يرى الشاعر والناقد اللبناني شربل داغر أن الحديث عن ”الثورة” لا يزال “حديثاً مشتهى”، ولكن غير حاصل في أوضاعنا العربية، وأن "الانقلابات هي ما نسميه الثورات. وتغيير الحاكم أو الحكومة – بمعاونة أجنبية أكيدة ومباشرة في بعض الأحوال– نطلق عليها تسمية "ثورات"، وإطلاق كبت سياسي دفين في طقوس مذهبية نسميه “ثورات".

حاز داغر على شهادتي الدكتوراه في الآداب العربية وفي جماليات الفنون، وله عدة مجاميع شعرية منها “القصيدة لمن يشتهيها” و”حاطب ليل” و“فتات البياض”، كما صدرت له رواية بعنوان “وصية هابيل”، وله عدة إصدرات بحثية منها “العربية والتمدن: في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة”.

- لمن أتوجه بالسؤال عن الأحداث الثورية والاحتجاجية في أكثر من بلد عربي؟ أأتوجه إلى الشاعر أم إلى المواطن لمعرفة رأيه مما يجري؟

= يمكن توجيه السؤال إلى الاثنين، على أن جوابهما قد لا يكون متطابقاً.

- لنبدأ بالمواطن، إذاً؟

= لعلي في هذا الجانب أقرب إلى المواطن-المتفرج مثل كثيرين غيري، طالما أننا نتابع تلفزيونياً أو إلكترونياً أكثر مما نقرأ عن هذا الحراك، عدا أنني لا أستطيع أن أجد في المكتبة العربية كتباً كثيرة تفيدني في فهم ما يجري، أو ما كان يعتمل في الداخل العربي. حتى ما أقرأه اليوم، أو أسمعه، لا يعدو كونه في غالبه الغالب كلاماً سياسوياً، أي من السجال والحجاج ليس إلا. أيعني هذا أن ما يجري جديد ومفاجىء؟ طبعاً، بدليل أنهم يتكلون على الوسائل الإلكترونية، التي تتيح الخفاء والتلطي والتبليغ السريع، ما يجمع بين الحلقة الضيقة وعلانية الشارع.

-لماذا تسميه بالحراك، وليس بالثورات وغيرها؟

= لأن ما يجري مختلف بين مصر وتونس، من جهة، وبين كل بلد عربي آخر، مثل ليبيا واليمن وسوريا والبحرين وغيرها، من جهة ثانية. وأعتقد أن تجميع هذه التحركات في أنموذج واحد تدبيرٌ غير مناسب، على الرغم من تفاعلات أكيدة بين هذه التجارب المختلفة، أظهرت رسوخ وتأكد التجارب “الوطنية” وفق محدداتها الخاصة، من جهة، كما أظهرت، من جهة ثانية، قدراً من التفاعل فيها بينها، لا يمكن نكرانه أو التخفيف من أثره. حتى إن تقليد الحركات لبعضها البعض ينتج عن محركي الأفعال الاحتجاجية نفسها، إذ لا يتورعون عن التقليد والمحاكاة أحياناً.

كما ألجأ إلى استعمال لفظ “الحراك” لسبب آخر، وهو أن ما نعايشه لا يرقى إلى “الثورة”، كما يحلو للكثيرين القول. إذ إن أنجح التجارب حتى اليوم، وهما تجربتا مصر وتونس، لا تزالان دون القدرة الفعلية على “تغيير النظام”، وترقيان وحسب إلى تغيير الحكومة، ورأس السلطة وبعض حاشيته وبطانته. أضيف إلى هذا سبباً آخر، وهو أن الديكتاتورية العربية لم تزرع سوى التسلط أو الخواء الراكد في قعر الانتماءات الاجتماعية والعشائرية. وإذا كانت لتجربتَي مصر وتونس بعض مقادير النجاح فيعود إلى إرث مدني أكيد، مسند ومعطوف على غلبة مذهبية لا تواجه مشاكل الاعتراف بالآخر، أياً كان وجهه.

