يرى الشاعر اللبناني شربل داغر أن القصيدة هي أشبه بالمرآة والنافذة في آن واحد، إذ ترى القصيدة نفسها فيما ترى غيرها. وهو ما جعل لقصيدته بعداً تأملياً أكيداً يبتعد به عن جاري الشعر، الذي اعتاد على الغناء بأصوات عالية. وهو لذلك يستحسن ما كان الدكتور محمد مندور قد قاله منذ أربعينيات القرن الماضي حين تحدث عن «شعر مهموس» بدل الحديث عن «شعر خطابي». وهو لذلك استعذب كتابة الرواية ووجد أن كتابة الشعر «مؤلمة» طالما أنها تعرِّض النفس لمواجهات ولامتحانات أكيدة.
يتميز مشوار داغر الإبداعي بالتنوع حيث اتسع للشعر، والترجمة، والرواية، والنقد الأدبي والجماليات الفنية، ففي مجال الشعر صدر له: «فتات البياض»، «رشم»، «تخت شرقي»، «حاطب ليل»، «غيري بصفة كوني»، «إعراباً لشكل»، «لا تبحث عن معنى لعله يلقاك»، «تلدني كلماتي»، «ترانزيت»، «وليمة قمر» و«القصيدة لمن يشتهيها».
وبمناسبة زيارته للقاهرة، والاحتفاء بصدور كتابه «وليمة قمر» عن «هيئة قصور الثقافة»، وصدور مجموعته الجديدة «القصيدة لمن يشتهيها»، التقته «الدوحة»، وكان هذا اللقاء:

-صدرت لك في القاهرة مختارات شعرية بعنوان: «وليمة قمر». ماذا تقول فيها؟
=تعود القصائد المدرجة في الكتاب إلى بعض كتبي الشعرية، ومنها: «فتات البياض»، و«رشم»، و«حاطب ليل»، و«إعراباً لشكل»، و«لا تبحث عن معنى لعله يلقاك». كما تشتمل المختارات على قصيدتي الأولى «الاحترافية»، إذا جاز القول، ولم تصدر سابقاً في كتاب، وهي «وأينعت أزهارنا على القحط»، التي نشرت في «الملحق» الأدبي لجريدة «النهار» اللبنانية، في العام 1971 .
ولا تخضع القصائد في ورودها إلى ترتيب زمني، أي إلى صدور الكتب في تتابعها، وإنما إلى نظام آخر تأليفي، إذا جاز القول، لا يعبأ بالزمن الذي يعمد إليه بعض الشعراء الذين يصدرون أعمالاً يطلقون عليها «كاملة»، فيما هم عاملون في إنتاج الشعر وإصداره.
ومع ذلك يمكن التنبه إلى شيء من الترتيب في «المختارات»: فهناك قصائد تجعل من السيرة الشخصية موضوعاً أو فضاءات للكتابة الشعرية، وهناك قصائد تجعل من القصيدة موضوعاًَ لها، وهناك غيرها مما يعود إلى شعري القديم.
-شربل داغر لا يسعى إلى إلقاء قصائده على الجمهور، بل يفضل أن يكون ذلك في حضور قليل، لماذا؟
=الكتاب عموماً يحتاج إلى جلسة انفرادية للقراءة، فكيف إذا كان الكتاب شعراً حديثاً. والنص الحديث يحتاج إلى إصغاء شديد، يتعدى الإصغاء السمعي ليبلغ الإصغاء النفسي الداخلي، بل يحتاج إلى شدة انتباه القارئ. وهو ما يقوى عليه القارئ طالما أنه يستطيع أن يقرأ السطر والنص، وأن يتوقف ساعة يشاء، وأن يعود القهقرى، وأن يتقدم بسرعة في النص ويعود إليه من جديد.
