أن تقرأ رواية في شهر العطلة، وتطوي الصفحة الأخيرة منها، وأنت يتملّكك احساسٌ عارمٌ بالكتابة عنها، من دون ان يكلّفك أحد بذلك، هذا يعني، أقلّه بالنسبة إلي، أن الكاتب قد أصاب فعلاً في بلوغ أهدافه. لقد تمكّن الراوي، ليس فقط من أسر قارئه منذ الصفحات الاولى، ليلازمه مسار تطور أحداث الرواية، انما أيضاً من استفزاز وعيه ليطرح عليه ألف سؤال وسؤال.

 

صعوبة تصنيف شربل داغر

ليست "شهوة الترجمان" لشربل داغر (المركز الثقافي العربي، 350 صفحة) قصة عادية تنتهي إما بموت "البطل"، أو بزواجه من حبيبته، أو بانتصاره على أعدائه الكثر. جاءت نهاية الرواية فعل تفكير بجدوى الكتابة، بكونها مجالا حيوياً يربط المتباعدين، ويضيء المتخفّي، ويهدّئ القلِق. انتهت الرواية بإبراز ما للوحدة، التي يختبرها الانسان المعاصر، من صفات حيوية ومفاعيل فكرية راقية.

شربل داغر، الذي نحارُ عادة في تصنيف ما يكتب، ويضعنا دائماً في حال إرباك تجاهه، أوقعنا في حبال روايته: هل هو ناقد أدبي وفني، أم شاعر، أم مترجم، أم مؤرخ، أم روائي، أم فيلسوف متخصص بالجمالية؟ هل أن كل هذه الابعاد في شخصيّته الفكرية لعبت دورها في جريان أحداث الرواية وتركيب شخصياتها؟

تسبقك الرواية إليك لتواعدك في عمق أناك، وتستدرجك رويداً رويداً لتجلس برفقة نفسك، وتختلي بها من دون تكلّف. تمدّدك على أريكة ماضيك، كما في جلسة تحليل نفسي، تدعوك للاسترخاء والتمتّع بجمال اللوحات الفنية كما الطبيعية المحيطة بك، لتنقضَّ عليك فجأة بالأسئلة الموجعة، وتقصفك بعبارات من العيار الثقيل إن في دقتها أو فصاحتها أو حِرَفيتها. أسئلة تجعلك شغوفاً بما سيأتي وحذراً في الوقت عينه. أسئلة قد تبدو أنها لا تعنيك ظاهراً، انما تعني "البطل"، هذا الترجمان المتفوق، الحاصل على عقد تدريس لمدة سنة في إحدى جامعات ستراسبورغ. لكن سرعان ما تكتشف أنك متورّط في أسئلته، في مراجعاته المتكرّرة لذاته وأفكارها وسلوكاتها، متورّط في خياراته، في شكوكه وتخيلاته.

إطار الرواية يغشّ القارئ فعلاً، إذ تبدو الامور فكرية،ً أكاديميةً، غارقةً في برودة البحث اللغوي، والتنقيب في يومياتٍ شبه منسية. الهمّ الفكريّ الظاهر، كما يبدو، يكمن في ما إذا كانت الترجمة بذاتها فعل تأليف أم تكتفي بالنقل بتصرف، بالأضافة الى الأجواء الاكاديمية بما فيها من محاضرات وأبحاث وتوثيق وغير ذلك.

"ألف ليلة وليلة" من جديد تحت الضوء، بحجة البحث في ترجمتها إلى الفرنسية، لكن ما يتوصّل إليه القارئ في النهاية يجعله يعي بأن نساء الرواية الأربع هن منافسات شهرزاد، إنهن شهرزاد بقناع عصري. ويبدو الترجمان هنا قد توشّح بعباءة شهريار. هن يتوكلن بقصّ أحداث حياتهن ومحطاتها الغنية بالمعاناة، وهو يروي شغفه بالاستماع والمشاركة. مثل رجل التحرّي، ينهمّ بالكشف عما بقي مستوراً في كل رواية. شهريار داغر لا يتلقّى القصة وحسب، إنما يترك لنفسه أن تنزلق في مطباتها. قصص النساء ترافقه حتى في أوقات راحته، تقضّ مضجعه، وتثير حشريته، وتوقظ لديه الرغبة في خوض المغامرة للوصول إلى الحقيقة. نجده، على الرغم من محافظته على المسافة الكامنة بينه وبين شهرزاداته، يبحث جاداً عن مخارج لقصصهن، ويشارك "البطلات" في كتابة مساراتهن.

