2-5-2019
حوار أجراه - السيد حسين
لقصيدة النثر حضور فاعل وقوى فى المشهد الشعرى العربى
التجارب الإبداعية فى لبنان عديدة لكن ما يظهر فى السنوات الأخيرة مقلق
يعد الشاعر والروائى والناقد اللبنانى شربل داغر، الفائز بجائزة الشيخ زايد، من أبرز الأدباء فى الساحة اللبنانية والعربية، وداغر كاتب وأستاذ جامعي، له مؤلفات مختلفة، بالعربية والفرنسية، في: الشعر، والرواية، وفلسفة الفن، والآداب، والترجمة والتاريخ، درس فى الجامعة اللبنانية، حيث تخرج منها بإجازة الكفاءة فى اللغة العربية و آدابها، التحق فى باريس بجامعة السوربون الجديدة - باريس الثالثة، وحصل فيها: دبلوم الدراسات المعمقة (1977)، والدكتوراه (1982)، قبل أن يحصل لاحقاً على الدكتوراه الثانية (1996)، وكانت بعنوان: “الجمالية فى العربية” يعمل حالياً أستاذاً متفرغاً فى جامعة البلمند فى لبنان، وصدر له العديد من الأعمال المختلفة.
< كيف استقبلت خبر فوز كتابك “الشعر العربى الحديث: قصيدة النثر” بجائزة الشيخ زايد فرع الفنون والدراسات النقدية؟
مهما كنتَ تتوقع الفوز، مهما حدثَك الأصحاب عن فوزك “الأكيد”، فإن وقع الفوز يبقى مفاجئًا، ومختلفًا، وما إن ظهر رقم إماراتى على شاشة هاتف جوالي، ارتفعَ منسوب التوقع، وبلغنى صوت رئيس اللجنة الشيخ الدكتور على بن تميم يزف إلى النبأ السعيد، ويزيد عليه أقوالا أخرى، ثمينة ولطيفة أحتفظُ بها لنفسي، ومعه بالطبع.
< تقول إن فوزك بالجائزة يعد اعترافا وتشريعا لقصيدة النثر كيف؟
الفوز بالجائزة يعنى - بطريقة غير مباشرة – اعترافًا بالقصيدة، التى طال الجدل حولها فى بلادنا وثقافتنا، فيما لا تشهد ذلك فى بلاد وثقافات الغير. وهذا مما يحسب للقائمين والمحكمين فى الجائزة، إذ انصرفوا إلى تقويم الجهد البحثى المبذول فى الكتاب.
< ماذا عن كتابك “الشعر العربى الحديث: قصيدة النثر” الفائز بالجائزة؟
هذا الكتاب يقع فى سلسلة من أربعة كتب متتالية أجريتُ فيها تحقيبًا تاريخيًا جديدًا للشعر العربى الحديث: كتابى الفائز هو المحطة الرابعة فى هذا التحقيب. فإن ما قام به كتابى يتعين فى جملة من الاستهدافات التى طلبتُها بمجرد الشروع فى تأليفه: التأكد، أولًا، من تاريخ كتابة هذا الصنف الكتابي، سواء فى العربية، وقبلها فى الثقافات الفرنسية والإنجليزية والأمريكية والألمانية. وهو ما احتاجَ منى إلى مجهودات فى تفقد المدونة العربية، حيث جرى الاكتفاء بأسماء، وبتواريخ، من دون التدقيق اللازم فى هذه الحال. كما عملتُ، من جهة ثانية، على بناء المنهج المناسب لدرس هذه القصيدة، ابتداء من نقد ما هو متوافر منهجيًا، ولا سيما كتاب سوزان برنار الشهير حول هذه القصيدة. وهو منهج قام على معالجة جوانب بناء القصيدة، لا الاكتفاء بجانب وحسب منها.
< هل تكونت رؤية جديدة لقصيدة النثر؟
لا يسعنى إطلاق حكم فى هذه المسألة، لأننى لم أعالج بعدُ هذه القصيدة فى تاريخها الغنى والمتعدد والمتنوع على مدى يزيد على خمسين سنة. ما يمكننى قوله هو إن هذه القصيدة ابتعدتْ – فى عدد كبير من تجاربها - عن أنماطها التأسيسية فى فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا. بل يمكن القول إن هذه القصيدة “تطبعت” و”تعربت” وتقيدت بأنماط تعبير مستحبة خارجها، فاستجلبتها إليها.
< هل استطاعت قصيدة النثر أن تؤسس لنفسها وجوداً وحضوراً فاعلين فى المشهد الشعري؟
للقصيدة بالنثر (كما أحب تسميتها) حضور فاعل وقوى فى المشهد الشعرى العربي، بل تشكل غالب التجديدات البنائية فى هذا الشعر. فهى قصيدة أكثر قربًا من الحياة الجارية، وأكثر ابتعادا عن أنماط باتت مستكرهة أو بليدة، عدا أنها أتاحت للخيال حرية واسعة، فضلًا عن اجتراح تراكيب مبتكرة فى البناء.