قراءة النص الحديث هي أشبه بالنزهة في بستان، بما يستتبعه من وقوف وتأمل وربما من تكرار للخطى في المكان نفسه. لهذا لا أحبذ كثيراً إلقاء الشعر في أمسيات، وإن كنت ألقيت في عدد من المرات القليلة فذلك يعود إلى ظروف الإلقاء التي كانت تنعقد في أمكنة مغلقة وفي جلسات مركزة لا يتعدى عدد الحاضرين فيها العشرات. وهناك سبب آخر يمنعني من إلقاء القصائد طالما أنني أكتب أحياناً في قصائدي جملاً يمكن للقارئ أن يقرأها في احتمالات مختلفة، فلا أعمد إلى تمييزها بحركات الإعراب. وهي بمثابة الفخ الجمالي حيث إنها دعوة ضمنية للقارئ إلى أن يشاركني في القصيدة، ومن دون أن يعرف بالضرورة أنه اختار احتمالاً من احتمالات هذه الجملة المفخخة أو تلك.. فأنا لو ألقيت هذه القصائد في أمسية فسوف أكون ملزماً حكماً بتحريكها، وهذا ما أتحاشاه.
-أيعني هذا وقوفك ضد الشعر المنبري؟
=سبق للناقد المصري الراحل الدكتور محمد مندور أن تحدث في أحد كتبه، في معرض حديثه عن «الشعر المهجري»، عن «الأدب المهموس»؛ وهو تعبير استقاه من أصل فرنسي يشير إلى صوت منخفض، واستعمله مندور لتمييز شعر ناشئ في العربية، يختلف مع ما كان عليه الشعر القديم، «الخطابي» كما يسميه. وأنا يروق لي العودة إلى هذا الكلام النقدي في الكلام عن شعري، طالما أنني في القصيدة لا أتوجه إلى غيري إلا بالمقدار الذي أتوجه به إلى نفسي. والقصيدة في ذلك تكون نافذة تفضي إلى الخارج بقدر ما هي مرآة تعكس ما يقع عليها.
هكذا لا تكون القصيدة صالحة لمنبر أو لخطبة، كما أن الشاعر لا يقف فيها وقفة الخطيب أو الواعظ أو الموجه، وإنما هو منشغل كفاية بصنيعه الشعري، بما له أن يقول انشغالاً وجودياً يحول بينه وبين أن يكون صاحب رسالة أو «موقف» كما يحلو للبعض الحديث عن شعرهم.
-كتبت في صدر مجموعتك الشعرية الأولى «فتات البياض» عام 1981 «إلى شربل: حتى لا يصير شاعراً».. لماذا هذه العبارة، خاصة وأنت الذي أصدرت أكثر من مجموعة شعرية بعد ذلك؟
=أحتفظ منذ أيام المراهقة حتى أيامي هذه بحركة تعود إلى بدايات ولعي بالشعر. وهي حركة لا واعية أشرع فيها بتحريك أصبعي في الهواء أو على بنطلوني أشبه بطبشورة فوق لوح مدرسي، فأكتب ألفاظاً أو عبارات مما يصدر عني وفق حركة تكاد تكون تلقائية أو عفوية. أحتفظ بهذه الحركة كما أحتفظ بتركة قديمة لما حركني وأجهل مصدره حتى اليوم. مثل ينبوع يفيض بمائه من دون أن ندرك مياهه الجوفية أبداً..
مثل هذا الولع فتنني وأخافني في الوقت عينه، لدرجة أنني كنت أطلبه أشبه بمن يمشي ليلاً، أو بمن يسبقه الكلام إلى شفاهه. وهو ما حصل لي في المرة الأولى التي تنبهت فيها إلى أنني ألهج بالشعر، إذ استبدت بي رغبة جامحة إلى التلفظ، فخرجت من بيت أهلي، إلى الشارع، إلى إيقاع الخطوات فوق الرصيف، إلى الفضاء المفتوح وكأني أمام وليمة قمر.
هذه الحركة هي أقرب إلى التدوين الصامت لما كنت أفعله في الشارع وحدي.. هذه الصورة الأولى التي وجدت نفسي فيها متلعثماً بالشعر أربكتني بقدر ما جذبتني، وهي لا تزال تثيرني وتحرضني حتى اليوم على كتابة الشعر. وبهذا المعنى الرغبة في الشعر تشتمل على الخوف منه، مثلما تطلب الولع به. بل قلت ذات يوم بأن استمراري في كتابة الشعر عودة مستدامة إلى قصة الطفولة، إذ يظن الفتى أنه قادر على تحريك الأشياء كما يشاء، وعلى رؤية العالم يتموج أمامه كما في فيلم من الرسوم المتحركة. هذا الهوس بالشعر أتحقق منه دائماً عندما أقبل على كتابة الشعر.. ومن يعود إلى مجموعاتي الشعرية المختلفة سيتحقق من أنني ضمنتها قصائد تتحدث عن القصيدة، بل بلغ الأمر في مجموعتي الأخيرة، «القصيدة لمن يشتهيها»، أنني خصصتها بكاملها للقصيدة نفسها.
