أباشر الكلام ابتداء من عبارة قالها لي مترجم الكاتب التركي ياشار كمال في لقاء ضمنا جنوب فرنسا في أوائل الثمانينيات، ثم وجدتُها في أحد كتبه لاحقًا، وهي : "أتقدم في اتجاه ما يخيفني". وهي عبارة لا تعني موقفًا بطوليًّا من الكاتب العملاق (بأكثر من معنى)، وإنما تعني التقدم – ومنها التبيُّن – لما يعيقنا ويسبقنا، وهي مخاوفنا وهواجسنا.

 

أتوقف عند لحظة الانتقال التي نعايشها، وأدعو إلى التفكير فيها : في ما تعايشه مجتمعاتنا وأفرادنا على إثر "الربيع العربي"، وفي ما تعايشه آدابنا وفنوننا أيضًا. إذ هي انتقالات قد لا توفر قفزة أو أبعدَ منها، وإنما ترسم تغيرًا وحسب أصابَ وقوفنا في المجال : بين أن نتوجه إلى غيرنا بوصفه "معيق" تطورنا وسعادتنا، وبين أن ننظر إلى "داخلنا" (بأكثر من معنى)، إذ تتكشف فيه عدم قدرتنا على قبول العالم كما انتهى إليه، فكيف على المشاركة فيه.

هذا يعني، في وجه أول، أن "أحلام" الاستقلالات العربية (السياسية كما الثقافية والفنية) تهاوت في عالم ضاغط علينا بأكثر من سياسة وأداة؛ وهذا يعني، في وجه ملازم للأول، أن ما جرى تأجيله، وإغفاله وإسقاطه وإسكاته، أي تنمية "قوى" الداخل (بما فيها وخصوصًا، قوى الابتكار والتجدد)، مطروح علينا مثل مهمة عاجلة، مثل تحديات إنسانية، بقدر ما هي فلسفية وإبداعية في آن.

 

أنطلق في كلامي من مفهوم بسيط وغامض في الوقت نفسه، وهو : الانتقال. الانتقال بأكثر من معنى، وفي أكثر من مجال. الانتقال لفظ بسيط، واضح، إذ يعني نقل خطى من مكان إلى آخر، أو في المكان عينه. وهو يبدو، لذلك، سهلًا، أكيدًا. يكفي أن نتوقف، أن نقرر، لكي يحصل الانتقال. هذا ما نفعله كل يوم، إذ ننتقل، إذ نعبر مساحات ومجالات من دون قيد. هذا ما تفعله السيارة أكثر من أقدامنا. هذا ما يفعله البريد الإلكتروني أسرع من طائرة. هذا ما تُحلق به استعارة أقوى من صاروخ عابر للقارات.

 

في القرن التاسع عشر، جرى الكلام عن "انقلاب" للتعبير عما نقصده اليوم في الحديث عن "ثورة". جرى العكس في العام 1952، في مصر : ما كان، واقعًا، "انقلابًا" (أي الحركة العسكرية التي قامت بها مجموعة "الضباط الأحرار")، طلبت تسميته بـ"الثورة"، فصرنا نتحدث عن "ثورة 23 يوليو"... وهو ما جرى في العراق، وسورية ودول عربية اخرى.

وهو ما جرى بألفاظ أخرى في السنوات الأخيرة : أطلقنا لفظ "الثورة" على مجموعة حركات عفوية أو منظمة، فيما اقتصر الأمر في أحسن الأحوال على إسقاط حاكم وإزاحة بطانته. اعتبر البعض حينها أننا قادرون على الانتقال، بل على أكثر منه : قادرون على إحداث قفزة نوعية تنقلنا من حال إلى حال.

الاكيد هو أننا انتقلنا، ولكن ليس كما تصورنا. يمكن القول إننا انتقلنا من مناداة الخارج ومحاربته إلى مناداة الداخل ومحاربته. لو نَعُدْ سنوت قليلة إلى الوراء لوجدنا أننا كنا نتحدث عن الأمبريالية، عن الصهيونية،  وبتنا، اليوم، نتحدث عن الديمفراطية، ومستوى المعيشة وغيرها. كنا نواجه، صامتين، في الغالب قوى غاشمة ماثلة في حاكم مستبد، أو في عدو خارجي، فيما انتقلنا إلى حال جديدة، وهي أن الخصم، والعدو، ماثلان فينا : في جارنا، في أنفسنا.

