حسين بن حمزة: الفكرة الأساسية لهذه الزاوية هي ربط تجربة الكاتب، أو الشاعر، بمكانه الأول، أو أمكنته الأولى، والسؤال عن أثر المكان على تجربته.
في كل حلقة، نستضيف كاتبًا يستعيد مكانه الأول، في شهادة مسترسلة، أو على شكل إجابات عن الأسئلة والمفاتيح التالية، من دون التقيّد بها حرفيًا:
كيف تتذكر مكانك الأول؟
هل لعب المكان دورًا في كونك أصبحت كاتبًا؟
هل هناك أمكنة أخرى تركت أثرًا في تجربتك؟


شربل داغر: المكان يمشي معي
لا أجد صعوبة في تذكر هذه الأمكنة، إذ أقوى على العودة إليها، لا سيما في القرية.
أعود إليها صيفًا، وهي بمستطاعي، أمام ناظري: السنديانة قرب البيت العائلي لا تزال في مكانها، غير أن درجًا بات يحيط بها، بحيث فقدت الفسحةَ التي كانت تمتد تحتها. كانت أكثر من مكان، إذ ألعب فيه كيفما أشاء، او أبني بيتًا، او أُمدد أقدام رغبة لا أعلم خطواتها.
أما صخرة الكرم، فبات الوصول إليها أصعب، إذ إن قريتي هجرت بعض ماضيها القريب، وباتت ممراتها القديمة أقرب إلى دغل بري...
ما بقي وحسب، هو ذلك الصخر الذي يستقبلني في تلك الهضاب العالية مثل مرآة، ولكن من دون ظلي.

"طلبتُ عمدًا، قبل سنوات، العودة إلى الشارع الطويل، في بيروت؛ إلى بيت الأهل الأول، في حي "مار مخايل"، ثم الثاني، في شارع "خليل البدوي""

وذلك النهر، المتابع جريانه، ما عدتُ أنزل إليه، للسباحة، أو التمدد فوق جنباته، مكتفيًا بصورة كتبتُها في قصيدة، وهي أنني فيه "ورقة طافية" وحسب.
هذا كله، وغيره، كتبتُ عنه في سيرتي "الخروج من العائلة"، كما في غير قصيدة، مثل: "حصى لصبرها الصاحي"، و"حاطب ليل"، و"وليمة قمر"، و"تربية الهواء"، وغيرها. غير أنني كتبتُ عنها من دون حنين، أو شفقة، بقسوة العائد الذي يمتحن في دروبه ثقلَ خطواته.
أعود إلى هذه الأمكنة حكمًا، في كل عطلة، فيما طلبتُ عمدًا، قبل سنوات، العودة إلى الشارع الطويل، في بيروت؛ إلى بيت الأهل الأول، في حي "مار مخايل"، ثم الثاني، في شارع "خليل البدوي". عدتُ، وكتبتُ أطول قصيدة في شعري: "الشارع". واستعدتُ فيها خطى الفتى وهو يذهب إلى بعيد الشارع، مثل من يجتاز حدودًا بشكل سرّي بين بلدَين. وهو اجتيازُ أكثر من حدود داخلية، في ذلك الشارع الذي بدأ للعائد أقل طولًا وأكثر ضيقًا مما كان في عينَيه، إذ كان يشتاق الى الإمساك بأوسع دائرة ممكنة في خروجه.
ما يبقى مشاهد، صور ممتدة، يتراقص فوقها لمعانُ سنواتٍ هنيّة ومريحة، واعدة بأفق منير.
عدتُ إلى الحي والشارع من جديد، إثر انفجار المرفأ في بيروت، في الصيف المنصرم، مثل من يتفقد ما بقي ممّا كان قد بقي فيه. وهو ما كتبتُه في قصيدة طويلة: "أيها الموت، يا جاري الأليف"، وهي ما سيصدر في مجموعة شعرية قيد الطبع.
لي مكان آخر، لاحق، هو المقهى في كليتي الجامعية الأولى في بيروت، وآخر، مقهى "كلوني"، في حياتي الباريسية (1976 ـ 1994).
مكان أشبه ببيت اجتماعي خصوصي، لا سيما في باريس، أجرب فيه أن أكون قريبًا وأنا بعيد، وأن أكون بعيدًا وأنا قريب.
كان هذا المقهى مكتبي الوظيفي، حتى إن عاملة الهاتف فيه ما كانت تتوانى عن مناداتي عند أي انفجار في بيروت الثمانينيات...
كما كان بيتي الآخر، ولكن من دون واجبات، أو ضوابط، مع كثير من المواعيد المرتجلة، كما لو أنني كنت أمشي فيما أبصبص.

