت معالم محددة لهذا الشعر. بعض الشعراء يتبدلون من مجموعة إلى أخرى، بمعنى أنهم يخصون مجموعة بمقادير من الابتكار ما لا نجده في مجموعة سابقة أو تالية. لهذا فإن نسبة الشعر إلى محددات خارجية، حضارية وأخرى، باتت أقل مما كانت عليه في الماضي، حيث كانت الثقافة تتعايش وتحتكم إلى تاريخها الخصوصي.

3- تقول: ما أريده في القصيدة ومنها أن تكون خطاب متكلّم. ماذا تعني؟

-هذا الأمر أشدد عليه كثيراً في كتابتي للشعر أو في حديثي عنه. استوقفني كون القصيدة الحديثة تقوم على مفارقة بدت غريبة في نظري. هذه المفارقة هي التعبير عن فردانية، من جهة، وهي تحمل نرسيسية عالية، من جهة ثانية. هذا الأمر غريب لو تتبعنا شعر الحداثة في أكثر من بلد أوروبي وغربي، إذ إن الحداثة عنت لهم بالدرجة الأولى هشاشة الشرط الإنساني، بل هشاشة الإنسان نفسه، وما عنت لهم، لا عظمة الإنسان ولا قدرته الفائقة، ولا "نبويته" المعلنة أو الضمنية. كثير من شعراء الخطاب الحضاري أو الخطاب الهامشي تدور قصائدهم حول الأنا (أنا الزعيم، أنا الحضارة، أنا الصعلوك...)، وتبني خطاب الأنا عن نفسها، وما تريد أن يصير عليه الإنسان كما الكون، وعما تريده لنفسها أو لغيرها.

هذا الخطاب الأنوي، إذا جاز القول، سعيت إلى الابتعاد عنه منذ مجموعتي الشعرية الأولى، "فتات البياض". فمن يعد إليها في إمكانه أن يقرأ على قفا الغلاف أن القصيدة تتوخى "الكتابة المتعددة"؛ كما في إمكانه أن يتحقق من أن قصيدة فيها هي قصيدتان مجموعتان فوق صفحة واحدة، ما يعني أن للقصيدة لسانين وسطرين في الوقت نفسه.

4 – أنت كشاعر حديث، ماذا أضفت الى الشعر الحديث؟

- بعض النقاد ممن درسوا شعري تحدثوا عن كوني أكتب قصيدة "ما بعد قصيدة النثر"، بمعنى أن القصيدة تستجلي أفقاً جديداً لها. في المجموعة الأولى، في قصيدة فيها، أبطلت وحدانية المتكلم (أي الذي يقول أنا فيها)، إذ إن هناك نصين متقابلين فيها، ما أبطل وحدانية القصيدة، أو جعلها مزدوجة.

هذا ما حملني إلى الخروج من تحكم الأنا بالقصيدة، في أكثر من مجموعة شعرية تالية، مثل: "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"، و"ترانزيت"، و"على طرف لساني"...

هذه النصوص صعبة التحديد لجهة النوع الشعري، فالبعض يسميها مسرحاً، طالما أن فيها سياقات خارجية ومادية، ومتكلمين، وحركات وأفعال وحوارات وغيرها مما ينتسب إلى عدة المسرح اعتيادياً. إلا أن من يدرسها جيداً يتحقق من أن الزمن لا يتقدم فيها، كما يتقدم في المسرحية. ففي "ترانزيت" يقرأ القارىء في ختامه كما لو أن ما قرأه لا يعدو كونه استعارة... الكتاب استعارة، فيما تتعين عادة في جملة، في سطر. ماذا عن الزمان في الكتاب؟ أهو زمن متلاحق، متتابع، كما في المسرحية والرواية، أم أنه مختلف، طالما أنه يقع في استعارة واحدة؟

هناك في النص ما يشبه لعبة الدمي الروسية، حيث يندرج أسلوب أو جملة في غيرها، ما يبطل عملية التنسيب والتحديد. هكذا تنفتح في النص الحدود، حدود الأنواع الأدبية، وهو ما أردته لهذه القصيدة، أي أن تستوعب غيرها، وتقبله وتحوله وتعدله، في لعبات معقدة، وإن تبدو ميسرة وسهلة.