هي أكثر من انتقالة وانتقالات. هي تغير وقفتنا، وإلى حيث ننظر ونطلب التقدم إليه.

قد يقول البعض إن ما جرى لنا مدبرٌ، خططتْ له قوى، وصرفت أموالًا وأجهزة تنصت واتصال متطورة لإحداثه. ربما، حصل هذا من دون أن نعلم مقداره وقوته وفعاليته. إلا أن الأكيد هو أن انكشاف قوة السلطة، أو فقدان "هيبتها" خصوصًا، كشفَ ما هو أصعب حالًا، وهو أن ما كنا ننتقل في مجاله رتيب، منمط، مقيد، لا يتيح رسم خطوات مختلفة، إلى حيث نحلم ونخطط بأن ننتقل إليه.

 

نتحدث عن الانتقال كما لو أننا ندير خطواتنا كما نشاء. يكفي أننا نشتري هاتفًا نقالًا جديدًا، مثلما حصل لي قبل أقل من شهر، لكي نتأكد من أننا بتنا مقيدين أكثر مما مضى، أكثر مما كان عليه هاتفنا النقال قبل أربع سنوات وأزيد... أتأكد، منذ أسابيع قليلة، من أنني لا أحسن الانتقال، ولا التحكم بهاتفي مثلما أرغب وأقرر. أنا موجود فوق خطوط طرق مسبقة، معبدة، مرسومة، ذات احتمالات وخيارات مبرمجة في صورة مسبقة : إن لم أسلك أيًّا من الطرق المقترحة، فسأقع خارج الطرق، خارج الخريطة : أنا لست موجودًا، أطرق وحسب على بوابة من دون أن أسمع سوى وقع ضرباتي.

كتب غيري قبلي بأننا إذ نجلس أمام الورقة البيضاء فنحن لسنا أمام ورقة فارغة واقعًا، وإنما نحن أمام ورقة مسبوقة بمعنى ما : تسبقنا إليها الألفاظ، والعبارات، والتراكيب، واحتمالات التأليف المعهودة. كذلك هو الهاتف النقال... لنا أن نكون أكثر من مهندسين مجربين في صناعة البرمجيات لكي نحسن التحايل ربما على أن لا نكون "مراقبين" في أدق تفاصيل حياتنا وجسدنا وحواراتنا.

الهاتف النقال لا يعدو كونه خريطة مرور وطرقات، سريعة وبطيئة، مرسومة، بحيث تقوى – إن شئت الاختيار – أن تقف بمنأى وتتفرج، فيما يدور العالم أمام ناظريك.

قد لا تكون هناك "مؤامرات" دبرت لنا "الثورات"، أو الانقلابات، إلا أن الأكيد هو وجود ضغوطات مزيدة كانت تتهدد وجودنا السابق : مثلما ضغطت قوى رأسمالية متوثبة عشية الاستعمار، لإدخال بضائع وبضائع إلى أسواق مكتفية بسوقها المكتفي بنفسه، والمنغلق على دورته، تعايش مجتمعاتنا، اليوم، ضغوطات مزيدة، لا تقضي فقط بأن يصبح الهاتف النقال جزءًا موصولًا بأيدينا، مثل استطالة جسدية وعملية له، وإنما يقتضي الأمر – وهو الأهم – بإدخالنا في دورة علاقات مختلفة.

أكرهنا لغير سبب وسبب بالدخول إلى دورة جديدة، مختلفة. وهذا أصاب دولًا ومجتمعات لم تعرف "الثورات". أُكرهنا على ذلك، فيما اختار غيرنا خيارات أخرى، وهي مواكبة ما يجري، إن لم يكن الفعل المبادِر فيه. هذا ما يتعدى السياسة والحاكم والبرنامج الاقتصادي... هذا يصيب "الحضارة"، كما عاود ريجيس دوبريه الكلام عنها في أحد كتبه الأخيرة : كلنا خلنا أن هذا اللفظ قد سقط تمامًا من الاستعمال، فإذ به يحضر من جديد، ويفيدنا أن هناك دورات انتقال أوسع تغييرًا من غيرها... دورات "تقولب" حضارات وثقافات من جديد، فلا نحسن فيها التمييز بين ما هو حاجة أكيدة وبين ما ننتهي إلى تبنيه ونصبح متلقين له مثل الماء والهواء لديمومة حياتنا.