 

شهرزادات في ربيع

هذا الترجمان يتقن فن المراقبة والتسلل إلى حيث يحلو للمرأة أن تحكي قصتها، أن تبوح بمعاناتها، أكانت تنتمي إلى الشرق الغارق في تقاليده أم الى الغرب المتخبّط بإشكالياته. يبدو وكأن مسام جسمه قد تحولت إلى أذن كبرى تتقن الإصغاء وتحترف التلقّي؛ وكأن في داخله محلّلاً نفسياً محترفاً في تدليك المكبوتات وفكّ أسرها.

تنبت قصص النساء في الرواية كما الزهور في الربيع. لكل واحدة لونٌ يستوقفك، وعطرٌ يقودك إلى عالمها الداخلي. تعددت الأسماء، واللقاءات، والاختبارات، والمعاناة. كل واحدة تخفي في أوراقها مكنونات جمّة، لا تكفي اللغة وحدها للبوح بها. الرابط الأساس بينهن كان المترجم، وكأن مهمته لم تكن محصورة في ترجمة النص الأدبي فقط، إنما تعدّت ذلك إلى ترجمة النظرات، ونبرات الصوت، والإرباك، والتردّد، والخجل، والجرأة الزائدة، ورمزية الأماكن، ومعنى اللوحات الفنية المعروضة...

إن هذا الانفتاح على الآخر المختلف، كما على ما يكمن في أدق تفاصيل الواقع، لم يُلهه عن أناه وما يعتريها من قلق. الاتصال بالخارج لم يبعده عن الداخل، بل جعله أكثر احترافاً في الحفر والتنقيب عما هو كامن في العمق. غارقٌ هو في ضباب الأسئلة، باحثٌ عن نور الوعي، مطمئنٌ إلى كونه يحمل مسؤولية خياراته وخطواته وانهماماته. "بطل" الرواية صورة رجل ناضج يمسك زمام أموره بيده، يتدبّر شؤونها عن سابق تصور وتصميم. صحيح أنه ظهر في البداية وكأنه منقادٌ لامرأة شهوانية، تتقدّمه، تُملي عليه ما يجب فعله، لكنه سرعان ما يستعيد المبادرة في البحث عن ماضيها، والتدقيق في هويتها، ومن ثم قطع علاقته بها.

في الرواية، نجد شربل داغر متخفياً كما في القصيدة، في ثوب هذا البصاص الذي يراقب الآخرين، يرصد تحركاتهم، ينبش ماضيهم، ليس بدافع الحشرية إنما بهدف الغوص أكثر في المعاناة، في تجربة الآخرين واختباراتهم الماضية والحاضرة. ترجمانه يشبه حائط المبكى، وكتفاً يحلو للمتألم الاتكاء عليه، وشجرة يسعى المتحرّق مرارة إلى أن يستظلّ بها. يُحوّل ألم الآخر إلى سؤال، إلى فرصة للتأمل، إلى مواكبة حية لما من شأنه أن تصير عليه الأمور.

 

وقفة الذات الموجعة مع نفسها

ليست الوحدة في "شهوة الترجمان" عقاباً ينزل على رأس البشر لينفيهم في غربة دائمة، إنما هي خيار واعٍ، مؤلمٌ، لكن ثمرَه وفير. بدت الوحدة وفق تسلسل أحداث الرواية طريقاً يودّي إلى التجدد، إلى التفكّر في ما سبق اختباره. باتت الوحدة حيّز الكتابة التي تنبع من الذات، من أعماقها القلقة والساكنة في آن.

وحيد هو المفكر، وحيد هو المختلِف، وحيد هو ذلك الساعي الدؤوب إلى ما هو أبعد. هذا الحفّار المتمرّس بنبش أسئلته، ومواجهة ضعفه، واقتحام ضياعه، والتوقف عند هويته الحقة، عند ما يريده فعلاً من انسياق مجرى الحياة اليومية.

ترجمان داغر محترفٌ في الهجوم على نفسه، في الانقضاض عليها، و"حشرها" في زاوية الاستنطاق، تاركاً لها ما يكفي من الوقت لتدبر أمرها. ينتقد نفسه في كل مرة يلحظ فيها أنها خرجت على السيطرة، أنها انزلقت إلى مكان آخر. ينتقدها لا ليوبخها إنما ليتعرّف على سبب فعلتها، أو حتى تخيّلها لصورة ما، أو شكّها بأمر معين.

يسأل ولا يستكين. يعاتب، ينتفض، يتألم. ورشة بناء مستمر. ورشة تجدد مستمر.