-مشروعك الأخير نود إلقاء الضوء عليه، ولماذا أخذت تتوجَّه إلى القصيدة في حد ذاتها؟
=«القصيدة لمن يشتهيها»، كتابي الصادر مؤخراً عن «دار النهضة العربية»، مساع مختلفة في الاقتراب من القصيدة، من كيانها وعالمها، في التوق إليها، في العيش فيها، في فحصها وتفقدها.. القصيدة بهذا المعنى هي موضوع المواضيع بالنسبة لي وقصيدة القصائد. ولقد جمعت في العنوان أو استعدت جزءاً من بيت شعري للولادة بنت المستكفي، وهي جملة «لمن يشتهيها». يشير العنوان، من جهة، إلى علاقة الشهوة بالقصيدة، وإلى علاقة المرأة بالقصيدة، من جهة ثانية. وهما عالمان متقاربان ومتباعدان في آن واحد. فشهوتي أو رغبتي في القصيدة، في الانصراف إليها، في العودة إليها دائماًً، هي أشبه بمن يطرق الباب عينه يومياً لكنه يطلب كل مرة جواباً مختلفاً، ومجيباً مختلفاًً. فللقصيدة علاقة شراكة مع المرأة، يمكن أن ينتبه إليها القارئ، في شعري السابق، في العلاقات التي أقيمها كثيراً بين المرأة والقصيدة، وخصوصاً بين المرأة واللغة. بل يمكن القول إن الإقبال على القصيدة يشبه الإقبال على المرأة بذات الحب وبذات الانفعال وطلباً لآخر أرغب في أن يكون شريكاًً لي. إلا أن الإقبال على القصيدة يعني أيضاً الانتهاء منها، بل أن تبقى من دوني. بهذا المعنى أقول «القصيدة ستسرق موتي». فالقارئ يتحقق في هذه المجموعة - وربما لأول مرة في شعري - من صورة قريبة للموت، أشبه بجار القصيدة.
-أين يجد شربل داغر نفسه: في الترجمة أم في كتابة الشعر؟
= هذه أحوال وأفعال تصدر عني، وأستمر في متابعتها، وفي تراكمها، من كتاب إلى آخر. هي ذاتي المتوزعة في انشغالات واهتمامات، ولا يسعني أن أفضل واحداً عن الآخر. إلا أن الشعر يبقى التعبير الأعمق عن نفسي، وربما الأبقى عنها أيضاًً، إذ إن دوافعه لا أعيها كلها. وبهذا المعنى تجذبني القصيدة بغموضها، بينما تنتسب البحوث إلى دائرة الوعي وتفيد الحرفة لا المتعة بالضرورة كما في الشعر.
أحدهم قال عني ذات يوم: «شربل داغر عدة كُتَّاب في شخص واحد». العبارة جميلة وقد تناسب وصف حالي. لقد قمت بمجهودات وأعمال في كل نطاق من نطاقات كتاباتي من دون أن أقوى على معرفة أساس وحدتها. وقد يكون الجواب عن هذا السؤال هو الأصعب بالنسبة لي، إذ إنه يدعوني إلى أن أكون في الوقت عينه: المتفرج والممثل والنص، بل ناقد العمل أيضاً. مثل هذا التعدد يثيرني مثل سر القصيدة في تكوينها، وهو من ثم يحرضني على الكتابة. وعندما أتوقف عن الكتابة ذات يوم لن أكون قد أجبت عن هذا السؤال.
- كيف ترى المشهد الشعري في لبنان؟
= الحاضر الشعري شديد التنوع والاختلاف، والسعي إلى جمع هذا الشعر تحت عنوان واحد قد يكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً، لأنه يعيش بأصوات شعرية مختلفة فيما بينها، بين شعر عمودي، ونثري وعامي وغيره. وهذا التنوع مرجعه استخدام أساليب مختلفة في كتابة الشعر، وتظهر بمقادير عالية من التجديد.