الأكيد هو أننا ما كنا نمشي فوق الخريطة نفسها، وما كان يبدو بمثابة انتقالات لنا كان أقرب إلى المشي في النوم. يبدو لي أحيانًا أن الكثير من الشباب العربي أو الإفريقي الذي يهاجر بكلفة شخصية هائلة يدرك حقيقة العالم الذي نعيش فيه أكثر من كثير من حكامنا ومثقفينا. يكفي لذلك أن نعاين ونحصي "العدة" الخفيفة ولكن اللازمة لانتقالاتهم برًا وبحرًا. الطريف، بل المفارِق في حراكهم، هو أنهم يعودون إلى طرق المشي القديم : على الأقدام، أو في قوارب مرتجلة وبدائية الصنع في أحسن الأحوال... إلا أنهم يصطحبون معهم : هواتف نقالة، كتب تعليم اللغة الإنكليزية، وما اتسعَ من جيوب في السترة الوحيدة...

يتحدثون عنهم بوصفهم "طالبي لجوء سياسي"، أو "مهاجرين اقتصاديين"، وغير ذلك، فيما أراهم يشخصون إلى أفق بسعة العالم، من دون لغة أو تراث أو سياسات تخصهم... باتوا قابلين للتخلي عن كل شيء، من دون هوادة، على أن عملاتهم القديمة بارت، لم تعد صالحة؛ وأنه يكفيهم الانتقال إلى المجال الآخر لكي يفوزوا بوزن جديد لحياتهم، لوجودهم. قد يسمي البعض هذا باليأس الشديد، حتى حدود الانتحار أو الموت غرقًا، إلا أن هذه الكلفة العالية تساوي عندهم ما هو جدير بالعيش، بالفوز بحال أخرى.

استوقفتني بعض الأرقام، في الشهور الأولى للحراك العربي، إذ لاحظتُ فيها أن أعداد من طلبوا الهجرة السرية فاقت حينها أعدادهم في عهود الديكتاتوريات العسكرية والبوليسية. ذلك أن هؤلاء الشباب لم يعبأوا بآمال "الربيع العربي"، كما قيل فيه. وما نسيناه – كما كتبت في أحد نصوصي السابقة – هو أن هذا الربيع ظهر في عز الشتاء العربي.

هؤلاء المهاجرون السريون إعلان فاضح عن خواء حياتنا. بثورة أو من دون ثورة. خرجوا على طرق الانتقال بما فيها مراسيم الانتقال : تأشيرة سفر، بطاقة سفر، ختم الشرطة عند الخروج وعند الوصول... خرجوا من دون حقيبة، من دون لغة، من دون عملة، من دون هاتف صديق عند الوصول... خرجوا لكي يصبحوا بشرًا.

هؤلاء المتسللون يلبون في واقع الامر النداءات المثيرة التي يتلقونها في الصور، عبر "الأنترنت" عما يكونه الإنسان في مجتمع عادل وآمن. كيف لا، وقد بات العالم أشبه بضواحٍ ضخمة لأمبراطورية متموجة الحدود، يديرها أصحاب مشروعات "فايس بوك" و"انستغرام" و"تويتر" وغيرها.

بات الانتقال مختلفًا، وكذلك الوصول مثل الانطلاق. نحتاج إلى مراجعة الخرائط والمحطات وطرق المرور...