< إلى أين وصلت قصيدة النثر مع الأذن التى أدمنت الإصغاء إلى العمود الشعرى القديم؟
الأذن التى تتحدث عنها اعتادت على غير الشعر القديم أو الشعر الحديث... اعتادت على موروث غنائى فى المقام الأول، ومتجدد مع بعض كبار الغناء العربى فى القرن العشرين. القصيدة بالنثر لم تقطع مع هذا الإرث فقط، بل قطعت فى الأساس مع الإرث الشفهي. هذه القصيدة بُنيت للقراءة، وفى كتاب، فيما نحن نعمل على جرها إلى المنصة، والخطابة، أو الدندنة الغنائية... هذه ليست من طبيعتها، وغياب هذه عنها ليس نقيصة فيها.
< هل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره فى المشهد؟
ما يقلقنى أكثر هو تراجع الكتاب، وتراجع القراءة. ما يقلقنى هو قلة الدراسات التى تُعنى بدرس الشعر، إذ إن العناية الفضلى بالشعر تبقى فى ظنى العناية بدرسه.
< يقول الماغوط فى سيرته: “أريد أن ألغى المسافة بين هذه التعريفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عندى نصوص. إذا قلتَ عنى لست بشاعر، لن أزعل ولن تهتز بى شعرة”... هل يتواءم شربل داغر مع هذا الرأي؟
هذا كلام طيب. وهو بعض ما أنجزتْه هذه القصيدة، إذ تقوم على التركيب الجسور، وعلى كسر الأطر والسياجات السابقة. هذا ما اختبرَه الماغوط فى فتحه أنواع الكتابة على مصراعيها... وهو ما أفعله بدورى فى جمعى بين أنواع كتابية أخرى فى ميدان القصيدة.
< وهل من مشروع شعرى متكامل فى تجربتك؟
لا يمكننى الحديث عن مشروع شعري، ولا عن كونه متكاملًا بالتالي. هذا يفترض وجود خطة، ووجود مرامٍ مسبقة، ووجود استهدافات مقصودة. وهو ما لا يناسب شعرى كليًا. ومن يتتبع مجموعاتي، التى زادت على اثنتى عشر مجموعة، يتحقق من كونها متباينة فى أنماط تركيبها، وفى أنسقة بنائها. فالقصيدة قد تكون قصيرة للغاية، ما لا يتعدى السطر الواحد، وقد تبلغ عشرات الصفحات فى أكثر من قصيدة. هذا يعنى أن بناء القصيدة لا يخضع لقالب أو هيئة مسبقة، وإنما يتحكم به – فى تجربتي، فى تجاربى المتلاحقة – شاغل التجديد البنائى فى كل قصيدة. فكل قصيدة حضورٌ قائم بنفسه.
أما إذا كان الحديث عن “المشروع” يعنى الحديثَ عن “رؤية” أو عن فضاء تعبيرى فى شعري، فهو أمر ممكن، وقابل للبحث بالطبع. إذ إننى أنساق، وأميل، إلى مواقف واختيارات وتصورات تنبع فى صورة مؤكدة من فرديتى التعبيرية، من جهة، ومن ميلى النقدى فى الحكم على القضايا والظروف وغيرها.
< هل حاولت يوماً أن تكتب قصيدة وأخفقت؟ تغافلت عنها فجاءتك فى أوقات لم تتهيأ لها، ولم تكن فى أتم استعداداتك؟
طبعًا، أخفقتُ فى غير مرة، إلا أننى وصلت أو انتهيت مرات كثيرة إلى قصائد ما كنت أقصدها بالضرورة، أو بلغتُها من دون أن تكون نقطة انطلاقها هى التى أدت إليها. لهذا تصيب كثيرين الدهشة إذ أقول: تكتبنى القصيدة فى أحوال كثيرة، وليس لى من أسبقية فيها سوى أننى أتقدم أو أسبق القارئ إليها.
< كيف تقيم تجربتك فى ضوء هذا الزخم الأدبى المتصارع من حيث تداخل الأنواع؟
لا يسعنى الحكم على تجربتى الشعرية. هى معروضة للدارسين والنقاد والقراء، وهو ما يمكن العودة إليه فى أطروحات جامعية، ودراسات ومقالات تناولتْها بالفحص والدرس، وقارنَتْها بغيرها، أو أدرجَتْها فى إشكالية تجمعها مع قصائد لغيرى من الشعراء.
