"ما الأنوار؟" نص غير معروف للمفكر الفرنسي الراحل ميشال فوكو سينشر في كتاب مستقل مع نصوص ومقابلات أخرى عن دار "غاليمار".
النص مراجعة نقدية لنص يحمل العنوان نفسه لكانط، إلا أنه يتعدى هذه المراجعة تماماً، إذ إن فوكو يتوقف أمام مسألتين: العقل والحداثة.
ينطلق فوكو من إجابة كانط على السؤال التالي: ما الحدث الموسوم بـ"عصر الأنوار" الذي يميز أوروبا حتى أيامنا هذه؟ ويجد فوكو في انطلاق كانط من هذا السؤال، أي ربط الفلسفة بحاضرها، للمرة الأولى على هذه الصورة، ما يؤسس لخروج الإنسان من "قصوره" إلى سن الرشد، إلى "عصر الأنوار" إذن.
يميز كانط بين اللجوء (الاستعمال) الشخصي والعمومي إلى العقل، وهو ما يرمز إليه في الانتقال من العبارة: أطيعوا، ولا تفكروا" إلى العبارة: "أطيعوا واعقلوا ما طاب لكم".
وماذا عن الحداثة؟ أهي تتمة تطورية لـ"الأنوار"، أم قطيعة معها أم انحراف عنها؟
في إجابته ينفصل فوكو عن نص كانط ليواجه آراء معاصريه، فيرى أن الحداثة "موقف"، وليست "مرحلة من التاريخ". ينفصل فوكو عن كانط ليرتكز إلى بودلير في تعييناته الرائدة للحداثة. إلا أن ارتكازه هذا يبدو نقدياً، لا بل منفصلاً عما قاله بودلير، من دون أن يفصح عن حقيقة الانفصال. ففوكو يخفف من "رومنسية" بودلير جاعلاً الذات موضعَ تبلورٍ في القصيدة وبها، أي في لعبة شاقة بين حقيقة الواقع وممارسة الحرية (وهو ما لم يقله بودلير بهذه الكيفية).
غير أن فوكو لا يكتفي بتبين "تاريخية" الحداثة، بل يدعو إلى إجراء تحقيقات تاريخية يتمُّ فيها نقد عقل "الأنوار"، أي تبين حدوده وشروط إنتاجه التاريخية. وهو ما يسميه النقد الأنطولوجي التاريخي للذات الأوروبية. أي أنه ينفصل تماماً عن الدعاوى والكتابات التاريخية التي جعلت من "العقل" و"الحداثة" عقيدة جديدة، أي متعالية وماورائية مدنية بعد المرحلة الدينية، ليخضعها بدورها للنقد التاريخي، متبيناً حدودها نفسها.
لا يخاطب فوكو في نصه هذا غير الأوروبيين، ولا يتبين بالمقابل الشروط التاريخية والنظرية لتحقق "العقل العالمي المستقل"، إلا أنه، في إخضاعه "الأنوار" لهذا النقد، يخلصها أو ينزع عنها دعوها "العالمية، محتفظاً بنواتها العقلانية، وبما في حداثتها من "مواقف" تحررية.
نص فوكو يحاورنا، لا بل يساجل في قضايا الفكر والحداثة العربية، لا سيما في ما أخذا من فكر "الأنوار"، إذ ينزع عن الخطاب التنويري طابعه الإطلاقي جاعلاً منه نتاجاً تاريخياً، و(ينزع) دعواه الإيديولوجية جاعلاً منه مهمة عمل، مهمة انبناءٍ ونقدٍ للذات في علاقتها بالتاريخ، بكل تاريخ خصوصي.
(...).
---
1
حين تطرح إحدى الجرائد سؤالاً على قرائها في أيامنا هذه، فذلك لطلب رأيهم في موضوع لهم فيه أساساً رأي خاص: لا نخشى معرفة الشيء الكثير! أمّا في القرن الثامن عشر فكانوا يفضّلون استمزاج الرأي حول القضايا التي لا يملكون عنها أجوبة بعدُ. لا أعرف إذا كان هذا التدبير فعّالاً، إلاّ أنّه كان مسلياً من دون شكّ. جرياً على هذه العادة، نشرت إحدى الدوريات الألمانية، "برلينش مونتشريفت"، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1784، نص إجابة على السؤال الآتي: ما (عصر) الأنوار؟ وكان الجواب لكانط.