هكذا أبطلتْ هذه النصوص المتكلم، والوحيد، في القصيدة، إذ إن فيها أكثر من متكلم؛ كما سننتبه إلى أنهم لا يملكون لا أسماء، ولا هويات محدددة، فيما يتحاورون ويتخالفون ويجددون الحوار.

هذا التعامل الجديد مع القصيدة يناسبني في فوضاي الداخلية، في انشغالاتي المتعددة والمتزامنة. وهو يناسب كذلك موقفي النقدي من بعض ما يُكتب في هذا النوع الشعري. فالبعض يكتب القصيدة بالنثر كما لو أنها قصيدة تفعيلية، ووفق منطقها، متغافلاً خصوصاً عن أن هذه القصيدة سمحت لنفسها بحرية ليست متاحة في غيرها من تجارب الشعر، وهي تخلصت من قيود طمعاً بهذه الحرية... هذه الحرية المكتسبة لا تجدها بالضرورة، حيث تجد القصائد تتناسل من بعضها البعض تناسلاً يكاد أن يكون تلقائياً. وهو ما يصيب القارىء إذ يقبل على قراءة مجموعات شعرية فيجدها شديدة التشابه في أكثر من مستوى من مستويات بنائها.

هذه التقليدية المستجدة في القصيدة بالنثر أحاول أن أتجنبها، كما أحاول استعادة حرية مكتسبة، ولا أريد أن أتخلى عنها، بل أن أستعملها حتى حدود العبث الشديد بها.

5 - أهذا ما أضفته كشاعر الى الشعر الحديث؟

  • بعض النقاد تعامل مع تجاربي هذه بوصفها "قصيدة ما بعد قصيدة النثر"، كما قلتُ.. أنا لا أحب هذه التسميات، لأن الخطاب الفلسفي كما النقدي عن تجارب الحداثة غرق في تصنيفات لا تجدي نفعاً، بل هي ستار للتخفي وعدم الشغل على درس القصيدة.

هذه التجربة محيرة. ما يؤرقني فيها أنها قلقة ونزاعية. وأنا لا أنظر إلى القصيدة إلا بوصفها نزاعية.

كتابة القصيدة بالنثر تجربة مربكة. هذا ما يروقني فيها، وهو أنها قلقة، بل نزاعية. في هذا أختلف مع بعض شعرائها، ومع بعض دارسيها، لأن البعض دخل إلى هذه القصيدة كمن ينتسب إلى ديانة أو عقيدة أو إيديولوجية، معتبرين أن مجرد الدخول إليها هو الحصول على نعمة الخلود ونعمة اليقين الصحيح. أنا لست من هؤلاء. أكتب في مجالات عديدة، وما يربطني عميقاً بالشعر هو القلق والنزاع، فيما أتجه في البحوث صوب مقادير من التدقيق والمراجعة وطلب الصحة.

هذا ما توفره لي هذه القصيدة... هذا ما طلبته في هذا النوع الذي أكتبه، إذ يعبر عن محبتي في النطنطة بين الحدود، بين الخطوط. هذه النطنطة هي الأقرب إلى نفسي، إلى ما يعتمل فيها، بين ما أحلم به وأشتهيه. هكذا يتم خلط الحدود وفتحها فيما بينها: بين القصيدة وغيرها من الفنون، بين أساليب الكتابة المختلفة، بين معاينة وقائع والتخييل ابتداء منها...

هذه النصوص لا تشبه القصيدة، بل تتشبه بها وحسب، إذ عملتُ على إخراج القصيدة صوب فضاء جديد: فضاء أسلوبي متعدد، فضاء مادي وتخييلي...