وما يميز قسماً واسعاً من شعر اليوم هو أن الشعراء فيه يسعون إلى تمييز أصواتهم ابتداء من أدوات فنية، مما يتأتى من الكتابة نفسها، لا من موضوعات أو من مواقع بعينها. هكذا يكون الشعر أقرب إلى أن يكون مدونة فردية وكتاباً شخصياً وتعبيراً خصوصياً. بهذا المعنى فإن الاختلافات بينهم تتأتى من اختلاف الحساسيات والخبرات والخيارات لديهم.
-يسعى شربل داغر إلى التخفيف من الأنا المتضخمة في القصيدة العربية: ما تعليقك على ذلك؟
=نعم، هذا ما أسعى إليه، وهو التخفيف إن لم يكن التخلص من خطاب الأنا المتحكم في القصيدة العربية بطريقة تبطل حداثتها بل إنسانيتها في نظري. فالشاعر في هذه القصيدة يخدم متكلماً لا يعدو أن يكون لسانه الرمزي عن نفسه وعن غيره. فهو يسوق الكلمات مثل الراعي مع قطيعه، ويتوجه إلى القارئ كما لو أنه عضو في تجمع، أو في تظاهرة.
-هل يمكن القول إن مجموعتك الشعرية السابقة، «ترانزيت»، خدمت هذا المسعى إذ قامت على نص واحد مبني على أساس حواري، كما اعتمدت في بنائها العام على الأصوات المتعددة؟

=هذا ما بدأت به سابقاً في مجموعة «لا تبحث عن معنى لعله يلقاك»، في نصين مطولين.. ولو عدتَ إلى شعري الأول، في «فتات البياض»، لوجدتَ قصائد تتوزع في أشكال حوارية. أما في «ترانزيت» فقد بلغت التجربة حدوداً قصوى، غير مسبوقة.
في هذا النص لا يمكن لأي من المتكلمين فيه أن يحتكر الخطاب لنفسه، كما يحدث عادة في أية قصيدة، أو أن يوجهها وفق مشيئته. وهذا ما يصح في معنى القصيدة، إن كان لها معنى واحد ومركز، فأنت لا تستطيع تجميعه أو حسبانه على أحد أو على موضوع. بهذا المعنى يمكن أن تشبه القصيدة الروايةَ أو المسرحية أو غيرها من صنوف الكتابات، أي أنها صنيع كتابي وفني تصدر عن الكاتب ولا تكون وصيته أو خطبته أو لسانه الخاص.
هذا ما سمح لي باستعمال وتوظيف أساليب وتقنيات كثيرة في تجديد القصيدة: ففي هذا النص الطويل، تحضر الكاميرا والشاشة والهاتف النقال والحاسوب وغيرها مثل أدوات فنية وتواصلية بما ينوع ويعدد وينشط طاقات القصيدة في التعبير.
-ألهذه التجربة «المتطرفة» إذا جاز القول صلات بشعرك الأول؟
=ما ينتبه إليه القارئ، على صفحة غلاف مجموعتي الشعرية الأولى «فتات البياض»، هو أن التعريف بها يتحدث عن تطلع المجموعة إلى مفارقة «أسلوبية قصيدة النثر»، ما يعني أنني كنت أتطلع منذ هذا الشعر الأول إلى مباشرة نوع مختلف. وهو ما جربته في عدد من قصائد هذه المجموعة: نتحقق، على سبيل المثال، من أن الحوار يبني أكثر من فقرة في المجموعة، أو ينتبه القارئ إلى أنني قسمت الصفحة الطباعية إلى قسمين متقابلين: هذا يكسر السطر، لا البيت القديم وحسب، ويجعله سطرين، والصفحة صفحتين.. هذا ما يبلبل الكتابة وهيئة القصيدة وعلاقة العين بالمقروء.
-يلاحظ قارئ شعرك ميلاً متعاظماً إلى الحوارية، إلى «التكالم»، كما تحب القول.
