من يدرس نص شربل داغر لا يمكنه إلا وأن يتوقّف عند كيفية استثماره للفكر الفلسفي في أبحاثه، وكيفية تعاطيه مع أبرز أعلام الفكر الفلسفي، إن من ناحية النظرية، أو من ناحية المنهج. كما أن ثقافته الواسعة واطّلاعه على أمّهات الكتب الفلسفية، يمكن أن يلحظهما الدارس بوضوح.
صحيحٌ أنه برع وحلّق في الأدب والشعر، ونال منذ حوالي سنتين جائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابه "الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر"، لكنّه غاصَ عميقاً وأنتج الكثير أيضاً في مجال فلسفة الفن، بخاصة في درسه للفن الإسلامي. هذا ما يشير الى انهمامٍ واضح المعالم بالفلسفة، وتحليلٍ دقيقٍ للكثير من النظريات الجمالية. من هنا أردنا في هذا الحوار أن نبحث معه عن أثر الفلسفة في تكوينه المعرفي، من جهة، وفي ما أنتجه من دراسات، من جهة أخرى. إنه حوارٌ يسعى الى تبيان العمق الفلسفي الكامن وراء ما أصدره، ليس فقط في مجال فلسفة الفن، إنما أيضاً في الشعر وفي المقاربة النقدية للنصوص الأدبية.
أكثر من ماركس...
- متى كان أول لقاء لك بالفلسفة وكيف تعرّفت الى الفلاسفة؟ ولماذا اخترت الأدب كاختصاصٍ أول؟
= لم يكن في مقدوري، في امتحانات الدخول إلى "كلية التربية" في صيف العام 1970، غير الترشح إلى واحدٍ من اختصاصين: إما دراسة الأدب العربي، أو دراسة الأدب الفرنسي، بالنسبة إلي، الناجح في شهادة البكالوريا – القسم الأدبي.
علاقتي الوثيقة والمباشرة بالفلسفة ظهرت في فرنسا منذ أطروحتي الجامعية الأولى، وهو ما تمثّل في انفكاكي عن الماركسية، من جهة، وفي انصرافي إلى مناهج مستجدّة. بهذا المعنى بدأَت علاقتي بالفلسفة مختلفة عمّا يمكن أن يكون عليه الانشغال الدراسي أو البحثي الصرف بالفلسفة. فقد بانت لي، بعد رسالتي الجامعية الأولى في بيروت، الحاجة الى بلورة خطابٍ نقديٍّ مختلف، وهو ما تمثّل في تعويلي على البنيوية، من جهة، وعلى انفتاحها، من جهة ثانية، على مناهج ومقاربات أخرى. وهو ما سيرسم في سنوات تالية منظوري الى الخطاب الدارس، سواء للأدب أو للفن، إذ تلتقي فيه الفلسفة بالتاريخ في السياق الاجتماعي.
- كيف قرأت ماركس؟ وما الأثر الذي تركه في مقارباتك الفكرية ودراساتك اللاحقة؟
= هناك أكثر من ماركس واحد في تكويني المعرفي. منه ما عدتُ إليه في انشغالاتي الأولى، ومنه ما عدتُ إليه في عهد لاحق عند درسي الفن تحديدًا. طبعًا كان لألتوسير أثرٌ كبير على استقبالي لماركس، ولا سيما للعلاقات بين البنية التحتية والبنية الفوقية في المجتمع، أو في إظهار الاستقلالية النسبية للحقل الأدبي عن غيره. ولقد كان مفاجئًا وممتعًا في الوقت عينه اكتشافي لتأثيرات ماركس على عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في عهد لاحق، إذ وجدتُ أنه يعود إليه ويبني انطلاقًا من عددٍ من مفاهيمه من دون أن يذكره بالضرورة. وقد يعود هذا، لا إلى تأكيد سلطة بورديو المعرفية في مجاله وحسب، وإنما أيضاً لأن ماركس قد تراجع في القبول الفلسفي والثقافي له في الخطاب الفلسفي الفرنسي وغيره.