الشاعر هو من يستطيع أن يجعل هذا الفضاء ممكناً، إذ ينطلق في آن من وجوده اليومي ومن متخيله الواسع، وهو في ذلك يكون أشبه بالعصفور الصغير الذي يتنقل بحرية في هذا الفضاء الجديد الذي أتمنى أن تصل إليه القصيدة.

الشاعر في نظري هو من يستطيع أن يجعل هذا العالم ممكناً بين سطور القصيدة.

6- كيف تفسّر اعتماد شعراء مجلة "شعر" والشعراء الحديثين الأوائل على الأسطورة، خصوصاً رموز البعث في شعرهم؟

- كثير من الدارسين اللبنانيين والعرب يربطون بين مجلة "شعر" وبين الأسطورة في الشعر العربي الحديث، فيما يُغيِّبون خطاباً أساسياً في هذه المسألة، وهو ما قاله أنطون سعادة في إحياء الأساطير، وما كان لخطابه من تأثير على شعراء كانوا في الحزب حينها مثل سعيد عقل وصلاح لبكي وأدونيس وغيرهم. مجلة "شعر" قدمت نماذج لهذه القصيدة بعد قصائد أو مجموعات مثل "بنت يفتاح" و"قدموس" و"المجدلية" في الجيل السابق... جماعة "شعر" استلهمت كذلك تجربة تي. أس. اليوت، لكنها اكتفت بجانب من تجربته، وهو إحياء الأسطورة، بينما قامت تجربة اليوت على خلاف ذلك، على مزج خلاق، فيه شيء من الندرة، بين الأسطوري واليومي.

قد يتميز بين هؤلاء الشعراء الشاعر خليل حاوي إذ أجد في شعره نوعاً من التجاذب الجواني بين "عصابيته" وهوسه السياسي، إن جاز القول، أكثر مما يظهر في شعر أدونيس في ذلك العهد. هذا التجاذب موجود في بعض الشعر الحديث اليوم، لكنه لا يتمثل في الشاغل الحضاري. كان هذا الشاغل يناسب ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يلتقي مع تطلعات ومشروعات قامت على تحديد الحدود ونشوء الدول الجديدة وتشكل خطابات الهوية. أما تجاذبُ اليوم فيتعين عند شعراء كثيرين في انهمامات أخرى... السياسة اليوم لها عدة تجليات، ولا سيما في صراع القصيدة لاستجلاء إنسانية ما...

أعود في شعري، في قصائد متفرقة، إلى موضوعات وقضايا تلامس السياسة مباشرة، مثل: الانتحاري، "الدموع الجافة" التي تبعت نشوب الحرب الأهلية اللبنانية...

القصيدة تتساءل بمعنى من المعاني: كيف يتحول جسد الإنسان إلى شريحة تفجيرية؟ كيف يتحول إلى قذيفة؟ هذا الأمر رُفع في قصائد، فوق يافطات، فيما يؤدي إلى قتل الأهم في الإنسان، أي جسده وإنسانيته.

أي كفاح، أي ظلم، لا يمكن أن يعوض عنهما مقتل أي إنسان، خاصة حين يقوم الإنسان بقتل نفسه.

هذه الشواغل موجودة في شعري وتؤرق المعنى في القصيدة، خاصة وأنني من جيل كان يرى إلى أفق مشرق في بلدي، بينما وجدتني في خنادق طائفية بمجرد تخرجي من الجامعة، بمجرد خروجي إلى العالم. وجدتني أمام "دم فاسد"، كما كتب رامبو... أمام امتناع قيام المواطن اللبناني. اللبناني موجود كإمكان، طالما أن الدولة تؤكد وجوده فيها بعد أن تكون قد أجازته، قد استقبلته، الطائفة في قيدها المذهبي.

