من الصعب أن تجد صفة جامعة لانشغالات الشاعر والباحث والروائي اللبناني شربل داغر. فالساحات التي يطولها قلمُه يقودُها شغفٌ لا ينقطع باكتشاف الذات، في نفسها، وفي الآخر، سواء بالمعنى الحقيقي أو الرمزي (...).
- بمناسبة فوزكم بجائزة ابن بطوطة في موضوع السيرة الذاتية عن كتاب "الخروج من العائلة"، يظهر العنوان نوعا من "العنف" الضروري كشرط لإدراك الذات... أذلك هو قدر الإدراك الذاتي في محيطنا العربي؟
= لا أجد، في الكلام عن "الخروج من العائلة"، تعبيرًا دالًا على عنف. بل يعني – في ما يعنيه – عدم الاكتفاء بالنطاق العائلي مجالًا محددًا للعلاقات الواجبة والمفروضة، طلبًا لعلاقات أخرى خارج هذا المجال. وهو ما عشتُه في طفولتي بتلقائية إذ لم أجد حرجًا – مثل غيري – في المدرسة، أو في الشارع، من اللهو مع أطفال مختلفين مع محددات الهوية العائلية. ولقد عنى الخروج من العائلة، في سيرتي، التعرف المزيد إلى مناخات خارجية، مثل السينما أو الكتاب... وفي هذا كله مفارقة لافتة، إذ إن إصرار والدي، مثل والدتي، على التحاقي بالمدرسة - وهو ما رفضتُه في أيامي الأولى فيها – جعلني مرتبطًا بالكتاب، بالدراسة، بالثقافة، وبالانفتاح على عالمٍ، بل على عوالم، ليست هي المعهودة في وسط العائلة الريفي.
هذا الانفتاح على الخارج زاد من إدراكي لذاتي بالتالي، كما تعزز، في سنوات الدراسة الثانوية، إذ اضطر والدي – بسبب وفاة زوج أختي الكبرى، المقيمة في شرق صيدا – إلى نقلي لمتابعة دراستي لثلاث سنوات في هذه المدينة الجنوبية المختلفة عن قريتي كما عن بيروت. فكان أن زاد فيها انفتاحي وتفاعلي مع أوساط لا عهد لي بها، عدا أنني "انغمست" فيها في السياسة، والتظاهر، ما لا يوافق اعتياداتي السابقة، أو الثقافة البيتية، أو خياراتها التلقائية في السياسة.
- تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بأشكال من الاعتراف ومن الحكي الشخصي وأشباه "السير"... إلى أي مدى يؤثر ذلك الإفراط في القيمة الاستثنائية للاعتراف؟ وكيف لا يهوي بنا إلى الاستعراض والنرجسية؟
= سؤال مناسب، في زمن الفيس ومتعلقاته. طبعًا في طبيعة وسائل التواصل هذه، ما يعزز أو يستدعي الظهور الشخصي. إلا أنه يتخذ، في الأحوال العربية، وجهًا تقليديًا للغاية : يكفي أن تتصفح صفحات "الفيس" لكي تتأكد من أنها صفحات في إعلان "المكانة" الشخصية، وما يتصل بها من "لياقات" اجتماعية الطابع، في الوفاة والمرض وغيرها.
لهذا لا أجد الكثير من البوح، أو الاعتراف، في هذه الصفحات إلا عند أعداد قليلة من مدونيها، ولا سيما عند الإناث، ممن ينصرفن، في جرأة بادية أحيانًا، إلى التعبير عن هواجس أو مُتع أو تعبيرات أنثوية النبرة والطابع.
ما يجده المتابع لأحوال الفيس هو ظهور، بل تأكد "نرجسيات" على مقادير كبيرة من "الفجاجة"، ذات الطابع "الزعامي" في منبتها وتطلعها، والتي تقوم على تأكيدات وإعلانات و"استعراضات" ذات طابع عنفي بالمعنى الرمزي.
لهذا تبقى هذه السير المتقطعة والموصولة في الفيس شديدة القرب من تقليدية متنامية حتى في أوساط تدَّعي الحداثة أو التقدمية وغيرها. فما لا يتحقق المتابع من وجوده هو توافر وتنمية "آداب الحوار"، إذا جاز القول. فلا تقرأ غير "شكاوى" أو عمليات "حظر" أو عمليات "سرقة" لتدوينة وقصيدة وغيرها. وهذا يعني، في حاصل الأمر، أن العنف الأهلي ممتدٌّ إلى صفحات الفيس، وأن الحديث عن سيرة الذات لا يزال بعيد المنال، بالمعنى الإنساني والأدبي.
