الشاعر والجامعي المغربي، عبداللطيف الوراري
يُعد، منذ عدة أسابيع، في جريدة "القدس العربي"، ملفا عن : "شعرنا المعاصر إلى أين؟"، ويتوقف، في هذه الحلقة، في لبنان.
في ما يلي، مساهمتي :
"مثل هذه الوقفة صعبة، خصوصًا في لبنان، ولأكثر من سبب. إذ إن الشعر كما الشعراء لا "يَظهرون" في المشهد بما يكفي، بما يتيح للمتابع التفقدَ والفحص. كما يفتقر المتابع كذلك إلى معطيات موثقة، وإلى "معرض كتاب" (متوقف منذ دورتين) وغيرها كذلك. كما لا يقوى على تفقد حال الشعر في دور النشر، إذ إنها ما عادت تُقدم على نشره إلا في القليل النادر، ما جعل الكتب الشعرية اللبنانية ترتحل إلى بلدان أخرى (الأردن، مصر، العراق وغيرها)، بعد أن كانت بيروت – لسنوات بل لعقود - عاصمة النشر الشعري الأولى في العالم العربي. كما يفتقر لبنان إلى أي مجلة تُعنى بالشعر، بعد احتجاب الكثير من المجلات التي رعت نمو القصيدة الحديثة ("الأديب"، "الآداب"، "شعر"، "مواقف" وغيرها)، ولا يمكن كذلك حسبان ما يُقدم عليه الشاعر اللبناني قيصر عفيف، في المكسيك، بإصدار مجلته الدورية : "الحركة الشعرية"، بالمجلة اللبنانية الصرفة (تُصدر عددَين في السنة الواحدة، وبدأت بالظهور في خريف سنة 1992، وأصدرتْ حتى تاريخه أزيد من خمسين عددًا). بل يمكن الحديث عن "ترحل" آخر صوب الرواية، إذ إن شعراء لبنانيين عديدين ينصرفون إلى كتابة الروايات، من دون أن ينقطعوا عن الشعر، مثل أنطوان أبو زيد وعباس بيضون وأنطوان الدويهي وعبده وزان وجمانة حداد، وكاتب هذه السطور وغيرهم.
مع ذلك يعيش الشعر اللبناني بين شعرائه، وفي مباني القصيدة نغسها، ما لا يشبه أو يوازي فقرَ البنية المادية والتحتية للشعر. فأعداد الشعراء يتزايدون، بل توقف عدُّ "أجيال" الشعراء – لكثرتهم وتدافعهم - بعد "جيل السبعينات"؛ ولا يتورع أكثر من ثلاثين شاعرًا شابًا عن نشر مجموعته الأولى، متوكلًا بكلفتها المادية (مثلما تحققتُ من ذلك في إصدارات العام 2018)
بات المشهد متفرقًا، فيما يتابع شعراء عديدون، بالتفعيلة أو بالنثر، تجاربهم الخاصة، التي تستند إلى حاصل خياراتهم وتوجهاتهم، ما يعود إلى تموقعهم الخصوصي في خريطة الشعر اللبناني والعربي منذ السبعينيات. وهو ما يصحُّ كذلك – ولو بنسبة أقل – في الجيل الذي تلاهم... هذا ما يتجلى في تأكد تجارب بعض هؤلاء الشعراء وتمايزهم عن غيرهم، من جهة، بل في "تأثيرات" بعض هذه التجارب (التي باتت أقرب إلى "نماذج") خارج لبنان نفسه. بل يمكن التأكيد على أن تجارب خليل حاوي أو أنسي الحاج أو شوقي أبي شقرا وغيرهم اتسعت قاعدتها، وأوجدت منابت متجددة لها. ولا يبالغ المتابع في القول إذ يَظهر له أن الشعر اللبناني لم يشهد مثل هذه الظاهرة في السابق، التي انبنت خصوصًا على إبراز "الذاتية الأدبية"، التي وجدتْ في جبران خليل جبران علامةَ لمعانها، ونبرتَها الخصوصية، في الأدب العربي الحديث. لهذا يمكن الحديث، حاليًا، بل منذ سنوات، عن "فردانيات" في التعبير الشعري، وعن مساع اجتهادية في البناء، ما يُبعدها عن الاجترار والتقليد، وعن النمط والنموذج، لصالح اجتراح "زوايا" و"نظرات" و"وُجهات" في القول الشعري. وقد يكون من العلامات الأخيرة والمنسجمة مع هذا السياق المتنامي ظهور، بل تأكد، شاعرات كثيرات، ما لم يعرفه الشعر اللبناني في تاريخه. وهن شاعرات أسهمن بدورهن في إعلاء هذه العلامة "الذاتية"، وتأكيدها وتنويعها، وجعلها أقرب إلى البدن واللسان والسيرة.
هذا ما جعل الكثير من الشعر يبحث عن لحظة، عن نافر، عن مختلف، عن "وجيز"، عن السردي، عن الحميمي، عن التعريض الساخر بكثير من اليقينيات والاعتقادات...
لهذا هو مشهد شديد الاختلاف والتمايز، يناسب بقدر ما يصنع أوجهًا وألسنة متعددة للشعر بوصفه تجربة فردية. وهو مشهد متماوج، حتى إن شعراء التفعيلة فيه لا يتورعون عن "قبول" القصيدة بالنثر، ويكتبون عنها من دون حرج أو تحريم. وهو ما يحدث للشعراء بالنثر معهم أيضًا...
لعل بعضًا من "وحشة" اللبناني في زمنه، ومن افتراقه عن تاريخه المتأخر، نجده في هذا الشعر".

(جريدة "القدس العربي"، لندن، 1 أيار 2021)