الطفولة لا تنقطع، لا في مشاهدها او طرائفها او في الإحساسات والتجليات الأولى لما هو عليه عالمنا الانفعالي والسلوكي.
هي ذلك الينبوع الفوار الذي لا نتوانى عن الشرب منه بإحساس الارتواء من دون شبع.
هذه الطفولة تدور دورتها فينا بعد أن غابت عنا أكثر في مراهقتنا وشبابنا الاول لتعود بقوة متزايدة مع تقدم العمر.
طفولتي تسبقني الى الامكنة والأشخاص والصور القديمة بحيث استعيد ما يطيب لي منها. وهي تسبقني الى اصابعي في الاكل، وفي لذاذات بعض المآكل والمشارب، وفي الطلب على لطيف الهواء تحت شجرة، او في مفاتحة العينَين لغيرها...
وانا لا انفكُ عن طفولتي ما دام أنني انتبهتُ، منذ سنوات، إلى أنها مسرح القصيدة المكشوف. فالشاعر، عندي على الأقل، طفلٌ له من اللغة لعبته الأولى والأخيرة. فكما نشعر ونعمل في الطفولة على تقليد الكبار، كذلك الشاعر عندي يعمل على استخراج الدهشة وتوليد الانفعال في ما يكتب. شاعر يسعى إلى رؤية الأشياء والعابرين والبعيدين كما في كيان الطفولة الحر ، حيث كل شيء ممكن بفعل الرغبة. للشاعر ان يرى هذا كله في خفته، في طيرانه، في اجتماعاته غير الاليفة، وغير المعهودة.
فما ابتغيه، كشاعر في قصيدتي، هو بعض ما يستهويني في ملهى الطفولة و"شيطنتها"، وفي جسارتها وتهورها احيانا.
لهذا تجد، في قسم من شعري، عودةً بطعم اليوم الى أكثر من مشهد وحكاية وهيئة ومأدبة، في نوع من التلذذ الذي يجدد مذاق الحياة.
هذا ما بلغ في شعري قصائد طويلة، في مسعى سردي لا ينفك عن الاستعادة بعينين يقظتين ونهمتين.
كما لم اتردد عن زيارة معالم في طفولتي في كتابة سيرية تأخرتْ في الصدور عن دار النشر بسبب الاحوال المستعصية في لبنان منذ نهايات السنة المنصرمة وحتى اليوم.
(مع بشري محمد، جريدة الأهرام، القاهرة، 3-7-2020)