لعلّه نصّ بسيط إلاّ أنّني أعتقد أنّه يثير، ولو من دون ضجّة كبيرة، في تاريخ الفكر، سؤالاً ما استطاعت الفلسفة الحديثة الإجابة عنه، ولا التخلّص منه. وها هي الفلسفة تعيد طرح السؤال عينه منذ قرنين في صيغ مختلفة. فمن هيل إلى هوركهايمر أو هابرماس، مروراً بنيتشه أو ماكس فيبر، لم تستطع الفلسفة، أي فلسفة، مواجهة هذا السؤال، في صورة مباشرة أو غير مباشرة: ما الحدث الموسوم بـ (عصر) "الأنوار" والذي عيَّنَ ما نحن عليه، وما نعتقد به وما نقوم به اليوم؟ لنفترض أنّ الدورية الألمانية المذكورة لا تزال قائمة في أيامنا هذه، وأنّها طرحت على قرائها السؤال الآتي: "ما الفلسفة الحديثة؟"، ألا نجيب عنه أشبه بترجيع الصدى: الفلسفة الحديثة هي التي تسعى إلى الإجابة عن السؤال الذي جرى طرحه بقدر من التهوّر قبل قرنين: ما (عصر) الأنوار؟
هذا النص يثير مشكلة جديدة. فليست هذه هي المرة الأولى التي يسعى فيها التفكير الفلسفي إلى تبيّن ودراسة حاضره الخاص، إلاّ أنّنا نستطيع القول في صورة مبسّطة أنّ هذا التفكير اتّخذ حتى ذلك الوقت ثلاثة أشكال رئيسية:
- يمكننا تمثيل الحاضر بوصفه جزءاً من عصر ما في العالم، ومختلفاً عن غيره بعدد من السمات الخاصة، أو منفصلاً عنها بحدوث واقعة مأساوية؛ هكذا نقع في كتاب "السياسة" لأفلاطون على متحاورين يعترفون بانتسابهم إلى إحدى ثورات العالم التي يدور فيها العالم بالمقلوب، مع سائر العواقب السلبية المتآتية من ذلك.
- يمكننا أيضاً مساءلة الحاضر لتبيان العلامات المنذرة فيه بحدوث واقعة قريبة، نجد في هذا مبدأ نوع من "التأويلية" التاريخية التي يكون فيها القديس أغسطينوس أحد أعلامها.
- يمكننا أيضاً دراسة الحاضر مثل نقطة انتقال صوب فجر عالم جديد. وهو ما شرحه فيكو في الفصل الأخير من كتاب "مبادئ فلسفة التاريخ" فما يراه "اليوم" هو "أكمل الحضارات"، وهي تنتشر عند الشعوب المستتبعة من بعض الأمراء غالباً، وما يراه أيضاً هو "أوروبا المتألقة بحضارة لا نظير لها"، و"غنية بجميع الممتلكات التي تؤلف هناء الحياة الإنسانية".
أمّا كانط فيثير سؤال "الأنوار" في كيفية مختلفة، بل سلبية، مثل "مَخرج" أو "منفذ" يحدث لكانط في نصوص أخرى حول التاريخ أن يثير سؤال الأصل، أو أن يعيّن غائية داخلية لمسار تاريخي، إلاّ أنّه في نص "الأنوار" يثير السؤال حول المجريات الحادثة وحدها. فهو لا يسعى إلى فهم الحاضر بدءاً من منظومة كلية أو من اكتمال قادم، بل يبحث عن الاختلاف. ماذا يجلب اليوم من اختلاف بالنسبة إلى أمس؟
لن أستعرض نص كانط بالتفصيل، لاسيما أنّه ليس بالوضوح الكافي على رغم قصره. أكتفي بتناول ثلاث أو أربع سمات تبدو لي مهمّة في كيفية طرح كانط للسؤال الفلسفي حول الحاضر.