 

أكرهنا على الانتقال في "الحراك العربي"، وهو ما أسميه بالانتقال المفارِق. إذ أتيح لنا النزول إلى الشارع، والتقدم حيث لم يكن متاحًا لنا ذلك. يحلو لي التوقف قليلًا عند أمر قلما درسناه أو فكرنا فيه في تاريخنا، وهو "النزول إلى الشارع". متى نزلنا إلى الشارع ؟ متى أتيح لنا، أو سمحنا لأنفسنا، بالخروج العلني على سلطة حاكم أو حكومة ؟ متى أصبح "النزول" ممكنًا بدل "الفتنة" التي ترافق أي خروج على الحاكم (وفق الفهم الموروث، المستمر) ؟

لا نحتاج إلى معلومات وافية، وتحاليل حاذقة، لكي نتأكد من أن هذا حصل في أحضان الاستعمار واقعًا : تستوقفني دومًا صورة هدى شعراوي، في القاهرة، لما خرجت إلى الخارج، إلى الشارع، ونزعت في العقد الأول من القرن العشرين الحجاب عن رأسها : في وجهِ مَن نزعته ؟ أفي وجه الضابط الإنكليزي أم في وجه شيخ الأزهر و"الذكورية المستدامة" ؟ أي ظروف سمحت لها بالخروج والتظاهر ؟ أكان في مقدورها فعلُ ذلك في أيام محمد علي أو الفاطميين أو غيرهم ؟

لا يسع المجال، هنا، للوقوف عند أمور ومعوقات حالت وتحول دون انتقال الأقدام الحرة في مجتمعاتنا. يكفي أن نستعيد بالذاكرة أحوالنا : لم نعرف سوى الأمبراطوريات الوراثية، من دون الدول، ولم نعرف سوى تدابير الحكم، بين تصرف استنسابي بمقاليد الحكم وبين تشريعات تولاها فقهاء متزلفون وشديدو التقليدية في أحوال كثيرة.

كانت قوى الاستعمار أشد قوة، بطبيعة الحال، من أن  نقوى أمامها، لكنه كان لحكمه وأسسه وشرعيته ما لا نقوى على مواجهته، كمثل الحديث : "الإسلام هو الحل"، و"بلاد العرب للعرب" وغيرها ما تمثل خصوصًا في سياسات "التأميم". ما أحسنَّا إعلانه، ما رفعناه هوية لنا ومطلبًا لنا : هو أننا لسنا هم، وليسوا نحن. وهي الثنائية التي نلقاها في سياساتنا وآدابنا وفنوننا، ما ظهر في كثير من الثنائيات المتقابلة والجدباء في الوقت عينه.

إلا أننا لم نسأل السؤال البسيط، البديهي : ولكن نحن، مَن نكون ؟ وكيف لنا أن نكون ؟ هذا ما تدبرت الإجابة عنه نخب عسكرية، محدودة الثقافة في غالب الأحوال. هكذا أدارت المخابرات الحياة العربية بتجلياتها المختلفة، ما جعل الاستكانة القديمة، في ظلال الأمبراطوريات الوراثية، متمادية. فمن أين لنا أن نكون جديرين بإدارة أحوالنا إن أتاحت لنا لحظة "انفجارية"" مواجهة السؤال : من نحن ؟ وكيف لنا أن نكون في وجودنا ؟

نفقتد، في ذلك، أي تراكم كان، أي تراث وزاد. أقصى ما يمكن أن نحلم به : مثقف منتفع وعسكري متقاعد.

 

هذه الانتقالة المفارقة قد تكون مقلوبة في حال المثقف، ولا سيما المبدع منه. هو، بخلاف مجتمعاته، قادر وقابل على الحركة أكثر منها، بحكم حال الفنان نفسه، وأحوال الفن في عالم اليوم. فالفنان يكاد أن يكون، أو يمكن أن يكون، شبيهًا بالمتسلل غير الشرعي. هو متسلل على أي حال، ولكن في العلانية؛ وتسلُّلُه هو علامة شرعيته الفنية المستجدة.

ذلك أن أحلام الفنانين غداة الاستقلالات العربية سقطت أو تحولت. كانوا يحلمون بقيام فن "وطني"، وأدب "قومي"، وثقافة "خصوصية". هذه السياسات فشلت، أو أتت – حسب البلدان – بنتائج شديدة التفاوت. ها ما يمكن النظر إليه في أحوال التعليم، قبل أحوال الثقافة : هل أنتجنا تعليمًا يُمكِّن الطالب من إطلاق قواه في التخيل والتصور والسؤال والنقد وتحكيم العقل في المسائل ؟ هل أقمنا سياسات تقوم على المساءلة، لا على التلقين، وعلى الحوار، لا على التسليم بمسبقات كثيرة، لنا أن نسلِّم بها وحسب ؟