=وماذا لو أجبتك بأسئلة هي التي تقلقني: ألا يكون ميلي إلى الحوارية المزيدة، إلى «التكالم»، لا إلى التكلم، طلباً لخروج القصيدة من كونها الملتم على نفسه، لإقامتها في «واقع» آخر، خارجي أيضاً، أي الإقامة في وضعيات مكانية-زمانية، كلامية وافتراضية؟
ألا ترى أن البعض يُسرع، وربما يتسرع، في تسمية هذه الوضعيات بالمشهد المسرحي؟ ألا يكون هذا أيضاً طلباً للحياة نفسها، تمثيلاً لها، لصوغها بشكل مختلف؟ ألا يكون هذا تعويضاً عن حياة ماثلة، وهي غائبة واقعاً، ومعطلة ومحجبة، ومعتادة فحسب على تكرار ما تفعله، أي ما لا تفعله؟
-أيضاً يجد القارئ أحياناً مداعبات في شعرك تطال المحجَّبة، أو مواقف مرتبكة بـ «الشهيد» وغيره. كيف ترى إلى هذه؟
=يتوقف بعض النقاد أو يفاجئهم بروز أقوال أو إمالات للكلام الشعري تنحو إلى السخرية أو التخابث أو المكر وغيرها مما لا يألفونه في الشعر.. وأنا لا أنظر إلى هذه مثلما ينظرون، إذ أعتبرها تعبيراً عن صدقي: هكذا أكون. والصدق لا يعني سلوكاً أخلاقياً، بل سلوكاً منسجماً فحسب مع ما أعتقده، على أنه ما يصدر عني بوصفي كاتباً. فأنا لا أريد أن تتحول القصيدة إلى مكان اجتماعي، إلى صالون لأعيان الأدب، لا يتبادلون فيه سوى عبارات المجاملة إذ يتوجه هذا إلى ذاك.
-لماذا تقول إن تسمية «قصيدة النثر» خاطئة؟
=فعلاً هي تسمية خاطئة، وبات لا يراجعها أحد لشيوعها منذ أربعينيات القرن الماضي على الأقل. هذا ما حاولته وانتبهت إلى أن التعبير العربي لا يناسب في صورة دقيقة التعبير الفرنسي الأصلي. ولقد اقترحت عدة تسميات بديلة: «القصيدة بالنثر»، «القصيدة نثراً» و«القصيدة النثرية».. ولقد تنبهت أخيراً إلى استعمال عدد من الشعراء للتسمية البديلة هذه: «القصيدة بالنثر».
ولقد انقدت إلى هذا الحل لسبب آخر، يتعدى الأمانة في الترجمة ويصيب المقصود من هذا التعريف: فنحن حين نقول «قصيدة النثر» فهذا يعني أن الشعر انتقل إلى النثر، بينما يشير «القصيدة بالنثر» إلى مفهوم القصيدة كأساس لشعرية هذا النوع، على أن مواده تتأتى من النثر وتراكيبه، لا من النظم العروضي.
-عُرف عنك ترجمتك للشعر أيضاً: لماذا؟ أهي وجه مكمل لتجربتك الشعرية؟
=أردت من خلال الترجمة تلبية أهداف أو حاجات مختلفة، منها تعريف القارئ العربي بتجارب شعرية غير معروفة كفاية، مثل الشعر الزنجي-الإفريقي، الذي خصصت له أنطولوجيا بكاملها، كما خصصت لعدد من شعرائهم مثل سنجور وأوتامسي وغيرهما مختارات مترجمة.
كما أردت من الترجمة التنزه في بساتين غيري من الشعراء، في نوع من التملك الرمزي لها.
فحاسة الشاعر هي التي قادتني إلى اختيار قصائد أو نصوص لهذا الشاعر أو ذاك، وهذا نوع من السفر في جسد النص الآخر.
وما يعنيني في الترجمة يتعدى كل هذا، أو يتعين في فعل الترجمة نفسه، إذ إنه يمكِّنني من اختبار قدراتي اللغوية، كما يجعلني أدخل بالضرورة إلى محترفات الشعراء الآخرين أو إلى كواليس قصائدهم، فأنظر بعين الفاحص إلى أدواتهم في فصل الجمل أو في ربطها، في بناء الصورة وغيرها من الأدوات وطرق التعبير. بهذا المعنى، تكون الترجمة محترفاً، مشغلاً، بل مدرسة أكون فيها التلميذ في هيئة الأستاذ.
-كيف ينظر شربل إلى ما تُرجم من أشعاره؟
=ما يمكنني أن أُبدي رأيي فيه متصل فقط بما ترجم من شعري إلى الفرنسية والإنكليزية اللتين أعرفهما، ومن ثم أضع جانباً قصائد أخرى مترجمة إلى الألمانية، والإيطالية، وغيرهما من اللغات التي لا أعرفها مطلقاً.