يشير كانط مباشرة إلى أنّ "المَخرج" الذي يميّز "الأنوار" لا يعدو كونه مساراً يخرجنا من حالة "القصور". ويريد هنا الإشارة إلى حالة ما في إرادتنا تجعلنا نقبل سلطة واحد غيرنا لتوجيهنا في الميادين القابلة لاستعمال العقل فيها: فنحن في حال "القصور" حين نجعل من كتاب بدلاً من قوّتنا الإدراكية، أو حين نحلّ المرشد الروحي محلّ الوعي، أو حين يقرّر الطبيب بدلاً عنّا... "الأنوار" معنية، على أيّ حال، بتحويل الصلة السابقة بين الإرادة، والسلطة واللجوء إلى العقل (...) علينا إذن أن نعتبر "الأنوار" مساراً يلتقي فيه البشر في صورة جماعية، وأن نعتبره، في الوقت نفسه، فعل شجاعة شخصي، فالبشر هم، في آن معاً، عناصر وفعلة المسار بمقدار ما هم جزء منه، كما يتحقّق هذا المسار بمقدار ما يقرّر البشر كونهم صناعه الطوعيين (...).
يحدّد كانط شرطين أساسيين لخروج الإنسان من قصوره، وهما في الوقت نفسه شرطان روحيان ومؤسسيان، وأخلاقيان وسياسيان.
أول هذين الشرطين هو التمييز بين ما يعود إلى الطاعة وبين اللجوء إلى العقل. ويورد كانط لتمييز حالة القصور العبارة السارية: "أطيعوا، لا تفكروا أبداً". هذا هو عنده الشكل الذي تتّخذه المسلكية العسكرية، والسلطة السياسية والسطوة الدينية. لا تبلغ الإنسانية سنّ الرشد حين لا تعود عليها الطاعة، بل حين يقال لها: "أطيعوا، ولكن اعقلوا ما طاب لكم" (...).
قد يساورنا الاعتقاد بأنّ لا شيء مختلفاً عمّا نسمعه منذ القرن السادس عشر على أنّه حرية المعتقد: حقّ التفكير كما تشاء، شرط الخضوع كما يجب. إلاّ أنّ كانط يتدخّل مقيماً تمييزاً جديداً، لا بل مفاجئاً، وهو التمييز بين اللجوء الشخصي واللجوء العمومي إلى العقل. ثم لا يلبث أن يضيف: على العقل أن يكون حراً في مجاله العمومي، وخاضعاً في مجاله الشخصي، وهو ما يتعارض عبارة تلو عبارة مع ما اعتدنا على تسميته حرية المعتقد.
ولكن يستحسن أن ندقّق أكثر في الأمر: ما هو، حسب كانط، الاستعمال الشخصي للعقل؟ وفي أيّ مجال يتمّ توظيفه؟
يؤكّد كانط أنّ الإنسان يستعمل العقل لغرض شخصي حين يكون "قطعة في آلة"، أي حين يؤدّي دوراً ما في المجتمع أو يمارس وظائف بعينها: أن يكون جندياً، أن يتوجب عليه دفع الضرائب، أن يكون مسؤولاً عن كنيسة رعوية، أن يكون موظف حكومة، هذه كلها تجعل الكائن البشري طرفاً خصوصياً في المجتمع، يجد نفسه في موقع معيّن، وعليه أن يتَّبع فيه عدداً من القواعد، وأن يتابع مقاصد خصوصية. لا يطلب كانط التقيّد بطاعة عمياء وغبية، بل استعمالَ العقل في كيفية مناسبة للظروف المحدّدة، على أن يخضع العقل للمقاصد هذه. لا يمكن، إذاً، في هذا المجال الاستعمال الحرّ للعقل.
بالمقابل، حين لا نعقل إلاّ لمجرّد استعمال العقل وحسب، وحين نعقل كعقلاء (لا بوصفنا قطعة في آلة)، وحين نعقل مثل أعضاء في الإنسانية العاقلة، فيجب أن يكون استعمال العقل حراً وعمومياً. فـ "الأنوار" لا تعين المسار الذي يتحقّق فيه الأفراد من حريتهم الشخصية في التفكير فحسب، بل جمع الاستعمال العالمي (الكوني) والاستعمال الحرّ والعمومي للعقل.