يبقى اسم الترجمان شبه مستور طيلة الرواية... بالصدفة نعرف أنه "جهاد". هذا الاسم يُكتب بالفرنسية: "دجهاد"، الأمر الذي أثار غضب صاحبه، إذ إن هذا اللفظ باتت له حمولة بعيدة كل البعد عن المعنى الذي من أجله اختاره الوالد (من مناضلي "حركة الوعي" في لبنان) اسماً لابنه. إن في رمزية الاسم، وما تولّده من ملابسات إشارة واضحة الى التبرم الشديد مما تشهده الساحة العربية والإسلامية من تنامٍ للفكر السلفي الذي يقلب المعاني، ويحوّر الألفاظ، ويجعل للجهاد دلالات تشوّه الجذر العربي: ج. هـ. د، فتغترب بذلك اللغة عن ذاتها. "بطل" الرواية مجاهد فعلاً، أجهد نفسه في طلب الحقيقة. اجتهد في الاشتغال على نفسه، وتطوير مهاراته. بذل الجهد في فهم نفسيات المحيطين به. جهوده جبارة، لكن لا دخل لها بالعنف، وحرمِ المختلف من أن ينوجد بحرية إزاءه.

هذا الترجمان تمكّن من الولوج الى عمق المعاناة، معاناة الانسان المعاصر، معاناة المشرقي المتخبط في تخلّف محيطه، ومعاناة الغربي الباحث عن هويته. معاناة الرجل في ذكورته، ومعاناة المرأة في أنوثتها. معاناة اللبناني من الاستهتار المستشري داخل الطبقة الحاكمة، ومن تردّي الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية، ومن انهيار النظام الجمهوري في البلد: "مجتمع معطّل، لا يُحسن إدارة شؤونه، بينما يحمّل غيره عجزه المتمادي" (ص 236).

سؤال الهوية مطروح منذ البداية: "هل أنت هندي؟" (ص 24)، "أم أنك مسلم؟"(صص 16-29-35) الجواب سينتظر حتى الصفحة 277: "أنا قلمٌ عند الحاجة؛ حاسوبٌ في الغالب. في أي وقت. أعود إلى هاتفي النقال، إلى آلة تسجيله الخافية، إن احتجتُ إليها، وأُشغّلها طلباً للتلصّص الكتابي. أنا أُذنٌ تُحسن الإصغاء، إن راق لها ما تسمع. أنا لغة تدوّن إن وَجدت ما هو عذب أو مؤلم. أنا لغة قيد التأليف إن حلا لها، وإن لم تقصد. أنا أندسّ في ما يصلني، وأتمدّد فيه، كما لو أنه طاولة أكلي، أو حبقتي".

تنهمر معاني هذا النص على شاشة الوعي لترسم عليها صورة من دون "فوتوشوب" لشربل داغر. يتحدُ في هذا النص "بطل" الرواية بكاتبها، يتعانقان في رقصة الهوية، ينصهران في نار اللغة، يكبران معاً، يتألقان سوياً، ويتركان للقارئ متعة المشاهدة، ودعوة مفتوحة للمشاركة.

 

ترجمان في هيئة كاتب

عناوين الفصول الستة صيغت على مقام التشويق. نهايات الفصول تجبر القارئ على قلب الصفحة فوراً وعدم الاسترخاء بعد القراءة. القفز السريع من مشهد إلى آخر، ربما يكون دليلاً، ليس فقط على الرغبة بإمساك القارئ والحفاظ على شغفه، إنما على أن صاحب الرواية يخشى الملل في طبعه، ويسعى إلى التجديد، فجاءت روايته على صورته. أراد ألا يقع القارئ بما يزعجه هو، بما يحاربه هو، ومن دون أن ننسى أنه شاعر محترف في فن التنقل من مشهدية إلى أخرى في قصائد قد لا تتعدّى السطر الواحد.

لا يمكننا، أخيراً، أن نقرأ "شهوة الترجمان" للتمتع فقط بل للتفكر، ولمواجهة الألم الذي نخفيه بالأقنعة المزيفة. نرافق الراوي بتأنٍ، ونحن نمسك قلبنا بيدنا: ما الذي ستأتي به الفقرة اللاحقة، ما يشبه الصدمة الوجودية؟

إن الترجمان تمكّن من توريطنا معه بأسئلته، وبحثه عن نفسه، عن هويته، عما يريد فعلا...

تمكَّنَ من أسرنا، من إبعادنا عن انشغالاتنا ما عدا ذاتنا. لقد أغرقنا فيها، وجعلنا نتبنّى أسئلته، ونشاطر نظرته النقدية، فنصوِّب في اتجاه الأنا أعنف الأسئلة الوجودية.

"شهوة الترجمان" وقفة موجعة للذات أمام نفسها. محطة مؤرقة توقظ الوعي في مواجهة انهمار سيول من الأسئلة الوجودية والكيانية والمصيرية التي تشغل بال من شاء أن ينفرد بأناه ويفكر في ما يعتريها.

"شهوة الترجمان" عبارة عن ألف شهوة دفينة في كل من اختار لنفسه طريق التعرّي أمام مرآة وعيه.

(جريدة "المستقبل"، بيروت، 17 آب-أغسطس من سنة 2015).