7- كان يحلو لخليل حاوي أن يربط الشعر بالبناء الحضاري. هل تؤيّد هذا الارتباط بين الشعر والهمّ الحضاري؟

- أنا من جيل آخر، وحساسية مختلفة، وتجربة أخرى. على الرغم من أن الدكتور حاوي كان أستاذي في الجامعة، فإن شعري في مطلع السبعينيات لم يرتبط بهذا الهمّ الحضاري الذي انشغل به حاوي وأقرانه. إذ إنني انطلقت من شاغل آخر، هو أن القصيدة بالنثر هي أقرب إلى الشّاغل اليوميّ والمديني، مع بعض التلميحات، خاصة في شعري الأول، إلى السياسة. هذا ما ظهر بقوة أكبر في مجموعات أخرى، ولا سيما ظهور الحرب فيها، أي ما قلته فيها وعنها.

8- دعا أنسي الحاج في مقدمة ديوانه "لن" الى قتل القديم نهائيّاً. ما رأيك بهذه الدعوة؟

- ما قاله أنسي الحاج يناسب مجموعته الشعرية الأولى، وربما المجموعات الثلاث الأولى، وكان فيها متقيداً بعض الشيء بما اشترطته سوزان برنار في كتابها الذائع الصيت من قواعد للقصيدة. إلا أنه في شعره اللاحق خرج على هذه القواعد واسترسل في الغناء أو في الحكمة...

9- وماذا في شعرك؟

- قد تنطبق قواعد برنار على بعض شعري وقد لا تنطبق. ما يعنيني من كتابة هذه القصيدة هو أنها تمكنني من تجريب حريتي الكتابية، حريتي التخييلية، أوسع تجريب ممكن، وفق حدود النوعين (النثر والشعر)، وفي الخروج عليهما والتجاذب بينهما.

لي قصائد لا تتعدى السطر الواحد، ولي غيرها مما يمتد في أكثر من 200 صفحة...

لكل قصيدة ناظم بنائي يبنيها، لا في صورة مسبقة، وإنما بشكل يطلقها وحسب، من دون أن يقولبها سلفاً، على أن يتعين شكلها تباعاً.

هذه القصيدة تحتمل تشكلات عديدة، طالما أنها خرجت من العروض. هذا أعطاها حرية ألا تتقيد بأنماط ملازمة. أنا على الأقل أتعامل معها وفق هذا النزوع. ما أطمح إليه هو بناء فضاء كتابي، لا يلبث أن يجد تباعاً أشكاله. ولو طلبت توضيح الفكرة لأمكنني الانتقال إلى فنون أخرى. هذا ما يقوم عليه الفن الحديث: التنويع والتجديد في الأساليب، فيختلف الفنان بين تجربة وأخرى.

10- تقول إن القصيدة من دون أصل. كيف يمكن قول هذا؟

- لكل قصيدة أصل أو أصول، إلا أنها بنتُ كيانها الذي يتشكل ويتقدم ويتغير ويتحول. ذات يوم كتبت قصيدة على حاسوبي، ما لبثت أن فقدتُها بضربة غير محسوبة. حاولتُ استعادتها فوراً، فإذا بي أكتب قصيدة أخرى، وإن تنطلق من قصيدة سابقة، موجودة وغير موجودة. 

لا أخفيكما أنني أكتب أحياناً قصيدة غير التي كنت قد قصدتها أو طلبتها. تبدأ القصيدة أحياناً بلفظ، بعنوان... تبدأ أحياناً بفكرة لا تلبث أن تنتهي إلى غيرها، أو أن تموت...

11- تقول: ابتداء الشعر من الشاعر، ابتداء القصيدة من الكتابة. ما قصدك من هذا القول؟

- هذا أعتبره أشبه بالقانون في الحداثة. الشعر العربي القديم احتكم إلى مرجعية وقواعد، فيما لم يعد للشعر العربي الحديث مثل هذا القانون، ولا هذه القواعد. حتى قصيدة التفعيلة، التي تتقيد بالحفاظ على التفعيلة كوحدة بنائية لها، لا تتقيد بقاعدة نظامية لها، فيما تقوم على تنويعات شديدة في البناء.