إلاّ أنّ هذا يقودنا إلى طرح سؤال آخر على نص كانط: يمكننا بالطبع تصوّر الاستعمال العالمي (الكوني) للعقل (بعيداً عن أيّ مقصد خصوصي)، على أنّه شأن كلّ إنسان بوصفه فرداً، ويمكننا أيضاً تصوّر عدم وجود أيّ ملاحقة لحرية الاستعمال هذه، أيّ ضمان مثل هذه الحرية لكلّ فرد، ولكن كيف يمكن ضمان الاستعمال العمومي للعقل هذا؟ هذا ما يدفعنا إلى تبيّن الأمر الآتي، وهو أنّ "الأنوار" يجب أن لا تكون مساراً عاماً مؤثراً في الإنسانية جمعاء، ولا فرضاً واجباً على الإفراد وحسب. هي تبدو لنا الآن مثل مشكلة سياسية. فالسؤال مطروح لمعرفة كيفية اتّخاذ استعمال العقل لشكله العمومي اللازم له، ولمعرفة كيفية ممارسة التجرؤ على المعرفة في وضح النهار، حين نجد الأفراد خاضعين ما استطاعوا لذلك سبيلاً. ويقترح كانط، ختاماً، على فريديريك الثاني، في عبارات شبه مضمرة، نوعاً من العقد، ما يمكن أن نسميه عقد الاستبداد العقلاني مع العقل الحرّ: الاستعمال العمومي والحرّ للعقل المستقلّ هو الضمانة المثلى للطاعة، شرط أن يوافق المبدأ السياسي، سبب الطاعة نفسه، العقل العالمي (...).
يبدو لي أنّنا لم نعرف قبل اليوم فيلسوفاً، مثل كانط في نصه هذا، ربط بإحكام ومن الداخل، معنى تأليفه بالمعرفة، وجمع التفكير حول التاريخ بتحليل خصوصي للخطة الفريدة التي يكتب فيها وعنها: يبدو لي التفكير في "الراهن" بوصفه اختلافاً في التاريخ، وسبباً لمهمة فلسفية خصوصية، بمثابة العامل الجديد في هذا النص.
ضمن هذا المنظور أعتقد بأنّنا نجد نقطة انطلاق لمسودّة ما يمكن أن نسمّيه موقف الحداثة.
---
2
أعرف حقّ المعرفة أنّنا نتحدّث غالباً عن الحداثة بوصفها سمة عهد، أو مجموعة من الصفات المميّزة لعهد ما، ونثبتها على هذه الصورة في روزنامة تكون فيها مسبوقة بما قبل الحداثة، شبه الساذجة أو البدائية، ومتبوعة بـ"ما بعد حداثة" مريبة وملتبسة. وأعرف أنّنا نتساءل عندها إذا كانت الحداثة تشكّل تتمّة "الأنوار" أو تطوّرها، أو أنّها قطيعة أو انحراف بالنسبة إلى المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر.
أتساءل، بالاستناد إلى نصّ كانط، إذا كان ممكناً تصوّر الحداثة على أنّها موقف أكثر من كونها مرحلة من التاريخ. وأريد من الموقف هذا الإشارة إلى نمط علاقة إزاء المجريات، وإلى خيار طوعي يقوم به بعضهم، وإلى طريقة في التفكير والإحساس، وهي طريقة أيضاً في الفعل والتصرّف، تشير إلى انتماء، وتمثل كمهمة. أي أعتقد بأنّه يستحسن، بدل التمييز بين "الفترة الحديثة" والعصور "السابقة" أو "ما بعد الحديثة"، البحث عن الكيفية التي وجد فيها موقف الحداثة نفسه، منذ تشكله، في صراع مع مواقف "مضادة للحداثة".
لتمييز موقف الحداثة، ولو باختصار، أسوق مثلاً يكاد يكون لازماً: إنّه مثل بودلير، لأنّنا نجد عنده في صورة عامة أشدّ الوعي تبلوراً للحداثة في القرن التاسع عشر.