في ما يخصّني، لم أجد أي غضاضة في العودة إلى ماركس، لا سيما في اشتغاله في مجال الاقتصاد السياسي، إذ بنيتُ مفهوم "التداول" عندي على بعض ما اقترحَه ماركس في هذا المجال، في حديثه عن السلعة أو البضاعة، وعن القيمة المضافة وغيرها من الاصطلاحات. فقد استوقفني، وأنا في فرنسا، اجتماع موقفَين فلسفيَّين متعارضَين أدّيا إلى إسقاط ماركس من الخطاب الدارس: موقفٌ بنيوي بمدارسه المختلفة، اكتفى بالنص من دون خارجه، وموقفٌ ليبرالي(أو غيره)، مثالي فلسفيًّا، يريد إسقاط، أو لا ينتبه على الأقل، إلى وجوب التعويل على المحدّدات التاريخية والاجتماعية في أي ظهور نصّي. وإذا كان الموقف الأول، أي البنيوي، يريد التخلّص من إرث البلاغة الثقيل، ومن سبل التذوّق الأدبي الاستنسابية والانطباعية، فإن الموقف الفلسفي الآخر كان يعيدُ النص الى ظاهرة "عجائبية"، وإلى كاتب "مبدع" تنطلق الإبداعات وتنبثق منه انبثاقَ المخلوقات عن خالقها. وقد يكون موقفي هذا غير منسجمٍ بطبيعة الحال مع شواغل فلسفية صرفة، إلا أنه أراد التكفّل والإسهام في بناء خطاب يستوفي، أو يسعى الى إيفاء النص إمكاناته التحليلية المناسبة له. فما عناني، لم يكن المدرسة ولا العقيدة ولا المقاربة بقدر ما عناني الوقوف عند النص، عند الأثر الفني، أي عند الحاصل التاريخي والكتابي في ثقافتنا المتأخرة، جاعلاً منه موضوع نظر. وهذا النظر يستند الى مجموعة مناهج ومقاربات، لها أن تبرهن جدواها والحاجة إليها في البحث نفسه. وما اكتفيتُ بدرس الناتج وحده وإنما معاني وتجلّيات هذا الوجود النصي في السياقات المحيطة به والموازية له.
ولادتي الثانية
- بين ما اختبرتَه من ألمٍ ومعاناة أثناء الحرب، وما عاشَه جيلك من خيبات، كيف قمتَ بتوظيف كل ذلك فكرياً؟ أو كيف كان لهذا الواقع السياسي المتفجّر أن يؤثّر في بنائك الفكري، وفي تكوين منهجك البحثي؟
= يتوجّب عليّ الحديث عن مسارَين منفصلَين ومتلاقيَين في بناء ثقافتي المنهجية:
الأول هو علاقتي بأستاذي محمد أركون، والمشرف على أطروحتي الأولى، والثاني: علاقتي بحركة "الفلاسفة الجدد" في باريس (Les nouveaux philosophes).
-لنبدأ بعلاقتك بالبروفسور أركون...
=كانت علاقة مدهشة وثرية. لم أكن أعرفه قبل وصولي إلى باريس، لا شهرة ولا إنتاجًا. بلغني من بعض الطلاب أنه أستاذ جيّد، بعد أن انتبهتُ، في قائمة الأساتذة وفي موضوع محاضراتهم لسنة 1976-1977 الأكاديمية، في جامعة باريس الثالثة من السوربون الجديدة، إلى كونهم ينتسبون إلى مدرسة نقدية ومنهجية كنتُ أتبرّم منها في بيروت، وأتملّص من سماع محاضرات أساتذتها، فكيف لي أن أستمع إلى نفس المدرسة في باريس!
كانت دهشة أركون كبيرة لما التقيتُ به لأول مرة، إذ أبدى استغراباً من أن يتوجّه طالبٌ يريد أن يدرس القصيدة العربية الحديثة، فيطلب من أستاذٍ متخصّصٍ في الفكر الإسلامي، أن يكون مشرفاً عليها. فأجبتُه بأنني اخترته بسبب اقتناعي بالمناهج الحديثة في درس الآداب والعلوم الاجتماعية. وهكذا كان...
ما علّمني إياه أركون هو غير ذلك وأكبر من ذلك. تعلّمتُ أيضًا من البروفسور جمال الدين بن شيخ في درس الشعرية العربية القديمة، وفي درس السيميائية الشعرية، حسب أ. ج. غريماس، حيث أمضينا الفصل الجامعي في قراءة ومناقشة "المقدّمة" التي وضعها غريماس لبحوث لافتة في السيميائية الشعرية.
كما تعلّمتُ خصوصًا من كتب ودراسات كثيرة أقبلتُ عليها بنَهمٍ شديد، ورغبةٍ في معرفة مدى تناسبها مع قراءة القصيدة العربية الحديثة. في باريس شعَرتُ بهوّة فظيعة بين ما درسته في بيروت وما بات متاحاً لي في كتبٍ بحثية في فرنسا...