"عدتُ إلى الحي والشارع من جديد، إثر انفجار المرفأ في بيروت، في الصيف المنصرم، مثل من يتفقد ما بقي ممّا كان قد بقي فيه"

لا يصنعني هذا المكان، أو ذاك. أختاره، وأتكيّف معه. مسرحٌ معروض لي ولغيري. لكنني أظهر فيه لكي أختفي، لكي ألتقي بكائن كنت أبحث عنه، ويشغلني، من دون أن أعرفه: أنا.
لطالما كنت أتحقق ممّا يصدر عني، كما لو أنه لشخص آخر ما سبق أن التقيتُ به في ذلك الاستغراق الممتزج بالشرود، وبلمعان الفراشات الطائرة في هواء الأيام.
كنت أبحثُني من دون أن أجدَني في المقهى. أتوه، أتفقد، أدور، وأسوح من دون أن أحطَّ في مكان آخر، غير طاولتي.
كما لو أن المقهى هو تجريب من دون تجربة؛ عيشٌ مقتطع من الحياة نفسها، من دون دروس أو عِبَر.
فقط ذلك التيه القاعد في احتمالات معتكرة في فنجان إكسبرسو... أو ذلك الشغف الذي لا يبرح مكانه، ولو أنه سرى في أزقة خلفية، أو في طيش فجائي...
كان المقهى، لضياعي، غيومًا لا تفارق السماء المترائية في نوافذه العريضة.
كان ما أضيع فيه، كل يوم، وما أتشرد فيه من دون أن أغادر كرسيّ...
هو فضائي الذي يبيح التردد والشك، مثل الإقدام والمغامرة، في ما قد يكون الحياة من دون أن يكون غير تشبيه الحياة.
هكذا كان المقهى "بروفة"، أو غرفة خلفية، أو شقة سرية لكائن يأتي إليه بشنطته ودفتره وأقلامه، ولكن بأسنان أخرى غير أسنانه، وبعينين ترودان في أنفاقِ ما لا ينكشف عمقُ عتمته.
المقهى نثر متفرق، بل مبعثر، لكنه يجتمع في جملتي.
هواء خفيف تسللَ بين أوراقي، وجعلني على مقربة من الطيران. أي مستقبلي، وما يبيحه التردد بين الاحتمالات.
المقهى، أو تلك الخطوات المكتومة في دروب الحياة...
كنت أحمل دومًا معي دفترًا، من دون أن أكتب فيه الكثير. كنت أحلم بأن أصير كاتبًا، وتلك الطاولة كانت صفحتي الأولى، من دون أن أكتب فيها سوى جمل مبتورة. ذلك أن أقصى ما كنت أفعله كان التنقل الخفيف بين أوراق الكتابة من دون وجهة.
ألتقي بنفسي، أو أطلب اللقاء بها، من دون أن نجتمع في واقع الأمر: واحدٌ يبحث عن الآخر فيما يَطرق فوق بوابات عديدة، ويسلك شوارع متشعبة، من دون أن يعود إلى حيث هو إلا متعبًا ومنهكًا من المشي الافتراضي والمضني.
ساعات وشهور وسنوات، فيما تتبدل الدفاتر وحدها، وتبقى الغيوم عابرة بحمولاتها الخفيفة وراء النوافذ الكبيرة.
تلك الغيمة كانتْني، من دون أن أعرفني، فيما كنت قاعدًا في مقهى، كما لو أنني فوق رصيف محطة قطار لا يصل.

هذا ما عبَرَ كتابتي بين قصيدة وسيرة. وكان لي أن أعبر فيها النهر والشارع والمقهى والغيمة...
فالأحلام، والتيه فيها، مكاني الأثير، لكنها تسكنني فيما أظن أنني أتوجّه إليها.
كتبتُ ابتداء من هذا المقهى قصيدة واحدة: "المقهى جريدة"، فيما لم أكتب بعدُ عما جرى لي في حياة باريس الممتدة، طوال سنوات وسنوات. إذ كان ما حصل لي معها وفيها أقرب إلى "ولادة ثانية"، مثلما كتبتُ في شهادة. في هذا المكان وغيره. كما لو أنني بدأت من هنا من جديد، في عيشٍ مختلفٍ للحياة، للكتابة، أشبه بـ"إعادة تأهيل" إثر خروجي من لهيب الحرب الأول.

"كان المقهى "بروفة"، أو غرفة خلفية، أو شقة سرية لكائن يأتي إليه بشنطته ودفتره وأقلامه، ولكن بأسنان أخرى غير أسنانه، وبعينين ترودان في أنفاقِ ما لا ينكشف عمقُ عتمته"

لا يسع لفظ "المكان"، في العربية، ما يكونه المكان في العيش، في التربية، في التمثل، إذ يشتق من الماضي، أي: "ما كان". لعل فيه أثرًا، وعلامة، وتأكيدًا لما كانته: "قيافة الأثر". بينما وجدتُ ـ كما كتبتُ في كتابي "ترانزيت" ـ لفظًا مشتقًا منه، لا يستعمله أحد: "كِينَة"، إذ يشير إلى شرط الإنسان في وجوده. أكتب، في هذا الكتاب، أن هذا اللفظ موجود، من دون نفع، على الرغم من كونه يشير إلى ما هو كينونة في وجود: "إنه موجود، وله قوة كامنة".
هذا التعيّن في الموقع أساس في التفلسف، عند هايدغر وقبله. وهو ما جعلني، في شعري، أجعل من "اللحظة" انوجادًا في مكان. وهو ما ألقاه، في أكثر من قصيدة، يسري في المشي، والتمشّي، حيث هو تفقدٌ للخطوة في الهواء، ما يشير إلى هذه "الكِينة".
هذا يعني أن المكان يمشي معي، فيما أكون احتمالًا متصاعدًا من ترابه، أو مائه، بما يتيح المشي في غيره، مما أتوق إليه، وأكتب عنه، فيما لا أبلغه.

(ضفة ثالثة، لندن، 31 آذار- مارس 2021)