ماذا يعني أن تبدأ بشربل داغر؟ أربعون عاماً في الشعر يؤثثها بـ"تجوال غير محسوب الخطوات والتوقعات"، لكنها تنبني برؤية واثقة تطّل على الحياة والكون بعين الناقد، التي لا تكف عن يقظتها وعمق نظرتها، وتترك في الوقت نفسه روح الشاعر/ الكاتب مبحرة في "تكالمها" مع الوجود منذ قصيدته الأولى وحتى اليوم.
"التكالم" ليس مجرد حيلة ابتدعها داغر لإشراك القارئ في لعبة الكتابة وتجددها، معتمداً طرقاً كتابية متعددة يتيحها الحاسوب، كالرسالة الالكترونية والدردشة الالكترونية، إنما هي جزء لا ينفصم من رؤيته في الكتابة والعيش.
تلك الحيلة أتاحت للكاتب التخفي والظهور المختلف أو المؤجل، كما في روايته "وصية هابيل"، وهي الحيلة ذاتها التي وضعت مشروعه الكتابي حواراَ مفتوحاَ وتفاعلاً دائماً مع عوالمه المحيطة لتبقى القصيدة/ الكتابة مشتهاة لا تُمسك أبداً.
يغريني شربل بسؤاله الأزلي عن الشعر: المعنى والمبنى، القصيدة والشاعر، الدهشة واليقظة، الشهوة والانطفاء، المعرفة والغيب، البداية والنهاية، فيبدأ كل كتاب له بهذا السؤال ليصل إلى إجابة تحمله مرة أخرى إلى طرح السؤال في كتابه اللاحق. فهو لا يريد لسؤاله هذا أن يصل إلى مقولة حاسمة.
على هذا السؤال التقينا في حوار أجريته مع شربل على جزءين، ونشر هذا العام (...).
حوار لن ينتهي بين شربل وبيني، في توازٍ مع حواره الدائم مع القصيدة، ولا أقطعه إلاّ من أجل المتعة، فأقرأ من ديوانه "القصيدة لمن يشتهيها":
"تقرع القصيدة على بوابات الغفلة،
من دون استئذان،
لمباغتة النائمين بثيابهم،
المتربصين بأي نداء...".
يخلص شربل داغر لقصيدته بوصفها فضاءً متعدد الأصوات، ومفتوحة على الفنون والإبداعات المختلفة مثل التشكيل والمسرح والسرد. تعدد وانفتاح يولدهما عقل نقدي ينشغل في ترسيخ ما جرّبه، ومؤمناً أن الفكر نسغ ينمي الشعر ولا يفقره أبداً (...).
(في تقديم الأمسية التي أقامتها "قاعة الأورفلي"، في عمان، مساء التاسع عشر من كانون الأول من سنة 2011).