أما ما أفادني به أركون فهو أنه أدخلني إلى الثقافة الإسلامية القديمة والمعاصرة وفق قراءةٍ نقدية وتاريخية في الوقت عينه. هذا ما يفسّر جانباً كبيراً من اهتماماتي البحثية وكتاباتي اللاحقة التي انصرفتُ فيها الى الماضي الديني والأدبي والفلسفي والتي تجلّت أكثر ما تجلّت في شغلي على الفن الاسلامي.
-وماذا عن "الفلاسفة الجدد"؟
= بالتوازي مع ذلك وقعتُ، بعد وصولي إلى باريس، على مجموعة أطلق عليها اسم "الفلاسفة الجدد"، وكانت تتشكّل من: برنار-هنري ليفي (Bernard-Henry Levy)، وأندريه غلوكمسان (Andre Glucksman)، وجان-ماري بينوا (Jean-Marie Benoit) وغيرهم. كما قمتُ بإجراء عدة حوارات متوسّعة مع عددٍ منهم، مثل: فرانسوا شاتليه (Francois Chatelet)، وجان-بيار فاي (Jean-pierre Faye) وروجيه غارودي (Roger Garaudy) وغيرهم. قدّمت لي باريس مشهداً ما كنت أعرف حتى بوجوده؛ وهو مشهد القمع ومعسكرات "الغولاغ" (حسبما وصفها سولجنتسين) في التجارب الاشتراكية في العالم، فضلاً عن نقد هؤلاء الباحثين للماركسية كعقيدةٍ ونظامٍ فلسفي... هؤلاء وغيرهم ساعدوني على التأكّد من ضرورة خروجي من تلك العقيدة.
- وماذا عن علاقتك التي قويت بالصحافة العربية المهاجرة في تلك السنوات التكوينية لفكرك في باريس؟
= انعقدَ، عبر الصحافة، سياقٌ من العلاقات التي انتظمت مع كتّاب عددٍ واسع من البلدان العربية، بشعرائها وروائييها وفنانيها وباحثيها، ومع مؤتمراتها وندواتها وكتبها، في غير أمر وأمر في الثقافة العربية المعاصرة كما القديمة. وهذا السياق نسج الشاغل العربي الذي لم ينقطع عندي، بل نما وتعزّز. فلا يصدر كتاب لي في الشعر الحديث أو الفن الحديث من دون أن أسعى إلى الإحاطة والتعرّف والدرس في هذه الثقافات العربية المختلفة والمتفاعلة.
لهذا أقول عن وجودي في باريس إنه يعيّن ولادتي الثانية، وهي واقعاً ولادتي الأولى بالمعنى الكتابي والتأليفي. إذ إني كتبتُ بضعة قصائد قبل ذلك، فيما يتعيّن كل إنتاجي ابتداءً من لحظة باريس. فلو استعرضتُ بعض السمات من هذه السيرة المقتضبة سأجد الخطوط الأولى والعريضة لجميع مؤلّفاتي، في ما خلا أمرٌ وحيدٌ هو كتابتي عن بلدتي تنورين. إن الميادين الكتابية المتعدّدة والمختلفة، التي أُعنى بها، ظهرت منذ ذلك التاريخ، كما ظهرت عنايتي بتجديد المنهج، وبإدخالَ الثقافة الاسلامية في معرفتي ودرسي...
لم ينقطع في هذا المسار انهمامي بالسياسة... انقطعتُ عنها، في أيام باريس وبعدها، انشغالي الحزبي بها، من دون أن أن أنقطع عن استبيان معوّقات السياسة، وعدم القدرة على تشكّلها.
بين التفلسف والترجمة
- عرفت موسى وهبة في الجامعة ببيروت، بعد عودته إلى لبنان للتدريس في الجامعة اللبنانية... كيف كانت علاقتك به، قبل أن يلمع اسمه في مجال القول الفلسفي بالعربية؟
= معرفتي بموسى - "الكليم"، كما كنتُ أحب أن أسميه – تعود إلى سنوات الجامعة اللبنانية، لمّا وصل اسمه إلى أوساطنا قبل وصوله بوصفه الفيلسوف الآتي بقوة فلسفية مجدّدة؛ هي وحدها القادرة على تخطّي قوة حسن حمدان: هذا ما تجلّى في ندوة انتظرَها كثيرون مثلي، بينهما، في جمعية ثقافية ببيروت... لكن المناظرة – التي تابعتها الصحافة اللبنانية - لم تكن ميدان ملاكمة، كما كان يتوقّع البعض، بل أظهرت بأن الشاغل الفلسفي صعبٌ إذ يتحوّل إلى جدل المقاهي والحماسات الحزبية...