1- نسعى غالباً إلى تمييز الحداثة بوعي تقطع الزمن: قطيعة التقليد، الإحساس بالجديد، الدوار ممّا يجري، وهو ما يميل إلى قوله بودلير حين يحدّد الحداثة بوصفها "الانتقالي، العابر، المحتمل". إلاّ أنّ الحديث عنده لا يعني الاعتراف ولا الإقرار بهذه الحركة المستمرّة، بل اتّخاذ موقف ما من الحركة هذه. وهذا الموقف الطوعي، الصعب، يقوم على تبيّن شيء ما أبدي، لا يقع بعد هذه اللحظة الحاضرة، ولا خلفها، بل فيها. وتختلف الحداثة عن "الموضة"، هذه التي تتبع مجرى الزمان، وهو الموقف الذي يسمح بتبيّن ما هو "بطولي" في اللحظة الحاضرة. ليست الحداثة فعلاً إحساسياً تجاه الحاضر الهارب، بل سعي لجعل الحاضر "بطولياً".
سأكتفي بذكر ما يقوله بودلير عن تصوير الأشخاص المعاصرين، فهو يسخر من هؤلاء المصورين، الذين عمدوا، بعد استقباحهم لباس الرجال في القرن التاسع عشر، إلى تصوير الأثواب (الرومانية الفضفاضة) العريقة. إلاّ أنّ الحداثة في التصوير لا تعني له إنزال الثياب السوداء في اللوحات. المصور الحديث هو الذي يظهر هذه "الريدنغوت" (السترة الطويلة السوداء في المحافل الرسمية) المعتمة مثل "اللباس الضروري لزماننا"، وهو الذي يمكننا من تبيّن ما في موضة الأيام من اتّصال أساسي، دائم، لجوج، يقيمه زماننا مع الموت (...).
2- عملية "البطولة" هذه تهكميّة طبعاً. فليس المقصود طبعاً في موقف الحداثة "تقديس" اللحظة العابرة لتأكيدها وإدامتها، وليس المقصود أيضاً التقاطها مثل طرفة عابرة ومهمة، وهو ما يسميه بودلير موقف "التسكّع". فالتسكع يقوم على فتح العيون، على الانتباه، وعلى التجميع في الذكرى. إزاء الرجل المتسكع يقيم بودلير إنسان الحداثة: "يمضي، يجري، ويبحث. عمّ يبحث؟ من المؤكّد أنّ هذا الرجل، هذا المنعزل المتمتّع بمخيّلة نشيطة، المسافر أبداً في صحراء البشر الكبرى، يهدف إلى عمل أسمى ممّا يقوم به المتسكّع العادي، إلى عمل أكثر عمومية، هو غير البهجة الظرفية العابرة. إنّه يبحث عن هذا الشيء الذي أرجو السماح لنا بأن نسمّيه الحداثة، لأنّه لا توجد كلمة أفضل للتعبير عن الفكرة المقصودة. يقوم هذا العمل عنده في الاستخراج من الموضة السارية ما يمكن أن تتضمنه من شعرية في التاريخي" (...).
لم يكن قسطنطين غيس، الذي وصفه بودلير أعلاه متسكعاً، أمّا ما يجعل الفنان حديثاً في نظر بودلير فهو أنّه، عندما يستغرق العالم كلّه في سبات عميق، ينهض إلى عمله ويحوله، وليس التحويل هذا إلغاءً للواقع، بل لعبة شاقّة بين حقيقة الواقع وممارسة الحرية، تصبح فيها الأشياء "الطبيعية" أكثر طبيعية، والأشياء "الجميلة" أكثر جمالاً، مثلما تبدو الأشياء المتفرّدة، "ذات حياة متوقدة مثل روح المؤلف".
لا تنفصل، في موقف الحداثة، القيمة الكبرى الخاصة بالحاضر عن النزوع إلى تخيله في كيفية مغايرة لما هو عليه، وإلى تبديله، لا بتكسيره بل برصده والتقاطه حيثما هو. الحداثة البودليرية تمرينٌ تواجه فيه العنايةُ الشديدة بالواقع ممارسةً حرّة تحترم الواقع بقدر ما تغتصبه.