- انتقل الشعر العربي الحديث أيضا - وأنت متابع لحركته وتياره النثري وممارس له - من أفق المجلات الثقافية إلى منصات التواصل متجردا من سلطة "النخب"ـ فهل ترحب بانطلاقته الجديدة؟ أليس من الوارد أن يخضع لسلطة أخرى شعبوية؟
= مشهد الشعر مؤسف في تلقيه الدراسي والثقافي، إذ يفتقر إلى العناية به بوصفه من التجليات العالية للجمالية في أي ثقافة، في أي مجتمع. وهو ما لا يوفره الدرس النقدي، إلا في قليله، حيث إن دور النشر العربية باتت تمتنع عن نشر دراسات الشعر. وهو ما لا يستقيم كذلك في الدرس الجامعي بدوره، إذ يتجنب، في كثيره، تنمية البحوث في هذا المجال الأكاديمي.
لهذا فإن منظر "الفيس" لجهة نشر الشعر والانتباه له، لا يصبان – في نهاية المطاف – ولا يؤديان إلى اقتناء أكيد للكتاب الشعري.
- الفن التشكيلي في عمومه ما زال ينحصر في اللوحة. كيف يمكن مقارنة الحيز المغلق للفنان التشكيلي العربي بحدود المشاركة في الفضاء العام المديني؟
= لا تزال اللوحة تحظى بالعناية من قبل العارضين والشراة والجامعين والمتاحف والمزادات الفنية العالمية. وهو ما يتأكد في مجتمعاتنا، وفي خيارات المعتنين بالثقافة البصرية. إلا أنه يتوجب التمييز بين إنتاجات الفنانين العرب وبين خيارات المتعاطين مع عالم الفن في هذه البلاد. فإنتاجات الفنانين باتت شديدة التنوع، ومتعددة في البحث عن أساليب حضور وتعالق وفعالية في المشهد الثقافي والاجتماعي، ما ينعكس في أنواع وأساليب تخطت أو تتعدى اللوحة نفسها. أما لجهة حضور العمل الفني في الفضاء العمومي، خارج البيت والمتحف وغيرها، فهذا يبقى في عهدة السلطات القائمة، ولا يتعداها إلى عمل البلديات مثلما يجري في كثير من المدن الغربية. لهذا، العناية بالفن في الخارج المديني والاجتماعي يبقى في عهدة الحكومة، وهي – إذا كان لها عناية بالفن – تبقى ملزمة أو مقيدة بعدم إثارة مشاكل الفن في المجتمعات المختلفة. لهذا لا ترى في الفضاءات المدينية سوى أعمال قليلة، وهي تقترب من "زينة" المدينة ليس إلا.
- ألا يدعو للتساؤل أن تكون جوائز الأدب الأكثر وعيا بالحداثة متوجهة للرواية، بينما جوائز الشعر القليلة أصلا تنحصر في اشتراطات كلاسيكية أو تقليدية كما هو حال "أمير الشعراء" أو "شاعر الرسول"؟
= المشهد مؤسف بطبيعة الحال، حيث إن جوائز السرد عمومًا تلقى تشجيعًا مزيدًا، سواء بدفعٍ وتشجيعٍ من دور غربية، ما يوسِّع من سوق انتشارها في البلدان العربية (عبر الترجمة، في الاتجاهين). هذا ما يرافقه النقد المحلي في السرد، من دون أن يجلب دومًا عنايات تحليلية مناسبة للسرد العربي. أما إحياء مسابقات وأنشطة حول أنماط تقليدية في الشعر العربي، سواء الفصيح أو العامي، فهو لا يعدو كونه معاكسةً للتيار الأدبي العام، من دون أي قدرة على العودة به إلى ماضٍ تقليدي.
