يمثّل الشاعر والأكاديمي شربل داغر تجربة معرفيّة وإبداعيّة مميزة في الجامعة اللّبنانيّة والعربيّة جرّاء ما راكمه من أعمال شكّلت أفقًا للنّقد العربيّ، ولم تقف هذه التجربة عند الكتابة النقديّة والتنظير لمشروعه في تفكيك بنية المقول الشعريّ، بل امتدت لتنفتّح على محاورة الآخر، سواء عبر الترجمة له أو المساهمة في بناء مثاقفة معرفيّة، كما أنّ خاصيّة الانفتاح ميّزت تجربته النقديّة، التي لم تقف عند حدود دراسات الشعريّة العربيّة الحديثة، بل امتدت أيضًا إلى التشكيل والخطّ والجماليّات، فضلًا عن الإقامة في جغرافيّات إبداعيّة من خلال الشعر والرّواية. هنا حوار معه:  

 

* "هناك أحد/ يقلّد مشيتي،/ ويمشي في سطري،/ وما أن يصل إلى قبري/ يفترق عنّي/ ولا يلتفت إلى الرنين" : هكذا تقول في نص عنونته بـ"ش. د." من ديوان "القصيدة لمن يشتهيها". نلمس في هذا النص وعيًا حادًّا بالمسافة الجماليّة بين الأنا الغنائيّة والآخر، والشاعر نفسه في النص، إلى درجة أنّه يمكنني أن أجازف وأصنّفه في خانة التّخييل الذاتيّ، ومع ذلك أتساءل: هل هو صوت آخر غير صوتك؟ وكيف يمكننا أن نترجم هذا الآخر انطلاقًا ممّا هو ذاتيّ محض، من دون السقوط في فخ السيري الفج؟ من هو شربل داغر داخل هذا التّعدّد للأصوات الذي يطبع مساراتك الحافلة بكتابة المستحيل؟ وهل ما تزال القصيدة مشتهاة في عينيك في ظلّ سطوة زمن العولمة، وأنت واحد من الذين يخونونها باستمرار في جنس الرواية؟

- راق لي، في سؤالك، الحديث عن أنّ مفهوم التّخييل الذّاتيّ قائم في كتاباتي الإبداعيّة سواء الشّعريّة أو الرّوائيّة. ففي مجموعتي الشّعريّة الأولى منها، "فتات البياض"، وتحديدًا في القصيدة الأولى، تكلّمت عن "شربل"...  وهو ما تجدينه بصيغ أخرى في أكثر من مجموعة شعرية. وفي روايتي الأولى، "وصيّة هابيل"، شخصان يحملان الاسم نفسه: "شربل داغر". منذ محاولاتي الشّعريّة الأولى، كانت تعنيني الكتابة المتعدّدة، كما تحدثت عنها في المجموعة الأولى. ذهبت بالنّثر إلى الشعر نحو مجال إبداعيّ يعمر بالاحتمالات، ولي أن أقدّم فيه مقترحات مختلفة. فمنذ مجموعتي الأولى، "فتات البياض"، تجدين فيها تعدّدًا في الأسلوب وفي بناء الجملة، حتّى إنّ صّفحة فيها تنقسم إلى قسمين.

هذا ما اتجهت إليه منذ سنوات بعيدة، قبل أن يتم الكلام عن التخييل الذاتي. لا أريد من هذا القول إنني لم أنخرط في هذا الخيار التأليفي، وإنما للقول بأن لهذا أسباباً أخرى، تقع في نظري إلى القصيدة العربية الحديثة. فقد عمدت إلى الكلام عن: شربل، وغيرها من التمسيات القريبة منها، لإقامة مسافة بيني وبين نفسي، ولإيجاد المسافة بيني وبين غيري، وبيني وبين القصيدة. إنه نوع من "التبعيد"، كما يقال في المسرح. وهو ما سعيت إليه بطريقة أخرى في السنوات المتأخرة، إذ كتبت قصائد لا تقوم على متكلم واحد فيها، وإنما على عدد منهم، ما يبطل بالتالي تحكم المتكلم بها.