لقد استوقفني كثيراً كيف أن الإقبال على التصويت في مصر – وكانت التجربة الديمقراطية والوحيدة التي حدثت في غمار هذا الحراك – لم تنجح في استجلاب سوى 42 بالمئة من المقترعين، فضلاً عن أن الكثيرين من قادة الرأي يعملون حالياً في مصر على رفض الإصلاحات الدستورية وعلى فتح النقاش من جديد في تعديل الدستور. ألا ترى معي أن قادة الرأي اليقظين في مصر وتونس يعملون على تأجيل الانتخابات، التي طالما نادوا بها، لأنهم يتوجسون من هيئة “الطالع” من صناديق الانتخاب، خائفين من أن لا تكون له بعض ملامحهم بل ملامح أخرى كريهة؟

- أيعني هذا أن مأمول هذا الحراك سيكون محدوداً؟

= بات الأفق مفتوحاً، غير أنه يعنيني أن أكون يقظاً وحذراً في مراقبة وفهم ما يجري، لأن مسألة بناء الدولة ملحة بقدر ما هي إشكالية في البلاد العربية. ذلك أنها عرفت الحكومة والسلطة والحزب الحاكم، لكنها لم تعرف سوى في تجارب قليلة، وفي أوقات محدودة، كما في لبنان ومصر وتونس والمغرب وغيرها، بناء الدولة أو قيامها بعدد من سلوكات الدولة الحديثة. وما يعيق قيام الدولة لا يتمثل فقط – مثلما يظن البعض، ومنهم قادة الحراك الحالي – في الاستبداد، ولا يتحصل في “الحرية” – كما هو شعار المتظاهرين -، وإنما في الجانب الاجتماعي خصوصاً من حياة مجتمعاتنا.

قيل الكثير عن أن مسألة “توريث الحكم” في الأنظمة “الثورية” و”التقدمية” (كما كانت تسمى) هي التي أججت الصراع على السلطة، إلا أن ما أججه واقعاً هو نهب خيرات البلاد المنظم من هؤلاء الورثة. وهو ما عكس وجهاً من وجوه التأزم الاجتماعي-الاقتصادي الذي أشير إليه.

-أيعني هذا أن غياب البعد الاجتماعي-الاقتصادي هو الذي يمنع هذا الحراك من أن يكون “ثورة” فعلاً؟

=لا يزال الحديث عن “الثورة” حديثاً مشتهى ولكن غير حاصل في أوضاعنا العربية. الانقلابات هي ما نسميه الثورات. وتغيير الحاكم أو الحكومة – بمعاونة أجنبية أكيدة ومباشرة في بعض الأحوال – نطلق عليها تسمية “ثورات”. وإطلاق كبت سياسي دفين في طقوس مذهبية نسميه “ثورات”...

أنا لا أبخس هذا الحراك السياسي حقه، خاصة وأنه يصدر عن شباب لم يعرفوا من السياسة سوى الرضوخ المهين، ومن العيش سوى استجداء ما هو حق لهم. هذا ما تمثل أحياناً في شعارات مبتكرة لا تظهر إلا في حمى العراك و“إبداعيته” المفاجئة، مثل الشعار التالي: “عفواً، سيدي الرئيس، انتهت المكالمة لأن رصيدك قد نفذ”.

هناك دم كثير قد سال في الشوارع العربية، وبقَّعَ شاشات العالم، وعنى خروج كريماً للعربي إلى العلانية التاريخية، وإن بوجوه متشابهة في التظاهرات، ولا ترقى بعد إلى هيئات الأفراد المتمايزة، بكل ما يحمله هذا الخروج من مصاعب وإشكالات. لهذا يمكن اعتبار ما يجري بروزاً سياسياً قلما عرفناه، وقلما شارك في السابق في صنع السياسات وبلورتها.

لكن هذا الخروج، الذي أظهر وجهاً مثل وائل غنيم، ما لبث أن أعاده إلى العتمة الإلكترونية من جديد، كما أظهر لوجوهنا هيئات الشهداء والقتلى العموميين في غالب الأحوال. عدا أن ما يسمى “ثورات اليوم” يشبه هبات جماهيرية قديمة، ولا تستند إلا في القليل إلى عدة الزمن السياسي الحاضر.

-ما الجديد السياسي في ما تعاين وتصف؟

=إنها نقلة كبيرة، تتمثل في أن العمل السياسي الجماهيري ما عاد يتعين في حدود هلامية سياسية، وإنما بات يقر – ولو ضمنياً – بالحدود السياسية الموروثة عن الاستعمار. وهو إقرار واقعي، له نتائج سياسية أخرى، منها تغليب العناصر الوطنية والداخلية في الطلب على الحكم. وهو نوع من خروج جديد عما كانته السياسة في العهود الاستعمارية، أو ضد إسرائيل، أي ضد الخارج، وباتت السياسة طلباً نزاعياً في الداخل. وهو وجه من الخروج على “الإجماعية” التي أنتقدها في أكثر من مظهر من الحياة العربية.