ما استوقفَ عددًا من الدارسيين، وربما أكثر من غيره، فكان المزج الأسلوبي، إذا جاز القول، فى بناء القصيدة، بل المزج بين الأنواع. فغير كتاب ودراسة ومقال توقف عند ما يجمع بين التشكيل والقصيدة، أو بين المسرحية والقصيدة وغيرها. وهو ميلٌ يناسب ثقافتى وتطلعاتى أيضًا. فدراستى تجمع بين الأدبى والتشكيلي، وهو ما يظهر فى العديد من كتبي، إذ جعلتُ، على سبيل المثال، من اللغة، من الأدب، مصدرًا لدرس الفن الإسلامى القديم.
< هل من خيط رابط بين أجناس الإبداع كما تمارسها والكتابة النقدية لديك؟
تصعب على الإجابة عن هذا السؤال. سؤال مربك، بطبيعة الحال، ولا يسعنى إيجاد مثل هذا الرابط. ما يمكننى قوله هو: إن اشتغالى الدراسى والأكاديمى والنقدى فى نظريات الأدب، من شعر ورواية ونقد منهجي، وسعت من معرفتى الأدبية، وجعلتني، بوعى أو بشكل عفوي، أطلب خيارات بعينها، أو أمتنع أو أتجنب غيرها.
وهو أمر ليس بالغريب، ما دام أننا نعرف أن جوانب واسعة من تيارات الأدب ومذاهبه نشأت من خيارات فلسفية، وأن كثيرًا من الفلسفات والنظرات انبنت بعد إعمال النظر فى إنتاجات الأدب.
< البحث فى الأمور النقدية يبدو ضعيفا على مستوى الوطن العربى، فى رأيك ما الأسباب؟
أوافقك القول إن النقد يتراجع فى العالم العربي. وهذا يعود إلى عدة أسباب، منها أن مصاعب البنيوية فى بناء منهج نقدى مناسب للأدب قاد البعض إلى التخلى التام عنها، فيما يمكن الاحتفاظ بالعديد من مكتسباتها الأكيدة، والصالحة من دون شك فى درس الأدب بأنواعه المختلفة. أما السبب بالثانى فهو ناتج عن نجاحات الرواية، حيث إن نقادًا انصرفوا إلى درس الرواية ظانين أن درسها يجلب لهم الرواج.
< فى الحياة خسارات كثيرة، هل تعوضنا الكتابة بعض خسائرنا؟
لا شيء يعوض الحياة نفسها. خساراتها وآلامها لا تُرد. فإن فى الأدب ما يجعل الحياة أكثر بهجة، وأكثر تجددًا، ما دام أن الكاتب قابل لتوسعة حياته، بحيث تمده الرواية، على سبيل المثال، بشخصيات قد يحلم بأن يكون عليها، وتعيش أوضاعا يسمو إلى عيشها.. الأدب، بهذا المعنى، تكثير للحياة.
< ماذا تمثل الكتابة بالنسبة لك؟
باتت الكتابة ملازمة لي، بشكل يومي، ما يجعلنى أرى إليها، وأتعامل معها، مثل طبيعة ثانية، حتى لا أقول أولى لي. الكتابة نَفَسي. ما يجعلنى أشعر بحياة ما، وأنها ممكنة، وأنها مفتوحة على آفاق وشموس وملذات لا تنقطع.
< يقول الروائى العالمى إرنستو ساباتو: إن كل فنان يطمح تجاه قطعة من الكمال، هل ممارستك لحرفة الأدب خطوة تجاه الكمال؟
لا أطمح إلى الكمال أبدًا. أطمح إلى التعبير عما يشغلنى ألمًا أو موقفًا أو بهجة.. فللكتابة يدان إضافيتان ليديَّ، ولسانًا يتعدى قدرتى على التلفظ. بل يمكننى القول: إن الكتابة تبعد عنى الموت، وإن يقع فى نهاية طريقي، ما دام أن الكتابة ليس لها بطاقة هوية غير بطاقة التخيل والتجدد.
< متى يجب أن يتوقف الشاعر عن الكتابة؟
لا أحسن الجواب عن هذا السؤال، ولا أستطيع الاتكال على تجربتى الشعرية للبناء عليها. فقد زاد إقبالى على الشعر، مع تقدم العمر، بدليل أننى أصدرت مجموعتين شعريتين فى السنة الجارية.
< ما تقييمك للحركة الثقافية والمشهد الإبداعى فى لبنان؟
التجارب الإبداعية فى لبنان عديدة ومتنوعة، لكن ما يَظهر فى السنوات الأخيرة مقلقٌ كذلك. فقد شهدت تجارب الأدباء اللبنانيين منذ الربع الثانى من القرن التاسع عشر تجليات واسعة ومجددة، وانتقلت إلى بقية تجارب الثقافة العربية، سواء فى “الشعر العصري” أو فى “الرواية العصرية”، ثم فى مجلات “الآداب” و”شعر” وغيرها. ما يقلق أخيرًا، هو تراجع منسوب التجديد فى عدد بالغ من تجارب الشباب، فيما نشهد غيرها مما يتصل بتجارب المجددين.