انقطعَت علاقتي بوهبه، ثم استعدتُها بمجرّد عودتي إلى لبنان. وكان اشتغاله الفلسفي استوقفني وأنا في باريس، بينما كنت أتحقّق من تراجع الشاغل الفلسفي في بيروت، وتنامي الخطاب الفقهي-الفكري في تجلّيات مختلفة حادثة إثر "أسلمة" متنامية للمشهد الثقافي، في موضوعاته وسبل درسه وقيمه وغيرها. تخفّف وهبه من الماركسية، وعاد إلى مصادر فلسفية أشدّ وثوقًا ورحابة، منصرفًا في صورة مزيدة إلى التفكير في الخطاب العربي منذ "النهضة"، عاملًا خصوصًا على توليد وترجمة الاصطلاحات الفلسفية بالعربية. هذا فيما كان يبدو عليه نوع صريح من اليأس، من تراجع الأمل في الشاغل الفلسفي في السياق الثقافي المحلّي أو العربي.
وعلاقتي بوهبه تختصر موقفي من الفلسفة والفلاسفة بالعربية. فقد كنتُ محظوظًا إذ دعوتُه إلى مؤتمر ("العربية في لبنان"، 1998)، ونشرتُ في كتابٍ أشرفتُ عليه، دراسته الرائعة: "إمكان القول الفلسفي بالعربية، اليوم". في هذه الدراسة كلامٌ دقيقٌ وعميق، ينطلق من معاينة سليمة لواقع الحال، ويتبيّن "استعصاء" القول الفلسفي بالعربية، وعند ممن يزعمون التفلسف باسمها. وهو ما انعقد بيني وبينه في مؤتمرين لاحقَين أشرفتُ عليهما، ونشرتُ أعمالهما في كتابين: واحد في الجامعة الأميركية تحت عنوان: "عصر النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة" (المركز الثقافي العربي، 2000)، وآخر في جامعة البلمند، تحت عنوان: "جرجي زيدان: النهضة في عهدة الحاضر" (منشورات الجامعة، 2015),
هذا ما أنطلِقُ منه للتمييز بين صنفَين ممن يشتغلون في الفلسفة بالعربية: صنفٌ يُقال عنهم إنهم فلاسفة بحكم تحصيلهم شهادة الفلسفة، بينما يتوزّع نتاجهم، بل ينظّمه موقفٌ إيديولوجي لا يتبيّن دومًا التفريق بين "التبشير" أو "الدعوة" لموقف أو لعقيدة، وبين إعمال الفكر في مسائله. هذه النزعة لم تنقطع منذ "تنويريي" و"تقليديي" القرن التاسع عشر، الذين لم يمكّنوننا – في الموقفَين – من معرفة حقيقة تخلّفنا، ولا من حقيقة تقدّمنا... أما الصنف الثاني فهو من تخلّى عن جلسة الفيلسوف لصالح منبر الفقيه، القديم أو المتجدّد، فيفسرون وينهون ويأمرون من دون تبصّر.
ما استوقفَ درسي، في القرن التاسع عشر وقبله وبعده، هو هذا السؤال بأبسط عبارة: كيف تجري الأمور، لا كيف لها أن تجري. كتب ابن خلدون بما يشير إلى أن السياسة لا تتحصّل عند العرب إلا "بالنبوة". وهو ما يلقاه الدارس في كثير من مُعلنات ومُضمرات خطاب التفلسف بالعربية: فيه مقادير عالية من السياسة، ونَفَس نبوي يسري بين الكلمات. بل فيه ما هو أدهى: التلفيق. إن مطالعة ما يجري في الفكر في الجارة الأوروبية، وتلخيصه أو التعويل عليه، يُضحي فعلَ الحضور التفلسفي، على أن ما يحرّكه هو الانتقائية والاستهلاكية، فلا يرسي ولا يبني شروط تفكّر وتفلسف.
اشتغل وهبة كثيرًا في نحت اصطلاحات فلسفية في العربية، واشتغل على صقل عبارته بحيث تقوى على أن تكون فلسفية المبنى أيضًا. وهو ما لم أجده عند غيره.
لهذا أرى إلى غيابه بوصفه حضورًا، ومستقبلًا أكيدًا لأي وجهة عربية جادة في التفلسف.