ذلك أن احتياجي للشعر، لكتابة القصيدة، لا يصدر فقط عن هوس في التعبير، وإنما أيضاً عن شاغل كياني ووجودي لكنه ينفصل عن الأنا المعلاة من شأنها، أو التي تنصرف إلى الغناء بما تكتبه، سواء أكان موتاً أم حباً. أحتاج إلى الشعر مثل شهوة غامضة. نعم القصيدة ما زلت أشتهيها، وأعتبرها ممّا لا أصل إليه، إنّما ما أسعى إليه.

 
قصائد من جوّ الحرب

* تقول في قصيدة "حبّي الكريه" من ديوان "دمى فاجرة" الأخير: "فوق أنفاس الصامتين/ ممن خبروا الموت قبل أن يموتوا/ ممن حصدوا سنابل الوقيعة قبل موسم الأحقاد/ ممن بكوا من دون أن ينفكّوا عن مواعدة خصومهم/ في ليل يتبيّنون فيه وحدهم - من دون غيرهم - دروب القتل/ على أنّها درب الخلاص"، نلمس تضادًّا قويًّا يطبع رؤيتك إلى العالم وتناقضاته الصارخة؛ إذ تصبو الأنا الغنائيّة إلى بناء ممكن جماليّ، يتأسّس على ما هو متنافر في الذات الواقعيّة التي تتقنع بها هذه الأنا، بل نجد أن الموت هو إعلان عن الولادة من جديد، ولاسيّما في ظلّ شيوع ثقافة الكره وموت الحب. لماذا يحتاج الشاعر إلى الحبّ؟ وهل يمكن أن ينقذنا الحبّ من هذا الخراب الذي تصوّره المقطع الشعريّ؟ وكيف يمكن أن يكون الصمت بليغًا من خلال عين الموت التي تصورها بقوّة من داخل الحياة؟ ألا يعني الصمت احتجاجًا علنيًّا على تمزّقات الوعي العربيّ؟ وكيف يمكن أن يكون الحبّ إلى درجة الكره في نظرك؟

- انتبهت، إثر قراءة شعري - وأنا لا أقرأه عادة بعد أن أكتبه أو أنشره، إنّما لأنّي كنت أعدّ للقاء في مدينة برلين - انتبهت إلى حضور الموت في شعري. ليس بوصفه موضوعًا، وإنّما بوصفه خيالًا أو شبحًا يعبر في فضاء القصيدة،. هذا ما أرعبني ونبّهني إلى ما أنا مقتنع به: إنّ القصيدة تعرفني أكثر ممّا أعرفها. فأنا إذ أزورها، أتجوّل فيها أو أقصدها بشيء من الغرابة أو بشيء من الاكتشاف، كما لو أنّها ليست لي وليست منّي. لذلك قارنت صورة الموت في القصيدة بما يحدث في الأفلام، عندما يمرّ شخص خلف الزّجاج، ونحن لا ننتبه إلّا للأشخاص في مقدّمة الصّورة. هذه الحيلة تتمّ في السّينما لإشعار المتفرّج أنّ الحياة تسري، والمشهد شديد الواقعيّة. انتبهت إلى أنّ الموت يعبر في القصائد، وقد راعني هذا الشّيء واستوقفني الأمر، وجعلني أفكّر فيه مليًّا، وفي سببه، وفي وجوده المختفي الظّاهر.

ما أريد أن أقوله في هذا الأمر إنّي كتبت عدّة قصائد في عدّة مجموعات ضدّ الموت من جوّ الحرب. كتبت "دموع جافّة" عن ألمي من حرب لبنان بعد أن انتهت. وهذا التّفكير لا ينقطع عندي، وهو أنّنا نموت كثيرًا ونميت نحن كعرب. هناك موت كثير... ولو أحصينا هذا الموت، لكان قتلانا، من جراء عنف بعضنا على البعض الآخر، أكثر بكثير ممّن قتلوا منّا ضدّ العدوّ الإسرائيليّ. "حبّي الكريه" هو حديثي عن العلاقة الّتي تربطني بهذه الأرض وبهؤلاء البشر، وفيها حديث ابتداء من الضغينة.