لهذا أقول بأن القصيدة العربية تبتدىء من الشاعر ولكن ليس بالمعنى المطلق. الشاعر دائما مسبوق بما هو موجود في الشعر، لكن الشاعر بات يتحكم بدرجات كبيرة بما يضع، وله خيارات وقدرات، إن جاز القول، في تحديد بنية القصيدة وتغييرها وتنويعها. وهو ما لا ينتبه إليه دارسو قصيدة التفعيلة أنفسهم، إذ يدرسونها وفق منطق العروض، فيما عنت الخروج من العروض القديم.

القصيدة التفعيلية والقصيدة بالنثر تبتدءان بالشاعر، إذ له تدبيرات وخيارات وقرارات، إن جاز القول، في تحديد بنية القصيدة...

أما الشق الآخر من السؤال، فلا ننبته إلى أن الشعر القديم مرتبط بجانب قولي، إنشادي، مما يقال في حفل، في مجلس، بينما القصيدة الحديثة هي وليدة الكتابة، وبالتالي هي مرتبطة بالقراءة الصامتة. عدا أن منطق الكتابة له ضوابط وشروط تختلف عن الشروط القولية والصوتية.

كثير من الشعر الحديث يقال في أمسيات وغيرها، إلا أن ما يبنيه في الغالب فهو منطق الكتابة، الذي له قواعد أخرى تتحكم به. ففي الشعر القديم، وفق الثقافة القولية، يكون المعنى منضبطاً في بيت واحد، لكننا لم نفسره تماماً، وكما يجب، وهو أن الشاعر كان يتقصد في أن يكمل جهوزية المعنى في البيت الواحد، لأن على المستمع أن يتابعه وفق قدراته على السمع، أي ضمن البيت الواحد.

أما في القصيدة الحديثة، فالشاعر حين يربط بين سطر في أول القصيدة وسطر بعد صفحات تالية، فهو يعول على أن هناك قارئاً، وأنه يقرأ ذلك في كتاب، وأنه يستطيع أن يعود إلى الصفحة ويعيد قراءتها... شروط الكتابة هي التي تملي على القصيدة الحديثة كيانها. لهذا فإن التمييز بين القصيدة التفعيلية والقصيدة بالنثر سقيم، إذ ينكر طبيعة الكتابة، وطبيعة التجربة التاريخية التي أطلقت النثر من السجع، والشعر من العروض. القصيدة الحديثة في نسقيها وليدة تجربة واحدة، وإن تتعين في أساليب وأدوات مختلفة.

12- بعض شعراء الحداثة مثل يوسف الخال اصطدم بجدار اللّغة لأننا نفكرّ ونتكلّم بلغة ونكتب بلغة أخرى. هل اصطدمتَ بهذا الجدار في شعرك؟

- هذا الموضوع واسع جداً وشائك ويحتاج إلى كلام كثير... ما يمكنني قوله هو أن ما قاله يوسف الخال نجده في لغات وثقافات أخرى ولكن بحدة أقل. من يعد إلى بعض الشعر الفرنسي، مع بول جيرالدي وجاك بريفير (اللذين تأثر بهما نزار قباني)، سيجد بأن شعريهما أكثر قرباً من المحكية الفرنسية منه إلى شعر رامبو أو ملرمه أو سان جون برس وغيرهم.

ما أريد أن أقوله، بداية، هو أن المسافة قائمة بين المحكية والكتابية في شعر غيرنا، إلا أنها مسافة أبعد في ثقافتنا، من دون أن يعني هذا أن شعر أبي تمام أو البحتري أو المتنبي كان أكثر قرباً من المحكية القديمة، بخلاف شعرنا الحالي الذي أراه أكثر قرباً من المحكية مما هو عليه شعرنا القديم.