عن كانط والفن
- من يقرأ كتبك في فلسفة الفن يلحظ حضوراً لكانط. كيف كان تلقّيك له، وتفاعلك مع نظرياته؟
= قراءة كانط، قبل أن تكون مفيدة، أتت ممتعة للغاية، إذ إنني لم أتمتّع بقراءة فيلسوف مثلما تمتعّتُ بقراءة كانط. هذا يصحّ في اشتغاله على الذوق، على "الكوسمبوليتية"، على "الأنوار" (وفق مفهومه الواسع والدقيق للكلمة)، إذ يحضر، في كتبه، المحادثة، أو ثمار البحر، أو البَلْورة الصافية لمآل الإنسان. ما استوقفني عنده هو تعيين اللحظة التاريخية والمعرفية في تاريخ الفنون، إذ لحظ "الفنون الجميلة" (التي ستتأكّد بعده في الخطاب الأوروبي عن الفن)، كما ظهر في كلامه ما يدلّ على ما قبل هذا المفهوم، وما بعده. فهو يجعل تصميم الحديقة مرتبطاً باللوحة الفنية، وهو ما كان ممكناً في زمنه، إذ إن الخطاب الدارس سيفصل بينهما ابتداءً من القرن التاسع عشر. أما الجديد الحاسم في كلامه فتأتّى من حديثه عن أن للعمل الفني غائية من دون غاية. وهو أوسع وأبلغ نقد للمفهوم السابق للجمالية في الخطاب الأوروبي. فقد كان العمل الفني أو قيمته مقرونًا برضى المسؤول الكنسي، أو ثقافة البلاط، وفق قواعد الذوق والبروز والمكانة. أما مع كانط، فقد بات العمل الفني وليد بنائه، من جهة، وقيمته تتولّد منه وليس من خارجه، من جهة ثانية.
أما الأمر الآخر الذي استثارني عنده فهو بلورته المزيدة لإنسانوية عصر الأنوار. فهو وإن يتحدّث عن إنسان أوروبي يعرفه، ويتابعه، ويعاينه، الا أنه يستخلص منه، ويقترح عليه شمائل وصفات وخصائص تتولّد من رؤية فلسفية، قيميّة، مما يمكن أن يكون عليه إنسان الأزمنة الحديثة. وهو طموحٌ إنسانوي، أوروبي بطبيعة الحال، الا أنه لا يتقيّد بالضرورة به حصراً، وإنما يستشرف من خلاله ما يمكن أن يؤول اليه مآل الانسان في التاريخ الحديث.
ما أعجبني في كانط هو أنني وجدتُ في فكره الفلسفي ما ساعدني في اشتغالي على مفهوم "التداول". فالخطاب الفلسفي، ولا سيما الجمالي بعده، سيقطع مع كانط مكتفيًا بجوانب منه، فيقصر الفن على الإنتاج التشكيلي وحده من دون غيره، كما يَظهر ذلك ابتداءً من هيغل تحديدًا. فقد كان كانط ينطلق من المعاينة، من الظاهرة، بينما بات الفن بعده يتنزّل من علياء الماورائيات. هذا ما أدخل الخطاب الجمالي في نظام المذاهب والعقائد، وما حدّ بالتالي من جدوى الخطاب الجمالي.
لهذا أعانتني قراءة كانط على استبيان لحظة سابقة على انتظام نسقٍ تفكّري مجرّد في التفلسف الجمالي الأوروبي، حسب جان-ماري شافر. ففي اشتغاله على الذائقة، على ملكة الحكم، يبقى الفن متعيّنًا في موجودات كما في مصنوعات (بينما تقتصر بعده على المصنوعات من دون غيرها)، ومتعيّنًا في عمل صنّاع ومنتجين (بينما يقتصر بعده على الفنانين التشكيليين من دون غيرهم).
هذا ما عناني في درس الفن الإسلامي، بدل أن أُسقط عليه "مَلَكة" الحكم الاستشراقي التي كانت "تُعلي" من شأن ما وصلت إليه فنونها، و"تُبخّس" ما كانت عليه فنون غيرها، السابقة على لحظتها التاريخية هذه.