- بعد مرور عشرة أعوام على الربيع العربي كيف يمكن رصد تجارب الاحتجاج ثقافيا؟ ما حققته وما أخفقت في تحقيقه؟
= هذه التجارب موجودة قبل الربيع العربي وبعده عند أدباء مختلفي التعبيرات والأساليب. وإذا كان بعض هذه التجارب سارع إلى إعلان "ثوريته" في رواية أو مجموعة شعر – وهو ما حصل في السنوات التالية مباشرة للربيع العربي- فإن هذا الميل أو الخيار التعبيري ما لبث أن تراجع وانقطع. غير أن ما يمكن ملاحظته، قبل الربيع العربي وبعده، هو انصراف السرد، في تجارب بارزة، إلى كشف المستور، إذا جاز القول. فما كان يقوم على كشف القمع أو السجن في سير السرد، بات يتعداها إلى الكشف عن أحوال "الأقليات" التي ما كان لها نصيب من الظهور الأدبي. وهو ما يصح في أحوال السرد النسوي، حيث جرى – في أكثر من رواية – الكشف عن عالم النساء المخبوء أو المقموع. وهو ما جعل الرواية تقترب كثيرًا من عوالم تاريخية، أو سيرية فردية، ما كانت مشمولة بالسرد.
- أن تكتب سيرة شاعر آخر (كما هو حال كتابك عن محمود درويش) كيف وجدت نفسك إزاء سيرته أو كيف تعرفت إلي ذاتك الأخرى فيه؟
= كتابة سيرة عن محمود درويش لم تكن بالعمل الهين أبدًا، إلا أنني توصلت إلى كتابتها في محاولتي الثانية... فقد تحققت من أن كتابة مثل هذه السير تكاد تكون عملًا غير ممكن من دون صاحب السيرة. وهو ما لا نجده في أحوال كثير من "النجوم" العرب، حيث لا نعرف سيرة لأم كلثوم أو عبد الحليم حافظ أو فيروز وغيرهم. فكيف إذا كان صاحب السيرة لا يوفر أبدًا من الأخبار والمكاشفات والوثائق ما يتيح لكاتب سيرته كتابتها! فكثير من الشائعات – التي يروجها "النجوم" أو العاملون معهم – تبدو مثل الأخبار الممكنة والوحيدة عنهم، فكيف يمكن الركون إليها!
هذا ما عرفته مع محمود درويش، حيث اكتشفت في أكثر من خبر يخصه، من كونه غير أكيد بالضرورة، عدا أن "روايات" هذا الخبر مختلفة بين هذا وذاك، ما يجعل كتابة السيرة صعبة.
أمر آخر، وهو أنني كتبت عن محمود درويش من دون... إذن درويش نفسه. فكتابي انتظم بعد وفاته، لهذا هو أقرب إلى "شهادتي" في سيرته، لا إلى سيرته نفسها. وهو ما يظهر في كوني أسرد عنه ما كان لا يعرفه هو بالضرورة، أو أتحدث في أمور ما كان له أن يسمح بها بالضرورة، لو تم الاتفاق على كتابة سيرته معه.
- في تجربتك الروائية "ابنة بونابرت المصرية" تعالقٌ للتاريخ المحلي والاستعماري الذي شكل بعدها أسئلة النهضة ـ أما زال هناك ما هو مثير للبحث في هذه اللحظة التاريخية برأيك؟ ما الإضاءة التي تمنحنا إياها تجاه الحاضر؟
= هذه الرواية قامت على أساسين : أساس الكشف التاريخي، من جهة، وأساس التخيل السردي المناسب لتلك الحقبة، من جهة ثانية. فقد عدتُ في كتابتها إلى آلاف الأوراق الفرنسية والعربية، في المكتبات القديمة، وفي "شهادات" و"يوميات" خاصة بتلك الحقبة، عدا انتقالي وإقامتي في مرسيليا لبعض الوقت لهذا الغرض... وهو ما قادني إلى الخافي من الوثائق، أو غير المعروف، عن تلك الحقبة الواقعة بين احتلال قوات بونابرت لمصر وبين سقوطه الثاني والأخير من الحكم، وما رافق هذه الحقبة من هجرة لأعداد كبيرة من المصريين والعرب إلى فرنسا، ووقوعهم بعد عقدين من الزمن في "مجزرة" أودت بالمئات منهم عند سقوط بونابرت.
هذا التاريخ غير معروف، لا في فرنسا، وخصوصًا في مصر والعالم العربي... ولقد بدا لي أن الحديث عن تلك الحقبة يفيد في رسم أول علاقة وجاهية بين الفرنسيين والعرب، بكل التباساتها وصداماتها ومأمولاتها ومآسيها. وهو ما يرسم مشهدًا متصلًا حتى أيامنا هذه، في العلاقة بين جارين يتنافران ويتجاذبان في العلاقات بينهما.
(الملحق الثقافي الشهري لجريدة "القبس"، شهر شباط-فبراير 2021، مدينة الكويت).