-ما المقصود بالإجماعية هذه؟ ألها وجه ثقافي أيضاً؟

=هذا ما أطلقتُ عليه في الثقافة، والشعر عموماً، تسمية “الواحدية التمامية”، أي الخطاب الذي يركن إلى مرجعية لا تقوم على التعدد والتخالف والتباين، وإنما على قيم لا تقر إلا بالواحد، الجامع، والذي له صورة تمامية.

كما تفتقد الحداثة الشعرية واقعاً إلى القارىء الحديث والثقافة الحديثة بوصفهما وليدَي الحداثة الاجتماعية، كذلك فإن الحداثة الإيديولوجية والسياسية تفتقر إلى الحداثة الاجتماعية... نشكو من السياسة، وننادي بتغيير السياسة، فيما ننسى أن ما صنع “الثورة” الفرنسية هو “عصر الأنوار” وبروز البورجوازية الحاسم، قبل الشعب.

ذلك أن نسيج العلاقات الاجتماعية لا يزال في أحوال عديدة تقليدي المباني، وهو ما للدعوات “الإسلاموية” قدرة على التعايش معه والتسلل إليه، طالما أن فكر “الأمة” بالمعنى الإسلامي يوافق المبنى “الإجماعي” الذي تقوم عليه السلطة التقليدية المتمثلة في سلطة “رب العشيرة”.

-الأفق مفتوح، كما قلت، لكنه إشكالي، أليس كذلك؟

=تماماً، إلا أنه بات مرهوناً بإرادات خرجت إلى السياسة، وإن لم تنتظم في أحزاب ونقابات، أو لم يتح بعد لتجاربها الناشئة أن تعرف مقادير من التنظيم بما يناسب بناء الدولة وتداول السلطة.

-كيف يصير الحراك ثورة فعلاً؟

= يصعب على هذا الحراك أن يبلغ في مداه المتوقع والممكن مرحلة "الثورة"؛ وأقوى ما يمكن أن يبلغه هو تغيير الحكم، وهو ليس بالأمر الهين، وكان صعب التصور قبل شهور قليلة. ذلك أنه لا يتم التمييز تماماً بين إسقاط النظام وإسقاط الحكم، ويقتصر النظام في كلام الكثيرين على تغيير شخص الحاكم وبطانته. بينما يشمل تغيير النظام بنى المجتمع، وهو ما يتمخض في المجتمع قبل ذلك، في الذهنية والسلوكات، في الفكر والتنظيم، في بناء القوى المحركة.

ينجح بعض هذا الحراك في إسقاط الديكتاتور، لكنه قد يصعب عليه بناء الدولة، بناء الديمقراطية خصوصاً.

-وماذا يقول الشاعر؟ لقد انتبهتُ في كتابك “ترانزيت” إلى أن أحد “المتكلمين” يصر، في نهاية الكتاب، على البقاء في العتمة: لا يرغب في الخروج. هل تعتقد أنه خرج مع الاحتجاجات في الساحات العربية الأخيرة؟

= ربما... على أي حال "اللعبة" مفتوحة، كما يقال، ولا يسع العاقل أن يتوقع مآل الحراك الجاري.

لن أجد خروجه غريباً إن ذهب إلى الساحات، ذلك أن هذا المتكلم وغيره أيضاً انتقلوا إلى ساحات افتراضية في النص لأنهم لم يقووا على العيش في ساحات موجودة.

ابتعدت منذ مجموعاتي الشعرية الثلاث الأخيرة، في غالب قصائدها، عن معايشة أو متابعة ما يجري، لي أو لغيري، واتجهت صوب مساحات افتراضية، ينبني فيها النص. وهو ما بدأ منذ مجموعة: “لا تبحث عن معنى لعله يلقاك”، حيث إنني في نصين مطولين جعلت الكلام يتوزع بين متكلمين، كما لم يكن لهم اسم ولا هيئة ولا سيرة مخصوصة، غير حضورهم النصي نفسه.