هل دخلت الثقافة، ومنتجات الكتاب على أنواعها، في صلب عاداتنا الاجتماعية، فيكون الكتاب هدية اجتماعية، لا فرضًا مدرسيًّا كريهًا ؟ أتكون القراءة عادة اجتماعية، في البيت والحافلة، قبل الصف وبعده ؟ أتكون المسرحية والفيلم واللوحة نافذة ممكنة تفضي إلى ما نحن، بين رصدٍ وتخيل ؟ ذلك أننا لا نحسن التمييز بين الجدار والنافذة : بين أن تكون منتجات الصورة، بين ثابتة وحيوية، صالحة وفاعلة أكثر من تعليقها على جدار في بيت أو متحف أو في صالة عرض، أي أن تفضي إلى خارج الصورة نفسها، إلى أحوالنا وهيئاتنا ؟

في إمكان أي دارس أن يتحقق، من دون مشقات بحثية كبيرة، من أن أحوال الثقافة والآداب والفنون فشلت في أطرها وبناها الاجتماعية، أي في ما يولدها وينتجها ويسوقها وينشطها ويجددها. وإذا كانت هناك "نجاحات" ثقافية وأدبية وفنية فردية – وهي موجودة وأكيدة – فإنها جرت بشق النفس، وبمعونات خارجية في الغالب. ذلك أن الحديث عن ثقافة "خصوصية"، وأدب "قومي"، وفن ذو "شخصية وطنية"، لا يعدو كونه – على الرغم من النوايا والتطلعات الطيبة -  حديث السلطة مع نفسها، حديثها مع ما يمكنها التحكم به، ما دام أنها تتحكم بما هو خصوصي وقومي ووطني.

وهو ما يَظهر، في صورة ملطفة، في مثال : المثقف المذنب. فكم من حكومات وتشريعات تدين سلفًا، وتبيح لنفسها أن تحكم على المثقف في ما له أن يفعله، إذ تجعل من نفسها القيمة على ما يمكن تسميته بـ"سياسة الثقافة"، وبأخلاقياتها، وبشرعيتها. وهذا المثقف المذتب قد نجده لدى كتاب وفنانين ومثقفين ممن يجدون أنفسهم "مقصرين" في ما يفعلونه : للثقافة، للشعب، للوطن وغيرها. فتراهم يسعون إلى الاقتراب، إلى "النزول" إلى الشارع أو الساحة العمومية، طلبًا للتواصل، مع جمهور ليس لهم أن يثقفوه، بل للدولة، بمؤسساتها التعليمية والإعلامية والثقافية، أن تؤهله، أن تصقل ذائقته الفنية.

ليس في مقدور كاتب اليوم وفنانه ومثقفه أن ينتج بمنأى عما هو عليه الكتاب والفيلم واللوحة والمسرحية في عالم اليوم. يكفي أن ننظر إلى عالم الغناء والموسيقى لكي ندرك بأن تواقتًا وتناغمًا يجريان بين نوتات متباعدة، وباتت متقاربة.

أنا لا أرسم مشهدًا مثاليًّا، ولا أدعو إلى أي شيء؛ كل ما أريد التشديد عليه هو أن حال الثقافة والفن والآداب باتت مختلفة، باتت لها "لغات" و"أساليب" مستحسنة ورائجة، ما لا نقوى على مواجهته، أو على النأي بالنفس عنه.

ارتبطت الفلسفة، عند الإغريق، بالمدينة، بحاجاتها في التفكير والمحاورة والإقناع والتعليل والحجاج، بما يرسم سياسات آيلة للتفاهم البشري وسعادة الإنسان. وهو ما نجده في كثير من الاحتفالات والطقوس القديمة والمتأخرة، حيث إنها ارتبطت، هي الأخرى، بالمجال الحضري، لا المترحل، أي بظاهر الاستقرار السكاني وتفاعله، بما يجلب له تواصله ومتعته في العيش. الفن شريك، مثل الفلسفة، بل صانع لمثل هذه التحولات القديمة والمتجددة.