أنا لا أتباهى إذ أقول إنني كنت أعيش في فرنسا مرتاحًا. لي بيت وزوجة وابنة وأصدقاء وعمل ثابت، ولم يكن هناك ما يدعوني إلى الرّجوع. وعودتي عام 1994 إلى لبنان أثارت استغراب الكثيرين، خصوصًا الأصدقاء منهم، وكانوا يتساءلون عن سبب عودتي، مع أنّ بعضهم كان يحسدني على ما كنت عليه. هذا هو حبّي الكريه. هذه القصيدة تحكي عن علاقتي الحبّيّة هذه والتي تصدر بنكهة كريهة.

القصيدة بالنثر

* طرحت في كتابك "الشعريّة العربيّة الحديثة" تمييزًا بين الكتابة المنهجيّة، والكتابة الفنّيّة من خلال اعتماد تحليلات نصّيّة، دافعت بها عن حداثة بنية القصيدة الحديثة، التي اختارت الحرّيّة سواء من داخل حدود الشعر نفسه، أم أنواع الكتابة. كيف تنظر إلى إبدالات القصيدة الحديثة؟ وهل استطاعت أن تكون حرّة من تلك القوالب التي كانت تخنقها؟ وهل سمحت لها الكتابة بأن تبني حدودًا جديدة، أم أنّها تعرّضت لنكوص عاد بها إلى النمذجة التي فتّتتْ حرّيّتها من الداخل؟

- هذا الكتاب جزء أساسيّ من أطروحتي الأولى. اعتنيت بعد كتاب "الشعريّة العربيّة الحديثة" بإعادة النّظر في الشّعر العربيّ الحديث من النّاحية التّاريخيّة بين القرن التّاسع عشر والقرن العشرين، ووجدت أنّ بداية التّجديد تقع في بداية النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر. ووجدت أنّ هناك شعرًا كتبه شعراء ودرسه نقّاد، أطلق عليه "الشّعر العصريّ"، قبل أن تزول هذه التّسمية من الاستعمال. يكفي أن تعودي إلى كتابات القرن التّاسع عشر، لتجدي أنّ المعلّم بطرس البستانيّ في نهاية خطبته الشّهيرة بعنوان "خطبة في آداب العرب"، يتحدّث عن شاعر اسمه خليل الخوري، مؤسّس أوّل جريدة عربيّة، "حديقة الأخبار"، ويقول عنه إنّه أوّل من نقل الشّعر من القديم إلى العصريّ، وهو يشبّهه بالواقف بين زمنين :"العصريّة" هي أوّل تسمية لما سميناه حداثة بعد قرنٍ تقريبًا.

لقد عدت إلى تحقيب تاريخيّ، واكتشفت أنّ هناك منظورًا عروضيًّا تحكّم ولا يزال يتحكّم بالشّعر الحديث. أي أنّ التّدليل على حداثة القصيدة يتمّ بتنسيبها أو عدم تنسيبها إلى العروض. الكثير من تجلّيات القصيدة، سواء التّفعيلة أو القصيدة بالنّثر (كما أسميها)، لم تدرس حتّى اليوم من قبل الدّارسين. لقد تحوّلت "القصيدة بالنّثر" في تجارب اليوم، إلى قصيدة تستسهل بناء نفسها، بينما في الأصل قامت على الصّعوبة وليس على الاستسهال، كما يتجلى ذلك في أصولها الفرنسيّة. هذه القصيدة ذات طبيعة نزاعيّة، النّزاع هنا يقع بين مقوّمات النّثر ومقوّمات الشّعر. بينما تحوّلت القصيدة بالنّثر اليوم إلى قصائد الاسترسال النّثريّ، وهو في غالبه من دون شاغل، لا بنائيّ ولا نزاعيّ. الأمر الآخر هو أنّ هذه القصيدة، في منابتها التّاريخيّة، قصيدة مدينيّة، أي تعبيرات العيش في المدينة، وهي فرديّة إلى حدود هشاشة الإنسان فيها، فيما تحولت، في تجارب عدّة شعراء عرب، إلى قصيدة أنويّة، نرسيسيّة، منتفخة، متباهية بكونها فريدة في نوعها. والأمر الثّالث هو أنّ هذه القصيدة احتملت، في بنائها النّزاعيّ، استقبال الأنواع الكتابيّة الأخرى المتأتّية من النّثر إليها، وهو ما لا نجده كثيراً في شعرها.