-ألهذا جعلت أيضاً الشهيد يعود “على أدراجه” في مجموعتك الأخيرة: “القصيدة لمن يشتهيها”؟

=نعم. هذا ما انطلقتْ منه إحدى القصائد: ماذا لو يعود الشهيد على أدراجه؟ ماذا سيقول عن حضوره المستجد؟ أسيتعرف على صورته؟ أيمكنه أن يخلد إلى الموت أم أنه سينادي بلزوم العودة إلى الحياة؟

هذا الشعر ينبني في مساحات وأسئلة بعيدة عن الواقع إلا أنها ناتجة عنه، في نوع من المساءلة له، من رفضه، من قلبه على قفاه.

-هل تعتقد أن هذا الحراك سيؤدي إلى انتعاش الشعر السياسي؟

=هو منتعش قبله وبعده من دون شك، إلا أنه لن يزيد من إسهام الشعر النوعي في إنارة ما يجري أو ما له أن يعبر فيه.

أعتقد، بالمقابل، أن هناك أدباً آخر سيعرف مقداراً مزيداً من القبول، أي الأدب الحامل أكثر لنبض الحياة العميق، ولبهجتها وخفتها.

- تنطلق “ترانزيت” من احتجاز مسافرِين في مطار: ألهذا صلة بما حدث في مطار بيروت في أحداث ربيع العام 2008؟

= كُتب النص قبل ذلك.

- أله علاقة بما قاله مصطفى الكيلاني في حديثه، في كتابه عنك، عن “الهجس بالكارثة”؟

= قد يكون الهاجس والتشهي والتخيل وغيرها شكلاً من الانهمام، من الاندراج في سياق يخصني ويتعداني. الشعر، عندي، لا يصوغ معنى، وإنما يتقلب ويتحرق في ما له أن يقول، بالاختلاف مع مشاريع الوعي “الصاحية”، مشاريع النفوذ التي يُحَمِّلُها البعض للقصيدة.

- تعتمد الشكل الحواري، والكاميرا والحاسوب والشاشة الإلكترونية: أهذا شعر؟

= ألا ترى أنك تُمسك بنموذج سابق للقصيدة، فتُسقط سلفاً أساليب ممكنة في الكتابة، وتعلي من غيرها، أي ما هو معروف، أو تصطفيه وحده؟ ألا ترى أنك قد لا تكون طارحَ أسئلة، وإنما قاض وحسب؟

- عنوان “ترانزيت” غريب: ماذا جرى؟ لماذا؟

= هذا ما قاله البعض عند استعمالي لفظ “رشم”، القديم عنواناً لقصيدة... يبدو أن هذا البعض يتقيد حتى اليوم بقواعد بلاغية خافية، تجيز ولا تجيز، تستحسن وتستقبح في ألفاظ اللغة، بينما أظن أن اللغة هي بتصرف الشاعر، لا يستعملها وحسب، وإنما يبدل بعض تراكيبها أو يزيد مشتقات فيها.

- كيف لك أن تقرأ في أمسية ابتداء من “ترانزيت”؟

= الروائيون والقاصون لا يجدون صعوبة في ما يُقدمون عليه في قراءة علنية، فلماذا تكون للشاعر – ومهمته أسهل من هؤلاء على أي حال - مثل هذه الصعوبة. أقول هذا من باب افتراضي، ذلك أنني قلما أقرأ شعري، لا هذا ولا سابقه.

هناك من يقرأ الشعر على أنه يسمعه واقعاً، طالما أنه يريد تسليم نفسه لمتعةِ أن تحمله الكلمات بصورها، ورنينِها، ومراكبِها الخافية إلى حيث يسافر، فيما يحلو لي أن أكون قارئاً مختلفاً، مثل من يدخل إلى غابة: له أن يبقى يقظاً، ويرود فضاء القصيدة للمرة الأولى فعلاً.

- تتحدث عن “القارىء” في أكثر من قصيدة: أهو شريك؟

= طبعاً، بدليل أنني أعمد في أكثر من قصيدة - وحين يكون ذلك ممكناً - إلى عدم تحريك حرف أو أكثر في لفظ ما يتيح تلفظه في أكثر من طريقة، فلا أفرض على القارىء بالتالي أو أُلزمه بقراءة بعينها.

