عن مملكة الطفولة، ونوبل، والسر الأخير، واللهو، وشعر الفايس وغيرها

- من أنت وماذا تفعل الآن؟
= لا أعرفني، إذ إنني أرى إلى هويتي على أنها ما يتقدمني وأسعى إليه، لا ما سبقني وأسعى إلى الانصياع له.
القصيدة تمرين على الحياة، وعلى الهوية في آن.
- ما هي القصيدة التي لم تكتبها بعد؟
= هي القصيدة الدائمة، ما دام أنني أصبحت أكتب شعرًا لا أخطط له؛ وإن خططتُ له، فهو يأتي بخلاف ما كنت أذهب أو أتوجه إليه.
القصيدة شروع في مفاتحة، وليست مشروعًا للإنجاز.
- ما تأثير طفولتك على حياتك؟
= تأثيرها كبير. أتحقق منه في ما أكتب، إذ تعود السطور والجُمل، في تشابيهها أو صورها أحيانًا، إلى ما كانَه النبع الفوار والطري في الوجود: لا أتوانى عن العودة، من دون قصد، إلى تلك المملكة، التي كانت تبسط العالم أمامي مثل أحجار صغيرة أقوى على صفِّها وترتيبها مثلما يفعل الباني في أبنيته.
- أجمل مفردة في حياتك؟
= لعله فعل: ذاق. إذ وجدتُ فيه – ولا أزال – من الاشتقاقات والمعاني والدلالات ما يلبي احتياجات عديدة في فكري، في طرف لساني، في ما هو حسي،
وعقلي، وجمالي.
- آخر كتاب قرأتَه؟
= قرأت للمرة الرابعة أو العاشرة مؤلفات رامبو الشعرية: عندما أضجر من الشعر الذي أقرأ، وأجده رتيبًا، أعود إلى شعر رامبو وأفرح من جديد بما تقوى الكلمات على صنعه في انفعالنا ومخيلتنا.
- مَن أصدقاء الشاعر؟
= أصدقاء الشاعر لا يعرفهم مسبقًا، بل يتحقق من وجودهم إلى جانبه، أقرب إليه مما يعتقد: الصديق أليف الطاولة، والأفق، واللهو. عندما يتبدى في الكلمات، يتعرف إليه، ويجده رفيقَ درب، من قصيدة إلى أخرى.
- هل مرة جافاك القلم؟
= بل يعصاني في أحوال وأحوال. أجدني لا أحسن كتابة كلمة واحدة، بل أجد الجُمل متقطعة، وأخبط فيها مثل من يخبط أقدامه في ركام عميق من الثلج.
- أتحلم بنوبل؟
= الجوائز مما هي أقل من نوبل لا أحلم بها. مكافأتي مودعة في كل قصيدة، فكيف إن لاقاني إليها القارئ مثل شريكة في رقص.
- أي بلد أحببت وتحب العيش فيه؟
= عشت سنوات وسنوات في فرنسا، لكنني بقيت أهجس بالعودة إلى لبنان. عدتُ إليه، وأتدبر في حياتي، في مُتعي وهواياتي وانشغالاتي، ما يجعلني أشعر بأن ما أعايشه فيه ما كان لي أن أعايشه في غيره. إلا أن هذا البلد يمثل في القصيدة أكثر مما يمثل في طرقات وجبال وأمكنة في بلدي.
- ما هو الشيء الذي حدث في حياتك ولم تنسه؟
= كثير مما عشت لم أنسه، إذ إنه دروسي وبهجتي وأحزاني فيه.
- ما هو السر الأخير في حياتك؟
= هو ما يخفى عني تمامًا، وقد لا أعرفه بدوري، فكيف أفصح عنه!
- ماذا يقول لك الحزن والفرح؟
= الحزن مثل الفرح انفعال واحد، ولكن بمؤشرات مختلفة، متضاربة.
- أتخاف الشيخوخة؟
= لا أنظر إليها، وإن باغتَتني – وهي تباغتني في السنوات الأخيرة في طلات مفاجئة – فهي مما أداويه لا بالتفكير فيه، بل بمداورته بما يجدد الرغبة
في الحياة.