- بين كانط وهيغل، أيهما الأقرب اليك في درسك للفن الإسلامي؟
= عدتُ طبعاً الى هيغل، بل قمتُ بترجمة القسم المتعلّق بـ"القصيدة المسلمة" أو "القصيدة المحمدية"، وذلك في نهاية السبعينيات. وبان لي مشهدٌ ظريف، عندما قرأتُ هيغل، إذ بدا لي أشبه بنابوليون في ساحة المعركة، ولكن الفلسفية. طبعا الصلة والشبه بين ماركس وهيغل أكيدة، ودرسَها كثيرون. إلا أن ما عناني منها، هو أن ما سعى ماركس إلى إبانته، وهو وجود الإنسان المادي والأرضي، في مصالحه وعلاقاته، ظهر عند هيغل في وجود آخر يتعيّن في الفكر، ويتنزّل في البشر وأفعالهم. استرعاني للغاية، وأنا أقرأه، كيف أنه كان يرى المشهد الفلسفي مثل مشهدٍ أرضي واسع قبل اصطفاف الجيوش، وهو يرى إليه من رابيته المشرفة، ويفكّر في تنقلاتها وعلاقاتها. تنبّهتُ في درسي لهيغل إلى كونه تأثّر للغاية واستفاد مما كان عليه مجهود الكتّاب الألمان في درس الثقافة الإسلامية، سواء في درس القرآن أو في درس الثقافة الفارسية. وهذا واضح للغاية في درسه للقصيدة المسلمة حيث إنه يعاينها في شعر بعض الشعراء الفرس المتصوّفة من دون أن يبالي بغيرهم من الشعراء الذين كانت قد تمّت ترجمة بعض أشعارهم وأدبهم قبل ذلك بقرن على الأقل. والظريف في اشتغاله المتوسّع حول الفن الفرعوني هو أنه لم يأخذ بالاعتبار العديد من التوصّلات الاستشراقية في فهمِ ودرس الآثار الفرعونية... هذا لا يمنع كونه تنبّه الى أن الفرعون بات أشبه بالتجسيد الأعلى للفكر في الحضارة الفرعونية، وهو ما يقرّب ويفسّر بمعنى ما صلة الحضارة الفرعونية بالأديان التوحيدية الثلاث. لي رؤية نقدية إذًا لإسهام هيغل في الخطاب الجمالي، الا أنني أتنبّه مع ذلك إلى كونه وضع الأرضية الفلسفية المناسبة لظهور "ماورائية علم الجمال" وللمذاهب والعقائد التي تولّدت منه.
- ننتقل الى عالم هايدغر، كيف دخلت اليه، بخاصة وأن لديكما الكثير من الانشغالات المشتركة؟
= قراءة هايدغر ممتعة ومربكة في الوقت عينه. ممتعة لجهة توليده لفضائل في الخطاب الفلسفي تكاد تكون مصفّاة قائمة بنفسها، كما جعل للخطاب بنية نكاد نراها أمام أعيننا، أو نلمسها، مثل نصّه المدهش حول "الشيء". الا أن قراءتي لهايدغر أوقعتني في نوع من الارتباك، بل من الاختلاف معه. فهايدغر في الشعر هو غيره في الفنون التشكيلية. ففي درسه شعر الرومنسيين الألمان بدا لي بين الفيلسوف والبلاغي، إذ اعتبر أن الخطاب، وأفضله هو الشعر، هو الجدير بالبحث الفلسفي. ولم يعد الوجود نفسه شاغل الفلسفة منذ الإغريق. وهو بهذا المعنى بلاغي، الا أن ما درسه في القصيدة اتجه صوب مساءلة اللغة عن الوجود فيها، أي عن هذا الصدور المباغت والدال في آن معًا. إذ بات الشاعر في جوانيته، في قدرته الإبلاغية، حاملاً لغيره، وكاشفاً له. فاللغة تشتغل وتعيش في الشاعر، في "الكبار" منهم طبعًا، بل يمكن معاينة اللغة بوصفها تمثّل حيوية الوجود نفسه وتشكّلاته. الا أن درسه للفن - وهو درسٌ محدودٌ في اشتغاله الفلسفي - كان دون ما درسه في شعر هولدرلن وغيره. فهو يدرس مجموعة لوحات لفان غوخ، بخاصة لوحات الأحذية، ويتّضح عدم معرفته بفنية اللوحة (أو يُسقطه تمامًا من درسه). يتعامل مع الحذاء، أو مع صورته بالأحرى، مثل عيّنة عمّا كانه، وعما آل إليه. وقد أتاح لي نقدُه - المحدود في نهاية المطاف - التعرض لكثير من الاشتغالات الفلسفية التي لم تولِ اللوحة عنايتها الدراسية المناسبة؛ ولم تُعنَ بها، إلا بعد تأكد مكانة اللوحة في المجتمعات الحديثة، حيث إنها باتت ذات حضور له قيمة تفوق حتى قيمة القصيدة. فهايدغر لم يعد إلى أي لوحة، ولا إلى أي فنان، وإنما عاد إلى الفنان الأشهر في زمنه (وحتى اليوم) من دون أن ينتبه الى أن فان كوخ مات مغمورًا تمامًا، ولم يبعْ لوحة واحدة في حياته. ولقد صرفتُ دراسة بكاملها لدرس هايدغر ودريدا (الذي استعاده) لكي أتحدّث عمّا أسميته "مستور الفن"؛ أي أن يأتي الفيلسوف بما هو مكرّس في تداول المجتمعات، ويطلب، من خلال درسه، إظهار أن هذه القيمة تحصّلت في مكان آخر. فقد عاد هايدغر الى فان كوخ بعد أن كرّسه المجتمع والبورصة والمتاحف ودراسات الفن، وبالتالي، كما كانت له قيمة باتت محصّلة، فاتكل عليها من دون أن يصرّح بها، وباتت، في نظره، العيّنة الأكيدة لمسارٍ يجده بين الشيء وصورته، وبينه وبين مآله.