ذلك أن الفلسفة مثل الفن يتيحان التنقل في ما هو ثابت أو راكد. يتيحان الاستباق والتوقع بدل الركون والتسليم بما هو قائم. يجري الحديث، اليوم، عن عالم افتراضي على أنه جديد، فيما هو قديم للغاية، تقوى عليه أبسط استعارة.

تضحكني كثيرًا الصور السينمائية الافتراضية، أو المُنتجة في برمجيات إلكترونية، إذ تعيدنا بذلك إلى ما هو أبسط من عالم كرتوني، من "عالم وولت ديزني"، الذي يوحي بالتخيل والاحتمال والافتراض والمتعة أكثر من هذه الصور الهندسية البليدة.

هذا ما يمكن قوله في مشروعات فنية تتوخى، هي بدورها، إنتاج عالم "من صميم الواقع"، كما يقال، أو مثلما يقال : (t v reality)، أو قصة فيلم مأخوذة من مجريات الأحداث... وهو ما يصيب بعض أعمال الفن البصري بطريقة فاقعة، لا يتأخر فيها الفنان عن استحضار جسده في المشهد، أو الإتيان بباب أو بسيارة بديلًا عن عالم الفن السابق. بات النظر إلى العالم كما هو بعيدًا عن متناول المتلقي لدرجة أن إحضاره أمام أنظاره مدعاة لمفاجئة، لدهشة.

هذه وغيرها تنتمي إلى ما أسميه بالواقعية "الزائفة"، ما دام أن الفن لا ينقل ما هو الواقع بل يحوله في واقع الأمر، وبالضرورة. حتى الصورة الفوتوغرافية، "الأمينة" كما يقال، والأكثر أمانة في نقلها للصورة، كما يقال، ليست بأمينة، ما دام أن ما تنقله، ما تسجله، ما تحفظه، لا يعدو كونه لحظة في مشهد بصري ممتد، مما تلتقطه الآلة، فيما يفاجىء العين حكمًا، ما دام أن العين تلتقطه في امتداده، لا في توقفه – الاعتباطي، في نهاية المطاف. وهو ما يمكن قوله في أنواع أدبية وفنية عديدة، تدعي : النقل الأمين، والاقتطاع الحي لما يجري في المجتمع وبين الأفراد، إذ إن بناء هذه الأنواع الأدبية والفنية ليس استنساخًا بأي حال، وإنما هو انبناء جديد، تتحكم به أدوات الكتابة والتصوير وغيرها، وبما يوافق ذائقة سارية بالضرورة، كما يستثيرها.

ما يمكن قوله في ذلك كله هو أن هذه المشروعات الأدبية والفنية تقوم، في منطلقها وفي ما تصبو إليه، تبعًا لحسابات "تسويقية" في المقام الأولى، قوامها الإجابة عن السؤال التالي : كيف يمكن استثارة العين، والاهتمام، أي سياسات الجذب ؟

مثل هذه الإجابات توافق سياسات إعلانية في أساسها : كيف يمكن اجتذاب العين في هذا المد الصوري الهائل ؟ ها ما أجاب عنه البعض باعتماد منطق "الإعلان" (أو الإشهار) سياسة لاجتذاب الجمهور – ولا سيما العريض منه. هذا ما يجعل العمل الفني "بضاعة تجارية" مزيدة، معولمة، أقوى مما تحدث عنه والتر بنيامين وتيودور أدورنو وهربرت ماركوز.

يكفي لذلك أن نتحقق من غلبة البصري على الكتابي، مثلما تحدث عنها مارشال ماكلوهن منذ ستينيات القرن العشرين في كتابه : "منظومة غوتنبرغ" (1962)، قبل أن يشيع استعمال الحاسوب، ثم الهاتف النقال، في العقود الثلاثة الأخيرة. وهي غلبة متمادية، متفاقمة، لدرجة أن التلفزيون بات يغلب صالة السينما، والفيديو المسجل مباشرةَ التلقي الحي والمتواقت مع تاريخ إنتاجه وزمنه.

 

الأفق أمامنا، علينا أن نراه، فلا يكفي أن ننتقل، بل أن نحسن الوقوف لتسديد الخطى. هذا ما تحركه الفلسفة مثل الرغبة، والعين مثل العقل.

 

("مجالس الحمامات"، الحمامات –  تونس، 3 آب-أغسطس 2017).