يقول الناقد الفرنسي ميخائيل ريفاتير، في كلامه عن التوهم المرجعي "إن التمثيل الأدبي للواقع، أي المحاكاة، إن هو إلا الخلفية التي تظهر طابع الدلالة غير المباشرة". يستدعي هذا الأمر الحديث، بدايةً عن مدونة جديدة وجديرة بالنظر، هي مختارات شعرية انتخبها الشاعر شربل داغر نفسه، بعنوان "قيافة الأثر: سيرتي تتفقد قصيدتي"، وأعد لها تقديماً مسهباً، الناقد المغربي عبد الدين حمروش (دار خطوط وظلال). ولكن قبل الشروع في معالجة الإشكالية التي طرحها الشاعر مقلوبة - أي السيرة تتفقد القصيدة/ وليس القصيدة تتفقد السيرة - واعتباره أن الشعر، وإن كان فيه أثر من سيرة، فإن له حياة مستقلة بذاته، نمضي إلى تعيين "قيافة الأثر"، وهي بحسب "محيط المحيط": "علم عربي قديم يُعنى بتتبع الأثر". وبالتالي فإن دأب القارئ، وفقاً للإشارة الماثلة في العنوان الفرعي "سيرتي تتفقد قصيدتي"، هو أن يقتفي أثر القصائد من خلال بعض الإشارات الدالة على سيرته، ليس إلا. ولكن، أي ضير في أن ينقل القارئ تركيزه، حيناً على "الذات الشاعرة في أثناء تلفظها" على حد قول بول ريكور، وحملها أبعاداً سيرية ودلالية وأنطولوجية ماثلة في سياقاتها، وحيناً آخر يحول نظره إلى القصائد المختارة، فيتقصى بنيانها وتناصها واندراجها في مسارها التعاقبي من خلال الإشارات السيرية، حال وجودها.

 بالعودة إلى المختارات الشعرية التي غطت كل مراحل تجربته الشعرية (1971- 2017) من بواكيرها الأولى، بدليل إيراده إحدى أولى قصائده "وأينعت أزهارنا على القحط" التي لم تدرج في مجموعة شعرية بعينها، يتبين للقارئ أن المقصود هو الالتفات إلى النهج السوريالي العام، من ضمن قصيدة النثر التي اعتمدها في مستهل مسيرته الشعرية، ولا يزال "ودخلنا فاتحة الضوء، وحريق يتطاول في المعبد، وانفراجات الأعمدة العالية تمتد طقوساً وثنية: شناشيل، عقود آس، أقداماً عارية، والطبل يضج يضج يضج. نقاوة اللحم تتغاوى فوق مذبح الضحية، وآتون من كهوفنا نحمل أطياباً ولباناً؛ صدأ السنين الفارغة ورصد الآتي. يا نجمة الدرب الزرقاء، ماذا لو تتشابك أنوارنا. من أين أتيت؟ كيف ارتميت؟ أمواجي صلدة وبحري مغلق" (ص: 47).

السيرة والقصيدة

ولكن، هل يحتم على القارئ النظر إلى هذه المختارات من منظار "السيرة تتفقد القصيدة"، حيال قصيدة طويلة، عنوانها "الشارع" (ص:81- 113) ويروي فيها الشاعر، بأسلوب فانتازي، طفولته "حملوني معهم إلى خليل بدوي" (ص: 89)، وفتوته ومعايشته المكان ("ترامواي فوق سكك/ مترامية في ظن" (ص: 88) وجيرته الأرمن فيه، وضيقه بالضواحي بعد ترامي الجبال، وتلصصه على الفتيات من السطوح، وتعرفه إلى السينما، ولعبه، وطيارته الورقية ("طائرتي استعارتي/ باب سماوي لدبيب أرضي"، (ص: 111)، وتعرفه إلى البحر من منزله "البحر جار حيطاننا..." (ص: 110)، وأوتوموتريس الشرق، وارتداؤه البنطلون بدلاً من الشورت.. وإن قيل لي: إنك إنما استخلصت السيرة من كلام شعري خالص، وكان عليك تركيز النظر على الشعر من دون السرد السيري، لقلت له "لولا الكلمات والعبارات العلاقة، بحسب ريكور، والتي تحيل على أمكنة وأزمنة من الواقع المديني، ومن واقع ذات الشاعر شربل داغر، والتي لم يبخل بها عليّ، لما كنت التفت إلى السيرة، أولاً، قبل التفاتتي إلى اللغة التي حملتها، والتي من دونها لم يتسن لها (ذات الشاعر) أن تنوجد، وتحيا، وتدون مرورها".

ثم إن القصد السيري (الذاتي) واضح لدى الشاعر، من مجرد النظر إلى إجمالي المختارات، المنقسمة برأيي ثلاثة أقسام، عملت القصيدة الأولى "أينعت أزهارنا على القحط"، (ص:47-49) على إمالة الانتباه إليها، وهي: الولادة والطفولة في وطى حوب "تنورين"، ويشتمل على ثلاث قصائد، الأولى قصيرة، والاثنتان الأخريان طويلتان "لماذا ارتجفت (أمي) في الليل"، و"حصى لصبرها الصاحي"، و"حاطب ليل" (51-113). وتليها مباشرة مرحلة الشباب حتى قبيل رحيله إلى فرنسا مكرها على ظهر سفينة، في قصائد "وليمة قمر"، و"ش. د."، و"القصيدة ستسرق موتي"، "حتى حين نكون صغاراً"، و"إذ نقبل على الحياة"، و"أوهامي شهواتي"...(114 إلى 147). أما المرحلة الأخيرة المتمثلة في الإقامة في باريس فتمثلها القصائد الآتية "خرجت منهزماً"، و"أمشي في منامي، لا في أيامي"، "أنا المقامر"، "آداب الطاولة"، و"تربية الهواء"، و"ضحكة لور"، و"حجر يدون غيابي"، و"دعني" (148- 181).