هذه القصيدة في الأساس ليست قصيدة واحدة. فلو عدنا إلى قصائد برتران وبودلير ورامبو وفيرلين والرّمزيّين، فسنجد عددًا من المدارس والتّجارب المتواصلة والمختلفة والمّتصلة فيما بينها. هي ليست قصيدة واحدة بل عدّة قصائد. فبدلًا من أن تكون الحرّيّة حصنًا ودافعًا للتّجديد، والتّنويع، واللّعب، تحوّلت إلى قصيدة تكراريّة مونوتونيّة، رتيبة، لدرجة أنّي يمكن أن أضع مجموعات شعريّة بجانب بعضها البعض وأقرأ قصيدة واحدة بمعنى الانقياد وبأسلوب واحد. أنا لا أدعو إلى مدرسة. فليكتبوا ما يشاؤون، ولكن هناك غنى لهذه القصيدة لها أن تكتسبه.

أما الحديث عن التمييز بين كتابة بحثيّة وكتابة فنّيّة فقد كتبته في السبعينيات، في وقت نموّ البنيويّة كمقاربة في درس الأدب والشّعر، وكنت على مقادير من التّشدّد والصّرامة المنهجيّة. ما زلت أحاول أن أتقيّد بها، من دون أن أكون بنيويًّا تامًّا.

* ما رأيك في الشعر اليوم؟ هل حقّق حداثاته أم أنّه أصبح معطوبًا؟

- ما يدهشني هو أنّ الشّعر اليوم لا يزال حيًّا في البلاد العربيّة، بين أجيال وأجيال، على الرّغم من التّراجعات الّتي تصيب قراءة الشّعر وطباعته  وشراء الكتب... فعلًا لا توجد جائزة جدّيّة للشّعر العربيّ، وأنا لا أدعو إلى ذلك، فقط للقول إنّ للفنون والنّقد والرّواية جوائز لا تنتهي ولا وجود إلّا لجائزة المكرّمين وهي الّتي تسمّي الشّعراء قبل أن يموتوا. وأتساءل عن سبب هذا الإقبال على الشّعر، على الرّغم من البؤس المريع الّذي يحيط بالشّعر وتلقّيه.

يعيش الشّعر في مختبرات الدّرس الأكاديميّ والبحثيّ في فرنسا، ويتوصّل الدّارسون إلى معرفة كيف يتطوّر الشّعر، ومن هو الشّاعر، وما هي تقنيّات الشّعر، وهذا غير موجود اليوم، هنا. لقد تراجع تراجعًا سريعًا درس الشّعر في بلادنا... فمثلًا منذ سنوات كان الإقبال على كتاب "الشعرية العربية الحديثة" كبيرًا، وصدر في أكثر من طبعة، وهو تحت الطبع حالياً في القاهرة. وأصدرت بعده أربعة كتب عن القصيدة العربية الحديثة لم تنفق طبعاتها الأولى. أعتبر أنّ ذلك يعود إلى أنّ الكتاب الأوّل كان ينتمي إلى زمن آخر... أنا تورّطت في زمن آخر. وسؤالي هنا : لماذا كان للشّعر بريق؟ أذكر أنّ أدونيس نشر لي في "مواقف" ثاني قصيدة كتبتها، على أنني، مع مجموعة من الشعراء اللبنانيين الشباب، نفتتح عهداً جديداً في الشعر اللبناني الحديث. يومها، انبرى له أنسي الحاج في "الملحق" ليقول بأنه سبق أن نشر لمحمد عبد الله ولي قصيدة قبل "مواقف".

أعود إلى السّؤال هنا وهو: كيف يندفع نحوه الشّعراء والشّاعرات خصوصًا؟ أقول إنّه ربّما هو نداء الحياة، وسط هذا العنف وهذه الكراهية. يبقى الشّعر بالنّسبة إليهم متنفّسًا أو بيتًا، لا يمكن أن يدخله شرطيّ أو مسدس. لعله نفَس الحياة في هذا المكان الموحش.