- هناك متكلمون مختلفون في “ترانزيت”، أين أنت منهم؟

= ما وجب التنبيه إليه أنه يصعب نسبة القول، أي قول، لي حصرياً وتحديداً. وهي ملاحظة تفيد كذلك في تبيان ما يقوله النص، حيث إن الشاعر – أي أنا – لا يقوى، بل يمتنع أساساً عن أن ينسب قول المتكلمين إليه، وأن يتبناه كإعلان عنه. هو يتكفل بالأقوال كلها، طبعاً، ولكن بالمعنى الكتابي فقط، لا بالمعنى الفردي أو الاجتماعي. وما أردته من توزيع الكلام، أو من انتشاره بين متكلمين مختلفين، هو تحديداً ما قلتُه ابتداء من عنوان مجموعة: “لا تبحث عن معنى...”، فإنك قد لا تجده، بالمعنى المتعارف عليه، طالما أن الكلام يتوزع وينتشر، فيقول متكلم خلاف ما يقوله متكلم آخر، أو قد يتعين المعنى في “تقليب” له، يُظهر احتمالاته أو وجوهه التي تتشارك وتتنقل فوق خشبة القول.

ومناسبة الجواب تتيح لي التوقف عند مسألة ملازمة لقولي هذا، وهي أننا ننساق غالباً إلى تنسيب القول إلى المؤلف، مثل شهادة أو اعتراف أو بوح، فيما أرى إلى الشاعر تخصيصاً، وإلى الكاتب عموماً، على أنه “متعهد معنى”، إذا جاز القول، أي أن هذا هو ما يعمل عليه، وأن ما يكتبه هو ما يصل إليه ويثبته تحت توقيعه، تحت اسمه الفني أحياناً.

ما يعنيني – لو شئت الاختصار – هو المعنى نفسه، لا أنا.

- أتضايقك الصلة بالمسرح؟

= لا، أبداً. بل أعترف أن أول نص أدبي كتبته في الرابعة عشرة من عمري كان مسرحية. وهو ما فعلته بعد ذلك قبل إقدامي الاحترافي على كتابة الشعر ونشره. إلا أن المسرح يختلف عن الشعر. المسرح حضور غير قابل للاستعادة. هو ما يجري ولا يعود، إلا مختلفاً بالضرورة، بخلاف القصيدة والفيلم والفيديو إذ يمكن إعادتها إلى الخلف، أو التقدم بها إلى أمام. والمسرحية في ذلك تشبه ضربة الريشة: أولى ونهائية، وإن تتم أحياناً استعادتها و”تصحيحها”.

- إلا أنك تُعوِّل على “عدة” المسرح في غير قصيدة لك.

= أجل، بل أطمح إلى أكثر من ذلك وهو الكلمة-الحركة، أو الجملة-الحركة، أي أن يكون الكلام بمثابة فعل، بمثابة حركة. وأطمع كذلك في أن ينبني الكلام مثل بيت مؤقت لساكنيه الذين من ورق ورغبات.

لقد تنبهت مؤخراً إلى أن مسعاي في التكالم ليس جديداً، لم ينتظم منذ مجموعتي الشعرية: “لا تبحث عن معنى لعله يلقاك”، وإنما قبل ذلك بكثير. ومن يطلب التدقيق في المسألة، سيجد في قصيدتي الأولى - الاحترافية، إذا جاز القول- في “الملحق” الأدبي لجريدة “النهار”، في أيلول-سبتمبر من العام 1971، سيجد النص ينطلق أو يبتدئ ابتداءات تنبئ عن قولية صريحة، عن مخاطبة لا تشير دوماً إلى مكان صدورها، إلى تعينها، أشبه بانتقالات للصوت، لأصوات مختلفة في مدى القصيدة. ولو عاد المدقق إلى مجموعتي الأولى، “فتات البياض”، لانتبه إلى أنني وضعت في استهلالها قولاً شعرياً لا يرد في متن المجموعة؛ وهو قول أختمه بهذه العبارة: “وأنا الصوت، الصوت، الصوت”. ومن يفحص أكثر من قصيدة في هذه المجموعة الأولى يتحقق من أنني أدخلت السرد، بل الجمل الحوارية بين متكلمين، في بناء فني صريح لهذه القصائد.

للقصيدة، في هذا المنظور، أن تتدبر تشكلها، فضاءها التعبيري، من دون أن تحيل على شكل قالبي مستقر أو معهود.