- وماذا عن افلاطون؟ وعما نسجتَ من علاقات مع نتاجه التأسيسي في الفلسفة؟
= قيل الكثير عن تأثرات الفكر الإسلامي القديم بالفلسفة الإغريقية، بين ترجمتها وتأويلها والبناء عليها، غير أن هذا الاهتمام غيَّب – في تقديري - الأساس، وهو مقادير التشابه بين جوانب في المتنَين القديمَين. فما استرعاني هو أن أحدًا ممن قرأت لم يتوقّف عند كون الفلسفة الإغريقية "حوارات" يتمّ استخلاص أقوال الفلاسقة منها، فيما يتمّ إسقاط كونها بناءً حواريَا، جداليَا بالمعنى العميق للكلمة. فما يقال عن هذا الفيلسوف هو ما نقلَه أو استعاده فيلسوفٌ آخر. كما استوقفني – كما في كل حوار- أن المطارحة الفلسفية تندرج في سياق، في بناءٍ حكائي، بين مائدةٍ وسَمَرٍ وجلوسٍ وتمشٍّ ومناقشات وغيرها.
هذا التشكّل للفكر الإغريقي يلاقي جوانب من تشكّل الفكر الإسلامي (علم الكلام خصوصًا، وجدل "المجالس" والبلاط) في كيفيات حدوثه، ووصوله إلينا. إلا أن هذا التشكّل لم يتعهّد البناء التكويني، إذ ما أتاح التقاربَ القوي بين الثقافتَين. هكذا أمكن التحقق من أن المترجم يعجز أو يتغاضى، عند ترجمة "بويطيقا" أرسطو، عن ذكر "المسرح" و"المسرحية"، أو يقوم بإجراء ترادف غريب بين "الدراما" و"المدح"، وبين "الكوميديا" و"الهجاء". أما ما دخل إلى التفلسف الإسلامي فتعيّن خصوصًا في "صفات" الخالق، وفي تعيينات الماوراء، فيما بقي التاريخ العيني، والكائن الإنساني، بعيدَين عن عواقب هذا التفلسف.
أعتقدُ بأن اللقاء الفلسفي بين الخطاب الإغريقي والإسلامي بالعربية بقي محدودًا، وإن عاد إليه أوروبيون طالبين للتفلسف ابتداءً منه: لم تكن عودتهم ممكنة إلى الخطاب الإغريقي من دون ابن سينا وابن رشد. ما يَظهر في الخطاب الإغريقي هو الانصراف الصافي إذا جاز القول إلى القول الفلسفي من دون معوّقات أو حدود أو قيود؛ ذلك أن تجربة "المدينة" وما تتيحه من جوارٍ وجدلٍ كانت تسمح بقيام القول الفلسفي... "الصافي"، كما قلت. بينما نجد في سياق التجربة الإسلامية قيودًا وخطابًا سائدًا تحدّ من التشكّل التلقائي للخطاب الفلسفي: لغويٌّ مقتدرٌ كان يقوى على مساجلة مشتغلٍ في ترجمة الفلسفة، بل على "إفحامه"، كما نعرف عن المناظرة الشهيرة...
لا أتوانى عن قراءة المتن الإغريقي، إذ قلما وجدتُ في نصٍ من البساطة والعمق ما أجده فيه، فكيف إن كنتُ أقرأه بشعور أنه حالي، إذ لا تسم نصوص هذا المتن أي تجاعيد. تروق لي العودة إلى السفسطائية، وإن كان معناها العربي الساري تبخيسيًّا لها. أعود إليها، إذ تفيد التطارح والتشارك، فلا تقتصرها المنافسةُ في تبادل الحجج. تروق لي العودة إلى أفلاطون، إلى صوره واستعاراته وتشبيهاته الرمزية، إذ تُبيح للفيلسوف التسمية والتعيين بأدوات هي غير أدوات المنطق، بل التخييل. كما تروق لي العودة إلى تمييزات هذا المتن الفلسفي بين الكذب العقلي والصحة اللغوية في الجملة الواحدة...