 
تجربة درويش الأخيرة

*كيف تنظر إلى التحققات الشعرية التي ميزت المشهد الشعريّ خلال القرن العشرين؟

 - تجارب الشّعر مختلفة اليوم بمقادير كبيرة. التّجديد في قصيدة التّفعيلة لا يزال محدودًا. محمود درويش لا يزال التّجلّي الأبهر لهذه القصيدة، اليوم. كثيرون يقلّدونه، ويتبعونه بمقادير متفاوتة. هناك تجارب غيره في التّفعيلة ولها قوّتها، ولكن موجة محمود درويش في شعره الأخير خصوصًا، هي الّتي تقدّم التّجلّي الأفضل، وهي المتّبعة من قبل فئات وأجيال عديدة. أمّا القصيدة بالنّثر فالحقل واسع ومتعدّد، بمعنى بات يمكن القول هناك تجارب واختلافات واضحة وجليّة للدّارس في هذه التّجارب. ولو شئت الاختصار لقلت: محمّد الماغوط يغلب أنسي الحاج، من دون أن أكون فرحاً بحصول هذه الغلبة. النّموذجان الأوّلان لهذه القصيدة ظهرا بفارق سنة واحدة بين هذين الشّاعرين اللّذين اختلفا بقدرة قادر. الماغوط أخذ سبيلًا، وأنسي أخذ سبيلًا، على الرّغم من أنّ أنسي غيّر سبيله مع الوقت والتّجارب. قصيدة الماغوط تقوم على غنائيّة عالية، فيما الغنائيّة خافتة أو معدومة في شعر أنسي الأول. قصيدة الماغوط تقوم على قدر من الاسترسال أو الإرسال، الّذي يقترب أحيانًا من الخطابيّة أو المنبريّة ويطلب الوقع الشّديد، بينما تتّجه عند أنسي الحاج إلى مقادير من الاختزان والاستبطان الدّاخليّ. قصيدة الماغوط تقترب من لغة المدينة والشّارع، بينما تقترب قصيدة أنسي من عالم جوّانيّ بين المتكلّم والحبيبة أو بين المتكلّم وذاته.

هاتان الوجهتان قام عليهما جزء كبير من تجارب القصيدة بالنّثر في العالم العربيّ. وبهذا المعنى قلت إنّ نموذج الماغوط هو الّذي تقدّم. هناك تجارب كثيرة، اليوم، وثمّة قربى شديدة فيها من الحياة اليوميّة بألفتها أو بدهشتها المفاجئة. هناك أيضاً عودة إلى الرّومنسيّة الجارفة في القصيدة بالنّثر، وهذا ما ألاحظه منذ سنوات. في هذا الشّعر شيء من البكارة واللّيونة الجميلة، لكن هذا صعب ولا يؤتى دائمًا، خصوصًا حين يتحوّل إلى منوال تكراري.

 

* إلى أيّ مدى يمكن اعتبار شعرك منفتحًا على السّرد والحوار؟

في شعري ومنذ قصائدي الأولى كانت هناك الكتابة المتعدّدة، أي مشاركة أساليب أو قدرات كتابيّة متعدّدة في القصيدة. هذا المنحى بلغ بي إلى كتابة نصّ غريب في شعري وفي شعر غيري، وهي نصوص تقوم على بناء حواريّ ويجري النّصّ في أوضاع من المسرحة، إذا جاز القول. أعتزّ بهذه التّجارب، فهي تكسر تحكّم المتكلّم بالقصيدة. هناك حوار بين عدّة متكلّمين، والأوّل يقول ما هو عكس الثّاني، والثّالث يقول عكس ما قالاه، وبالتّالي أين المتكلّم في القصيدة؟ فمثلًا مجموعة "ترانزيت" قصيدة واحدة طويلة تقوم على مجموعة مسافرين تعطّلت بهم الطّائرة في المطار، فوجدوا أنفسهم في قاعة ترانزيت. هذا النّصّ فيه متكلّمون بمعنى يمكن لأيّ متكلّم أن يأخذ نصّ الآخر ويتكلّم عنه.