3- إلاّ أنّ الحداثة ليست، عند بودلير، شكل اتّصال بالحاضر وحسب، بل أيضاً نمط اتصال يجب إقامته مع الذات. موقف الحداثة الطوعي متّصل بتقشف لازم. فأن تكون حديثاً لا يعني القبول بالذات على ما هي عليه في مجرى اللحظات العابرة، بل جعل الذات موضوعاً لبلورة مركبة وقاسية (...). ليس الإنسان الحديث عند بودلير من يمضي بحثاً عن ذاته، عن أسراره وعن حقيقته المحجوبة، بل الباحث عن ابتداع ذاته. هذه الحداثة لا "تحرّر الإنسان من كينونته الخاصة"، بل تخضعه لمهمة بلورة ذاته.
4-ختاماً، أريد أن أضيف هذه العبارة فقط: هذه "البطولية" التهكمية من الحاضر، ولعبة الحرية هذه مع الواقع بغرض تحويله، وهذه البلورة المتقشفة للذات، هذه كلها لا تتحقّق حسب بودلير في المجتمع نفسه أو في الجهاز السياسي، بل في مكان آخر: في ما يسميه بودلير: الفنّ.
لا أدّعي، من خلال هذه السمات، اختصار الحدث التاريخي المركب الذي كانته "الأنوار" في نهاية القرن الثامن عشر، ولا موقف الحداثة في جميع الأشكال التي اتّخذها في القرنين الماضيين.
أريد، من جهة، التأكيد على تجذر نمط من المساءلة الفلسفية في "الأنوار"، يضع في الإشكالية نفسها الصلة بالحاضر ونسق الكائن التاريخي وتأسس الذات بوصفها موضوعاً مستقلاً. كما أريد، من جهة أخرى، التأكيد على أنّ الخيط القابل لربطنا بهذه العقيدة، بل إعادة التشغيل الدائمة للموقف، أي لـ "ايثوس" (سمة مميزة لفريق من البشر في مجتمع ما) فلسفي، يمكن تعيينه بوصفه نقداً دائماً لكائننا التاريخي. وهو ما سأحاول تحديده باختصار.
أ- تحديده في صورة سلبية:
1- يستدعي هذا "الايثوس"، بداية، التخلّي عمّا أسمّيه بـ "المساومة" على "الأنوار". أعتقد أنّ "الأنوار"، كمجموعة من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية والثقافية التي تستتبعنا، تؤلف ميداناً ممتازاً للتحليل. كما أعتقد أنّها، كعملية جامعة في صورة مباشرة لتطوّر الحقيقة ولتاريخ الحرية، انتهت إلى صياغة مسألة فلسفية لا تزال مطروحة. كما أعتقد ختاماً – وهذا ما حاولت إبانته في نص كانط – أنّها حدّدت طريقة ما في التفلسف. إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ علينا أن نكون "مع" أو "ضدّ" "الأنوار"، بل يعني تحديداً الامتناع عن طرح الأمور في صورة مبسّطة وقاهرة: إما تقبلون "الأنوار" وتبقون في تقليد عقلانيتها (وهو ما يبدو عند بعضهم إيجابياً، وعند بعضهم الآخر بمثابة لوم)، وإما تنتقدون "الأنوار" وتسعون بالتالي إلى التخلّص من مبادئ العقلانية هذه (وهو ما يبدو مختلفاً في تقدير هؤلاء وأولئك). ولا يكون الخروج من هذه المساومة بإدخال بعض التعديلات "الديالكتيكية" سعياً إلى تعيين ما كان سيئاً أو صالحاً في "الأنوار".
علينا أن نحاول تحليل ذواتنا بوصفنا كائنات محدّدة تاريخياً، وبـ"الأنوار" أحياناً. يستدعي هذا سلسلة من التحقيقات التاريخية والدقيقة ما أمكن، على أن لا تكون موجهة في صورة إرجاعية صوب "النواة الأساسية العقلانية" الموجودة، في "الأنوار" والمطلوب إنقاذها، بل موجهة صوب "الحدود الحالية للضروري"، أي صوب ما لا يبدو، وما لم يعد، ضرورياً لتأليف ذواتنا مثل مواضيع مستقلّة.