ولئن كان مجافياً لواقع القصائد اعتبار أنها سردية، بل تدل دلالة حاسمة على ذات الشاعر أو سيرته، فإن فيها، كما أشرت، انطباعات دونتها هذه الذات لدى عيشها في أماكن، وبين بشر، ورفاق، وآونات عشق، ولهو، وخشية من موت، وفرار من تهديد لانتماء معين، وسرد كاف لأن يستخلص منه القارئ بجلاء سمة قصد الشاعر الناثر إبرازها وتثبيتها في وعيه، يقول "خرجت في العتمة، بجواز سفر مزور، في سفينة تجارية صغيرة، ما لن تعبأ به دورية إسرائيلية في عرض المتوسط. خرجت منهزماً..." ("خرجت منهزماً"، ص: 181).

ومثل ذلك في قصائد هي نصوص نثرية، لا بياض فيها، ولا تنضيد جدير بقصائد كان قد أثبتها في السابق، وفي يقينه أنها على طراز قصائد بودلير النثرية التي أصدرها في عام 1869، تحت عنوان "الفراديس المصطنعة" ذات التفاصيل السردية الفائضة، لا سيما قصيدته النثرية "الغرفة المضاعفة"، التي تحاكي ببنيتها القصة القصيرة، أو المشهد السردي الموشح بقدر متفاوت من المشاعر والصور الشعرية.

ذات الشاعر

ولكن ماذا عن الذات، ذات الشاعر، كما تمثل للقارئ؟ باستثناء القصيدة الأولى الطويلة "حصى لصبرها الصاحي"، (ص: 52-68)، والتي يبني فيها الشاعر حضوراً أسطورياً للحصى والحجارة، في مسقط رأسه، يؤاخي فيها حياة الطفل بحيوات الحجر، ويفلح في بث مشاعر التضامن مع حال تخفي الجماعة في ثناياها، وارتباطها بحياة المرء وموته، وانطوائها على عناصر البقاء، واندراج الحصى في حياة الفتى لعباً وتآمراً بريئاً واتحاد مصير "هذه نجمتي، ثآليلها على أصابعي/ دليل على بلوغي/ ضلوعها معي/ في حبكة نبيلة/ هذا نجمي، يواعدني وحدي/ فكيف أخفي رهبتي/ على نافذتي/ إذ يدلف إلى جسدي../ حجر لرأسينا/ نسند إليه خوفنا..."، تتبدى لي هذه الذات مقتدرة، غير منكسرة، بخلاف ما تكون عليه الذات الغنائية المصابة بعطب ما لا يكون ظاهراً بالضرورة. هي الذات الشاعرة نرجسية، وطافية على السطح، وتعتد بذاتها، بحضور الشعر أو غيابه. يقول "شاعر أنا من دون قصيدة: "ألغو وألغو إلى أن/ يسلس صوتي/ في تهاديه الخفيف" (ص: 180).

هي ذات واعية، ولا تسلم قيادها لأحلام أو تهويمات أو صور قديمة أصلية أو رموز قصد التعبير عن حالات غامضة ولا تزال قيد الكمون. بل إن إرادتها، هي إرادة صاحبها للخوض في الحياة، والتقدم في معركتها المظفرة "أشحذ إرادتي بنصلها المرتعش، فيما أدفع دفعاً ما يعيق تقدمي، وأتحين خروج الريح عن موادعها لكي توافق ميلان ساعدي..." (ص: 151). وهي ذات قادرة على التدخل في مسار تكوين الصور، باعتبار أن الجمل تتلفظه "أردد على أطراف أصابعي جملاً تتلفظني/ وأستوقف صوراً في سريانها/ وأدس في شنطتي شخوصاً أنتزعها من كتبها". (ص:91).

وأياً تكن طبيعة هذه الذات، فإن الشاعر يذهب بها إلى استراتيجيات غير التسجيل والوصف والتعليق عليهما، والتوليد من التداعي، والجناس القريب، أعني إلى استراتيجية تشكيل عالمه المستعاد – وهو الخبير الجمالي - بتلوين مشاهده المركبة تركيباً سريالياً أو تكعيبياً أو غيرهما.

وللشاعر شربل داغر أربع عشرة مجموعة شعرية إلى حينه، ومنها "فتات البياض، ورشم، وتخت شرقي، وحاطب ليل، وإعراباً لشكل، ولا تبحث عن معنى لعله يلقاك، وترانزيت، وعلى طرف لساني، ودمى فاجرة، وأنا هو آخر، وأثناء القصيدة، وعتمات متربصة..."، إضافة إلى دراسات في الشعر العربي الحديث والمعاصر، ودراسات في الجمالية، وثلاث روايات وسيرة ذاتية.

(جريدة "اندبندنت" العربية، 10 شباط 2021)