هذه الفكرة تروق لي كثيرًا. دائما نربط الشّاعر بالخطيب أو بالكاهن بمعناه القديم والحديث، كما لو أنّه فعلا يتوجّه بالكلام ويوجهه، فيما أعتقد أنّ الشّاعر هو أقلّ كاتب يتحكّم بقوله، فكيف بالشّاعر الحديث أو شاعر القصيدة بالنّثر؟

القصيدة تكتبنا حين نكتبها، هي الّتي توصلنا حين نتوجّه إليها، وهذا ما يشدّني إليها. هي مستقبل على الرّغم من أنّها تصدر عن ماضٍ. هي مستقبل لماضٍ. وبالتّالي فكرة تعدّد الأصوات هي المناسبة للشّعر في صميمه، أيًّا كان نوعه. في الرّوايات الرّوائيّ يحاكي شخصيّات، ويوزّع شيئًا من نفسه، ويرتجل ويبتدع، فكيف الشّاعر وهو مع هذا السّواد المعتم يريد أن يخرج منه إلى نور ما، وهو لا يعرف أين يصل. أمّا الشّاعر الّذي يعرف أين سيصل فهو ليس بشاعر.

 
الشعر خلاصة الفنون

* كيف تفصل الشعر إلى قصيدة نثريّة أو قصيدة بالنثر وقصيدة تفعيليّة، بينما الشعر يتحدّد بطريقة تمثيله العالم. هيغل تحدّث عن التمثيل الشعريّ والتمثيل النثريّ، فالوسيلة هي بدورها تخضع للتمثيل الشعريّ الذي يتحدّد بالصورة؟"

- رحم اللّه هيغل وهايدغر لأنّهما كانا أكثر وآخر فيلسوفين تعاملا مع الشّعر بوصفه معطى تكوينيًّا وأساسًا للفلسفة، وبعدهما لم يعد الشّعر معطى فلسفيًّا إلّا عند بعض الدّارسين القلة. العالم تغيّر عن زمنهما، وحتّى تغيّر عن السّبعينيات. نحن نعيش في فضاء آخر... بعضنا نشأ فيه، فيما البعض الآخر - مثلي - انتقلَ إليه من زمن آخر. الشّعر مكانه موحش، وبات الوصول إليه والدّخول إليه صعبًا لمن يريد أن يدخل إليه، فكيف بمليارات البشر الّذين لا يرغبون فيه؟

مشكلة الشّعر هي في قوّته، وهو أنّه أعلى تعامل باللّغة. يعتبر هيغل الشّعر خلاصة الفنون، لأنّه يجمع كلّ الفنون في بنية القصيدة. هيغل لم يكن يعرف السّينما والتّشكيل بفنونه المختلفة، مثلما صار عليه العالم اليوم. الوصول إلى منطقة الشّعر بات يحتاج إلى ثقافة، ومهارات، وتقنيّات، ومعرفة بالشّعر، لم تعد متاحة لمتذوّقي الشّعر، وبالتّالي أصبح الشّعر يدور بين الشّعراء. يختلفون ويلتقون فيه، ويتمايزون فيه، وينصبون المكائد لبعضهم البعض - أقصد المكائد بالمعنى الجمالي للكلمة -، فهو حقل صراعيّ بامتياز بالمعنى الفنّيّ والجماليّ والشّعريّ للكلمة، خصوصًا بعد أن انفصل عن أعداد كبيرة من الوظائف التي كان يلبّيها حتى مطالع القرن العشرين: من النّشيد إلى الأداء الدّينيّ، إلى الطّقوس، إلى حفظ الملاحم، إلى تبجيل الملكة ومديح النّبلاء... هذه الوظائف حلّت محلّها فنون وأساليب أخرى، فمثلًا خبر في الـ cnn يساوي كلّ شعر المديح للمتنبّي. هذه الوظائف الّتي دامت قرونًا، راحت واندثرت، وبقي الشّعر في هذه الدّائرة الضّيّقة، والّتي عمليًّا بدأت منذ القرن التّاسع عشر في أوروبا وفي بلادنا منذ القرن العشرين.

 

(جريدة "العربي الجديد"، لندن، 2 شباط-فبراير 2017).