2- يجب أن يتحاشى هذا النقد الدائم لذواتنا الالتباسات السهلة دائماً بين "النزعة الإنسانية" و"الأنوار".
علينا ألاّ ننسى أنّ "الأنوار" حدث أو مجموعة من الأحداث ومن المسارات التاريخية المركبة، التي وقعت في لحظة ما من تطوّر المجتمعات الأوروبية. تتضمّن هذه المجموعة عناصر من التحوّلات الاجتماعية، وأنماطاً من المؤسسات السياسية، وأشكالاً من المعرفة، ومشاريع لعقلنة المعارف والممارسات، وتحوّلات تقنية غير قابلة للاختصار في كلمات معدودة، حتى لو كان بعض هذه الظواهر قوي التأثير حتى أيامنا هذه، ما انتهيت إلى استخلاصه، وما يبدو لي مؤسساً لكلّ شكل من التفكير الفلسفي لا يتّصل إلاّ بنسق العلاقة التفكيرية بالحاضر.
أمّا "النزعة الإنسانية" فهي شأن آخر: هي موضوع أو مجموعة من الموضوعات عادت إلى الظهور مرات عدّة، عبر الزمن، في المجتمعات الأوروبية، وهذه الموضوعات، المتصلة دائماً بأحكام قيمة، تبدّلت في صورة دائمة، وتنوّعت في مضامينها، كما في القيم التي احتفظت بها. كما جرى استعمال هذه الموضوعات بوصفها عنصراً نقدياً للتمايز: فكانت هناك "نزعة إنسانية" بوصفها نقداً للمسيحية والدين عموماً، وأخرى مسيحية متعارضة مع النزعة الإنسانية المتقشفة (في القرن السابع عشر). أمّا في القرن التاسع عشر فكانت هناك "نزعة إنسانية" متشكّكة ومعادية ونقدية إزاء العلم، وأخرى ممجّدة للعلم واجدة فيه سبيل الخلاص. الماركسية بدورها كانت "نزعة إنسانية"، وكذلك الوجودية والشخصانية، كما جرى في بعض الأوقات لصق الصفات الإنسانوية بالقومية–الاشتراكية، مثلما سمى الستالينيون أنفسهم "إنسانونيين".
علينا أن لا تخلص من هذا إلى القول بضرورة التخلّي عن كلّ هذه الطروحات، بل باعتبار النزعة الإنسانية مرنة ومتنوعة وهشّة، ما يكفي لجعلها محوراً للتفكير. ومن المؤكّد أنّ "النزعة الإنسانية" اضطرت، منذ القرن التاسع عشر، على الأقل، إلى الأخذ ببعض مفاهيم للإنسان مستقاة من الدين والعلم والسياسة.
يمكننا مقابلة منظومة الأفكار هذه، الرائجة والمتصلة بـ"النزعة الإنسانية" بقانون النقد والخلق الدائم لذواتنا في استقلالنا، أيّ بمبدأ يقع في لبّ الوعي التاريخي لـ"الأنوار" نفسها. ومن هذه الناحية أتبيّن وجود تأزّم بين "الأنوار" و"النزعة الإنسانية"، لا تطابقاً في الهوية، على أن الخلط بينهما، على ما أرى، خطر، وهو غير صحيح تاريخياً على أيّ حال (...).
ب- تحديده في صورة إيجابية:
علينا، بعد الاحترازات هذه، أن نسعى إلى تعيين مضمون أكثر إيجابية لما سميناه الـ"ايثوس" الفلسفي، القائم على نقد ما نقول وما نفكر وما نفعل، عبر أنطولوجيا تاريخية لذواتنا.