- تعتمد في “ترانزيت”، وقبله في “لا تبحث عن معنى...”، وبعده في عملك السردي “وصية هابيل”، على أساليب متعددة، يعود بعضها إلى تقنيات الحاسوب نفسها. لماذا؟

= الحاسوب أداتي في الكتابة، أياًَ كان نوعها. وأنا لا أقحم الحاسوب فيها عمدياً، بل السؤال البديهي هو: هل يعقل أن يبقى الشعر كما السرد بمنأى عن الحاسوب؟

عدت في “وصية هابيل” إلى طرق كتابية متعددة يتيحها الحاسوب. عدت إلى الرسالة الإلكترونية، حيث إن القسم الأوسع من الفصل الأول يقوم على تبادل رسائل إلكترونية. وعدت إلى “الدردشة الإلكترونية” (“التشات”، كما يسميه البعض) وغيرها مما يسميه أحد المتكلمين في الرواية بـ”التكالم”... وهي طرق كتابية لها ان تنوع الكتابة وتجددها، عدا أنها تتيح لعبة التخفي والظهور المختلف أو المؤجل. وهذا ما يناسب السرد نفسه في كتابي. لهذا جعلت من عدم التصديق طريقة لنظري إلى الكتابة وإلى التاريخ قبلها.

- وهو ما يمكن قوله في صورة أقوى في علاقاتك بالتشكيل تحديداً؟

= طبعاً، وهو ما لا أنتبه إليه، لأنه بات مندمجاً في صنعي بطريقة لا فكاك منها، إن جاز القول. هذا ما انتبهت إليه نظرياً، في المقام الأول. فأول دراسة نقدية أقدمت عليها – وهي جزء من الفصل الأول من أطروحتي الجامعية الأولى – تناولت الشكل البصري للقصيدة العربية الحديثة. كان ذلك في العام 1979، وتنبه لجدتها، في تقديمه لها، ناشر مجلة “دراسات عربية” في بيروت. وهو ما تعزز لدي في تعرفي المقرب على تجربة الدارسة الفرنسية الراحلة ميتسو رونا، عندما أقدمت على نشر رائعة ستيفان ملرمه: “ضربة نرد...”، ونشرتها وفق خطة الشاعر لها، إذ يمكن أن تكون هذه القصيدة أول مسعى شعري في العالم اعتنى بقيام معمارية أكيدة للقصيدة.

- تشدد دوماً على أن الكتابة “عمل”، بل “تجربة”. ماذا تقصد من وراء هذا القول؟

= هذه المرة وجدت حلاً لما انتبهتُ إليه سابقاً من دون أن أعالجه بما يناسب؛ وهو أن الكاتب “بيده الواحدة”، أي بالقلم، يمكن له أن يحتفظ بمخطوطه، وبما يُظهر التعديلات والتصحيحات والتشطيبات والإقحامات وغيرها من عمليات التدخل في النص، بينما لا يقوى الكاتب الإلكتروني على ذلك.

وجدت الحل في صورة نسبية، إذ أحتفظ بثلاث “حالات” من أحوال النص الذي أكتب حالياً. هذا ليس الحل “المثالي”، ولا يجيب عن جميع المعضلات التي لها أن تساعد في درس “تكوين” الكتاب، إلا أنها توفر بعضاً من هذه الأحوال، بما يُظهر بعض “الكتل النصية” التي زيدت، أو انتقلت، فضلاً عن بعض التبديلات أو التحسينات الصياغية.

إلا أنني أنتبه – وأنا أقول هذا – بأن الولوج إلى “تكوين” النص يبقى عصياً، إذ إنه ليس صالة لكي يدخل إليها من باب أو أكثر، وليس نقطة وصول يمكن بلوغها من أكثر من نقطة، وانتهاءً إلى نقطة وصولها الأكيدة، والختامية.

وهو ما يحلو لي الحديث عنه، عن أن الكتاب “تجربة”، وأنه “عمل قيد التقدم”؛ وهو تركيب لفظي يمكن نقله أو صياغته وفق أكثر من صيغة، كأن تقول: نص قيد الكتابة، عمل قيد العملان، أو لوحة قيد التشكل، وغيرها بما يفيد عن أن العمل ليس تدويناً، ولا تقييد “حالة” أو “فكرة” وغيرها؛ وأنه بالأحرى عمل يتعين في جريانه، في حصوله، بما يقدم لكاتبه أحوالاً و”مقترحات”، فيحتفظ منها أو يشطب، ويعدل أو يحيد بما يعمله صوب وجهة أخرى...

وهي تجربة كتابية بالتالي تذهب فيها القصيدة إلى حيث لم تعرف الحياة، بدليل أن الكاتب، روائياً ومسرحياً، لا يعرف جميع الشخصيات التي تناولها في كتابته.