ما يمكنني قوله إذن في بعض هذا الشعر المترجم هو أنه حياة جديدة لقصائدي، بكل ما تشتمل عليه من توافق أو اختلاف مع ما كان عليه الأصل. وربما تكون الترجمة في هذه الحالة أشبه بعلاقة الطفل مع أبيه حيث إنه يشبهه ويختلف عنه بالضرورة.
طلب مني بعض المترجمين مشورة أحياناً لاختيار ألفاظ أو تراكيب مناسبة، خاصة وأن بعض مترجمي شعري ما كانوا عرباً بل فرنسيين درسوا العربية كلغة ثانية. هذا ما التزمت به أحياناً مع بعضهم خاصة في الترجمات الأولى، وهذا ما امتنعت عنه في ترجمات تالية، تاركاً للمترجم أن يتكفل بصنيعه بنفسه.
-لماذا لجأت إلى ذلك؟
=لأن المترجم - وأقول هذا من باب الاحترام له - هو كاتب بالقوة إن لم يكن بالفعل في عملية الترجمة. فهو بخلاف ما نظن يؤلف نصاً إذ يترجمه. فالتطابق بين الأصل والترجمة مستحيل، وهو صعب في جميع الأحوال، ويلجأ المترجم أحياناً إلى حلول لكي يقفز فوق مشكلة أو يتحاشاها، أو تراه يداورها أحياناً أخرى. والمترجم في ذلك قد يصل إلى عبارة شعرية أجمل مما ورد في الأصل.. وهو ما أكتشفه أحياناً في بعض القصائد المترجمة. وهذا ما لا يضايقني، بل يسرني أنا الذي طالما قلت إن الشاعر ما إن يكتب قصيدته حتى تخرج من ملكيته لتصبح بتصرف قرائها. فكيف إن كان القارئ مترجماً يرغب في نقل القصيدة بأفضل ما يمتلكه من خبرات وقدرات وحساسية لغوية وفنية!
-من خلال دراستك ومتابعتك للعديد من الأشعار المترجمة لاحظت أن أمهرها، أو أفضلها ما ترجمه شاعر، هل ينطبق نفس الرأي على الرواية؟ ولماذا؟
=لا ينطبق في غالب الأحوال لأنني إن عدت إلى عدد من الترجمات إلى الفرنسية من الروايات العربية أو من لغات أخرى إلى الفرنسية ما وجدت روائيين يقومون بمثل هذه الأعمال. هناك اليوم في العالم مترجمون أدبيون، وهذا أصح ما يصح في ترجمة الروايات. أما الاختلاف في ترجمة الشعر والرواية فيعود إلى طبيعة اللغة الفنية في كل من الرواية والقصيدة. فالقصيدة تحتاج في الغالب إلى أبنية لغوية مكثفة ومعقدة، ما لا يمكن دائماً نقله بتطابق أو بأمانة، خاصة حين يكون الشعر محاولة لبناء دلالات جديدة ضمن اللغة وبواسطة الألفاظ. أما في الرواية فلا ترد مثل هذه المصاعب إلا حين يكون الروائي كاتباً مثل: جيمس جويس، أو وليم فولكنر، أو مارسيل بروست وغيرهم ممن كتبوا الرواية بلغة فنية حاذقة وصعبة التركيب. أما ما يواجهه مترجم الروايات عادة فيقتصر خصوصاً على صعوبة نقل ألفاظ أو أفعال أو وقائع خصوصية في هذه اللغة أو تلك، بل في هذه الثقافة أو تلك، من دون أن يكون لها مقابل في اللغة التي تستقبلها. فترى المترجم أحياناً يحتفظ باللفظ الأصلي كما هو، أو تراه يترجمه بلفظ آخر ويضع هامشاً ليشرح المقصود منه في اللغة الأصل. في جميع الأحوال المشكلة هي مشكلة فنية تقل أو تزيد تبعاً لفنية اللغة، وهي تكون في الغالب عالية في القصيدة بينما هي اعتيادية في السرد.
(مجلة "الدوحة"، الدوحة، العدد 32، حزيران-يونيو 2010).