1- يمكننا أن نعيّن هذا الايثوس الفلسفي بوصفه موقفاً – حدّاً. لا يعني هذا سلوكاً نبذياً بل التخلّص من التناوب بين الداخل والخارج: علينا أن نكون على الحدود. فالنقد هو تحليل الحدود والتفكير بها. ولكن إذا كانت المسألة الكانطية تعني معرفة الحدود التي يجب الامتناع عن تجاوزها، فإنّني أرى ضرورة قلب المسألة النقدية اليوم في سؤال إيجابي: في ما هو مقدّم لنا على أنّه عالمي وضروري ولازم، ما الجزء المنفرد والمحتمل والواجب بفعل ظروف اعتباطية؟ أيّ أنّ هذا يعني تحويل النقد المتّصل بشكل الحدود الضرورية إلى نقد عملي لشكل التجاوز الممكن.
هذا ما يؤدّي إلى أنّ النقد لن يقوم على البحث في البنى الشكلية ذات القيمة العالمية (الكونية)، بل على تحقيق تاريخي عبر الأحداث التي أدّت بنا إلى أن نتآلف، وأن نتعرّف على أنفسنا بوصفنا ذواتاً لما نقوم به، ولما نفكّر فيه، ولما نقوله. بهذا المعنى ليس النقد هذا متعالياً، ولا يعمل على جعل الماورائيات، أي ما ورائيات، ممكنة، بل هو نقد "جينيالوجي" (نقد الأنساب) في غائيته، تنقيبي (أو حفري) في منهجه. نقد تنقيبي لا يعني باستبيان البنى العالمية (الكونية) لكلّ معرفة أو لكلّ عمل أخلاقي ممكن، بل بمعالجة النصوص الناظمة لما نفكّر فيه ونقوله ونفعله على أنّه حدث تاريخي (...).
2- يجب أن يكون هذا الموقف التاريخي–النقدي موقفاً تجريبياً. أريد القول إنّ هذا العمل القائم على حدود ذواتنا يجب أن يؤدّي، من جهة، إلى فتح ميدان من التحقيقات التاريخية، ومن جهة أخرى، إلى وضع ذواتنا على محك الواقع والأحداث، من أجل غرضين: التقاط النقاط التي يبدو التغيير فيها ممكناً ومرغوباً، وتعيين شكله المحدّد. ما يعني أنّ هذه الأنطولوجيا التاريخية لذواتنا يجب أن تصرف النظر عن جميع المشروعات التي تدّعي الشمول والجذرية. فنحن نعرف، بالاستناد إلى تجاربنا، أنّ ادّعاء التخلّص من نظام الأحداث لتقديم برامج جمعية لمجتمع ما، ولنمط آخر من التفكير، ولثقافة أخرى، ولرؤية جديدة للعالم، ما أدّى بنا واقعاً إلى تكرار أخطر التقاليد (...).
أعيّن "الايثوس" الفلسفي الخاص بالأنطولوجيا النقدية لذواتنا على أنّه امتحان تاريخي–عملي للحدود التي بإمكاننا تجاوزها، وعمل لذواتنا، إذن على ذواتنا بوصفنا كائنات حرّة.
كلمة إجمالية لمّا قلناه وخاتمة له، عائدين من جديد إلى كانط.
لا أعرف إذا كنّا سنصبح راشدين ذات يوم. أشياء عدّة في تجربتنا تؤكّد لنا أنّ حدث "الأنوار" التاريخي لم يجعل منّا راشدين، وأنّنا لم نصبح كذلك بعد.
علينا ألاّ نعتبر الأنطولوجيا النقدية لذواتنا مثل نظرية أو عقيدة، ولا متناً دائماً من المعرفة المتراكمة، بل مثل موقف، مثل حياة فلسفية. يمثل فيها نقد الذات على أنّه، في آن، تحليل تاريخي للحدود الموضوعة وامتحان لاجتيازها الممكن (...).
لا أعرف إذا كان بإمكاننا القول، اليوم، أنّ العمل النقدي يشترط الإيمان بـ"الأنوار". هو يستدعي، على ما أعتقد، العمل الدائم على حدودنا، أي عناءً مثابراً، هو شكل تلهفنا إلى الحرية.
(جريدة "الحياة"، لندن، 3 أيار-مايو 1993).