وهو ما يدفع ببعض النقد الحالي إلى اعتبار الناقد بمثابة “القارىء”، طالما أن الناقد لا يقوى على استقبال النص إلا وفق مقدراته، وهي مقدرات – وإن فاقت مقدرات القراء الآخرين، أي غير المحترفين – مقيدة باحتمالات المعنى التاريخي بالضرورة.

لهذا لا تخرج القصيدة عن أفق المعنى، وإن لم يقرئها أحد.

- وماذا عن اللفظ؟ أهو “لقيا أثرية” تعثر عليها، كما تقول في قصيدة لك؟ وما علاقته بالمعنى والمبنى في النص؟

= طبعاً اللفظ لقيا أثرية، طالما أنه يسبقني بما يحمله ويذيعه، وهو يكتبني ويقيمني في بنيان القصيدة بمنأى عني تقريباً. فأنا، في اللفظ، محمول على أجنحته الطرية، وفي ذلك أكتشف القصيدة أكثر مما أكتبها. ذلك أن اللغة تحملنا كما تستقبلنا.

- أسألك أين حياة شربل داغر وتفاصيلها في هذه المجموعات؟

= عمن تسأل؟ عنه أم عني؟

- عنك، بما أنك المتكلم.

= هي فيها بما لا أقوى على عرضه، وإن رغبتُ أو سعيت إلى ذلك. هي فيها بما يتعدى هذه الواقعة أو تلك، هذا الانفعال الحادث أو ذاك. هي في الرغبة التي تتملك أسباب القول، طالما أنها أسباب تعمل على دفع الموت بالضرورة، وعلى نصب خشبة أخرى للحياة، وما بعد الحياة كذلك. هي فيها طالما أن الشعر احتفال بالحياة، من حيث لم تكن ربما، ولن تكون. احتفالٌ وإن هو مبلل بدمع الفقدان.

- كيف للدارس أن يدرس الانتقال في كتبك الشعرية من نمط جملة إلى آخر؟

= عليه أن يتنقل بدوره. عليه أن يبقى يقظاً.

- أين أنتَ في الكتاب؟

= فيهم، وبينهم، ومن حولهم، فلا أجلس أو أستكين.

- ألهذا ترد كثيراً صورة “القطار”؟

= أحب القطار، وأتنقل فيه، وفق اتجاه الرحلة أو عكسها، أو ماشياً... على أنني أدرك أنه لا يفيد الركض في المقصورات لأنني لن أصل، على أي حال، قبل القطار نفسه.

لهذا قد تكون الحياة أجمل في ما تعيشه الكتابة من حياة في الكتابة؟

- وهذا الذي مضى؟

= لن يعود على أعقابه، لن يعود إلى حيث بدأ.

- عملتَ على تصحيح اسم هذا النوع من الشعر: “القصيدة بالنثر” أو “القصيدة نثراً” أو “القصيدة النثرية”. أهي هذه القصيدة كما ترى إليها؟

= أنا أكتب، ولا أوزع الجمل كما يوزع ساعي البريد طروده في علبها المنتظرة. وإن اخترتُ القصيدة بالنثر لكتابة الشعر فذلك لأنها تمنحني هذه الحرية التي أريد استثمارها والتقصي في احتمالاتها التركيبية.

أنا أكتب في اتجاه ما يسبقني وأعالجه. أنا أكتب ما له أن يستقبلني من دون استئذاني برفع بطاقة الهوية أو إذن المرور.

- يشتمل جوابك على نقد ضمني لهذه القصيدة كما تُكتب. أليس كذلك؟

= لو كان لي أن أكتب ما يكتبه غيري لانقطعتُ عن الكتابة... لما انصرفتُ إليها.

يستوقفني، إذ أقرأ مجموعات الشعر المتتالية الصدور، كيف أنها متشابهة، كما لو أنها تصطف في تظاهرة أو في صيغ امتثال... بينما يعنيني، إذ أرى إلى نص كتبته ونسيته بين أوراقي وعدت إليه بعد وقت، أن أكتشفه مثل نص لغيري، مثل نص أشتهيه على أنه لغيري.

لا يسعني النظر إلى النص الشعري إلا مثل رحلة، مثل تجوال غير محسوب الخطوات والتوقعات.

(نُشر الحوار في جزئين: في “الجزيرة نت” في 12-7-2011، وفي جريدة “العرب اليوم”، عَمان، في 18-7-2011).