دورة الشعر القديم كانت أضيق مما هي عليه اليوم. كانت دورة للشعراء والمجالس ليس إلا. يحتاج الدرس إلى معالجة هذه المسائل المطوية: ما حقيقة انتشار الشعر القديم؟ ما حقيقة قربه أو بعده عن المحكيات؟ ما انتشار الشعر الحديث في المكتبة والمدرسة والجامعة والجريدة وغيرها؟ أهذا يوفر دورة أوسع من الدورة القديمة؟

من علامات هذا الزمن، هو أن شعر المحكيات يتطور ويغتني، ما لم نعرفه في الماضي، كما في شعر: سعيد عقل، وميشال طراد، والأخوين رحباني، وعبد الرحمن الأبنودي، ومظفر النواب وغيرهم.

ومن علامات هذا الزمن، أن العامية موجودة في لغة الشعر الحديث. والأمثلة كثيرة على ذلك. كنت أدرس قبل أيام شعر توفيق صايغ، فإذا بي أجد فيه كماً عالياً من الألفاظ والتراكيب العامية، وهو من أشد الشعراء إمساكاً بفصاحتها في الوقت عينه...

وما يجب أن نتوقف عليه لدرسه هو النبر والضغط على الكلمات إذ إن فيها أثر العامية على كتابية القصيدة.

ما يجب قوله كذلك هو أن الشعر الحديث يتطلب، مثل الشعر القديم، ثقافة شعرية، لا يمكن من دونها الدخول إليها. قصيدة البحتري لا تشبه الحديث في أسواق حمص أو بغداد...

خذوا من تشاؤون إلى معرض تشكيلي... كل فن القرن العشرين لا يمكن أن نتذوقه من دون ثقافة تشكيلية... بيكاسو سيبدو لكثيرين في القرن التاسع عشر "مغفلاً"، فيما هو عبقري القرن العشرين من دون جدال. ثقافة الفن الكلاسيكي قامت على إنتاج شبه الواقع، بينما الفن الحديث هو الخروج على الشبه.

على المجتمع، بمؤسساته وسياساته، أن يلبي شروط حسن استقبال الشعر، من المدرسة إلى المؤسسة العلمية إلى حضور الكتاب نفسه في تداول المجتمع.

13- هل اصطدمتُ بجدار اللغة في شعرك؟

-هذا يعايشه الشاعر دوماً، في ما يعيقه وفي ما ينشطه. إذ إن اللغة ليست عائقاً وحسب، وإنما هي قوة وفاعلية مذهلتان.

هذا ما انتبه إليه دارسون لشعري، إذ تحققوا من ورود ألفاظ وتراكيب عامية كثيرة في شعري، مما تحتاجه القصيدة في تعبيريتها، فلا تستبدله أو تحوله أو تترجمه إلى ألفاظ وتراكيب فصيحة. وهو ما يصح كذلك في استحضار مناخات يومية، ترد في مناخات العامة خصوصاً.

إلا أنه يصح في شعري الانتباه إلى أنني أدرج فيه ألفاظاً وتراكيب "ميتة" أو خرجت من الاستعمال، في نوع من الاحتياج إليها، إلى دلالاتها الوفيرة.

وإن كان لي أن أؤكد على حقيقة علاقتي بالعامية، فيتوجب علي الكشف عن كوني قد كتبت – من غير قصد – مجموعة من القصائد بالعامية، قبل سنتين، من دون أن يتاح لي الانصراف إليها، لإتمامها أو لإسقاطها من شعري. هذا يفضح كون العامية تسبقني إلى لساني، فهل ستبلغ كتبي أيضاً؟

(نشر في كتاب: ربى سابا ودومينيك الخوري ونانسي ميلع: "قامات التمرد والحداثة، الحداثة الثانية في لبنان"، دار الإبداع، بيروت، 2015، صص 221-237).