- عم تبحث في كتابة الشعر؟
= أبحثُ في الشعر عما لا أجده في غيره من فنون التأليف الكتابي، أي الخافي والحميم من حياتنا، كما هي، وكما نشتهيها. ففي الشعر ما يجعلني في صميم الحياة، وفي خارجها في الوقت عينه. الشعر يجدد حياتنا، بل يزيدها حيوات وحيوات بالمعنى الانفعالي للكلمة.
- ماذا وجدتَ؟
= وجدتُ الكثير، مما شدني في صورة متمادية إلى الشعر. توقفتُ عن كتابة الشعر لسنوات وسنوات، بل بنوع من القطيعة معه. إلا أنها كانت مثل القطيعة في الغرام، أي أنها وجه آخر للحب نفسه. حتى إن أحد
أصدقائي قال لي ذات يوم: ليس في مقدوركَ هجرُ الشعر، فهو لا يهجرك، إذ يتسلل وينبري أحيانًا في كتاباتك الأخرى. فكان أن عدتُ ونشرتُ المجموعات والمختارات الكثيرة. حتى بات الشعر – على الرغم من إقبالي على كتابة أنواع أخرى – بيتي الأكيد بالمعنى الجمالي للكلمة. ففي أنواع الكتابة الأخرى أجد مهاراتي أو كفاءاتي أو خبراتي الكتابية، أما في القصيدة فأجدني مثل من يقع على بيته بعد طول ضياع وتشتت.
- يقال إن قصيدتك لا تتوخى التصنيف، وأنت ماذا تقول؟
= أقول إن ما يقولونه صحيح، بل أكثر. فأنا أعمل – لو شئتُ الشتبيه – في القفز فوق أنماط التأليف، من جهة، وبين طرق بناء الجملة، من جهة ثانية.
فما يبني شعرية قصيدتي لا يتمثل في توافقها مع معايير سارية أو مقرة، وإنما في ابتداعها لغيرها، مما يجدد حياة القصيدة وينميها.
- معظم الكتاب يكتبون للمستقبل، لما بعد الموت، للخلود. ما رأيك؟
= لا يعنيني المستقبل، والخلود، إذ إنني أطلب من القصيدة ما يجدد متعتي بها، أثناء القيام بها، فلا يشغلني عنها أي شاغل آخر.
- ما هو حال الشعر وكافة الجماليات؟
= حال الشعر صعبة، إذ جرت في العقود الأخيرة تغيرات عديدة، أدت إلى تراجعه. فقد فقدتْ الكلمة بريقها السابق لصالح الصورة، فكيف إذا كانت
الكلمة صعبة أو مشعة المعاني مما لا يستسيغه منطق التواصل، وهو منطق مبسط وميسر واستهلاكي بمعنى ما! الجماليات، بأنواعها العديدة، تنحاز بشكلٍ متمادٍ للصورة، بل لمنطق الدعاية في الصورة، أي التي تعتمد على عنصر الجذب والصدم ولفت النظر. وهو ما تقوم به القصيدة باستعاريتها الشديدة، إلا أنها تطلب ذلك من الكلمة، من التركيب، من التأليف، بينما تخاطب الصورةُ الماديةُ الأحاسيسَ عبر النظر.
- كناقد، ماذا تقول لشعراء الفايس بوك؟
= لي في شعر الفايس بوك، أو في ما ينشر فيه، قولان مختلفان ومتكاملان بمعنى ما. فالفايس وسيط نشري مختلف عن الورق، وهو يحمل الشعر مع غيره
بالتالي، ويذيعه على جمهور قد يكون أوسع، في أحوال، من أحوال الكتاب أو القصيدة الورقيين. إلا أن إتاحة النشر الإلكتروني أباحت ما لم يكن مباحًا تمامًا في النشر الورقي، أي تغييب جهات ترعى النشر أو تمنعه. ففي الفايس بوك كلُّ متطفلٍ أو شاعرٍ متمكنٍ شاعرٌ أكيد، إذ يحمل الوسيط الإلكتروني في طياته هذا الإمكان، وهذا التواصل. بهذا المعنى – لو استعدتُ عبارة
لأمبرتو إيكو – يصبح أي متطفل على الشعر شاعرًا في الفايس بالضرورة.
أنقد هذا، لكنه لا يضايقني للغاية. يبقى أن الفايس بوك أتاح حياة جديدة لم تكن متاحة للشعر في عزلته.

(من حوار لم يكتمل).