جوار وحوار بين الشعر والفلسفة
- كيف كان لنيتشه أن يستوقفك وان تخصّه بالذكر في عنوان أحد كتبك : "أنا هو آخر بصحبة وايتمان بودلير رامبو ونيتشه"؟
= قرأت نيتشه في سنوات متأخرة. لم تكْفِني بالطبع القراءة المتقطّعة التي أجريتُها، في سنوات المراهقة، لنبذات من كتابه الشهير: "هكذا تكلم زرادشت".
غير أن عودتي إليه كانت عودة مفاجئة، إذ وجدتني – بمعنى ما – "نيتشويًا" من حيث لا أعلم. فقد وجدتُ في كتابه هذا جمعًا طلبتُه في كتابتي الشعرية بين الشعر بمقوّماته المعهودة، وغيره من صنوف الكتابة بمقوّماتها الخاصة. هذا ما اجتمع في مفهوم "الصحبة" الذي بنيتُ عليه كتابي الشعري: "أنا هو آخر، بصحبة ويتمان، بودلير، رامبو ونيتشه" (2019). فقد بدأ هذا الكتاب، في انطلاقته، من فكرة حدسية، إذا جاز القول، طلبت بناء كتاب شعري ابتداءً من كتاب آخر، هو كتاب نيتشه المذكور. فقد كان نيتشه يرافقني في كتبٍ كثيرة، حتى إن ظلّه غطّى بقوة كتابات كثيرة مما كنت أقرأ... حان الوقت – أخيرًا ! – للقاء به!
الكتاب الداخلي في كتابي المذكور، المخصّص لنيتشه، هو أوّل ما كتبتً في مشروعي، لكنه يحتلّ الجزء الأخير من الكتاب. فأثناء كتابة كتاب نيتشه، وجدتُ أن له "رفاقًا" سبقوه وشاركوه ما أسميته في الكتاب: الخروج من عهد الطاعة، وهم الشعراء الثلاثة المذكورون.
هذه "الصحبة" لم تكن موصولة بين الشعراء الأربعة، إلا أنهم يتشاركون في "مفاتحة" الوجود خارج المعهود والسائد، في كتابة تجنح إلى التخييل الشديد، وإلى خرق "الأنواع" و"الأنماط" الكتابية، صوب نصٍ أو شعرٍ يَقبل غيره، وينسج معه تشكيلات جديدة.
"صحبة" نيتشه كانت الأقوى إذ وجدتني أعمل على مفهوم "الصحبة" عملًا متماديًا، بين الشعرنة والتخييل والتفلسف. فهي صحبة غير راكدة أو ساكنة، بل تقوم على "التمشِّي" خارج الحدائق الهندسية، إذ تختار الغابات والدروب والمسالك غير المطروقة.
هكذا اجتمع في كتابي الشعر مع النقد، مثلما اجتمع في كتابته الشعر مع التفلسف.
- لا بدّ أن نتوقف عند جاك ديريدا وما تركه منهجه التفكيكي في نصك، بخاصة وأنك تعود اليه في أكثر من دراسة. كيف تصف هذه الخبرة؟
= ألتقيت بديريدا أكثر من غيره، من دون أن ألتقيه أبعد من القراءة نفسها. هذا يذكّرني بلقائي المفاجئ به، ذات صباح، عند مخرج "المترو" في بولفار راسباي الباريسي، بعد أن وجدتُه يقفز أمام ناظري حاملًا حقيبة جلدية شبيهة بالحقيبة التي كنت أحملها بدوري: التقت نظراتنا، واتجهتْ مباشرة إلى الحقيبة. ابتسمنا، من دون أن نتبادل أي عبارة. ابتسمنا وافترقنا، كلٌّ في طريقه، شادّا على حقيبته.
تابعتُ ديريدا، بل رافقتُ صعوده الباهر، أثناء سنواتي الباريسية، من دون أن أسعى إلى محاورته، مع أنني كتبتُ غير مرة عنه، وخصّصت له دراسة في أحد كتبي مع هايدغر وعلاقتهما بالعمل الفني. كانت تروق لي حيويته الهائلة، التي تتجلّى في جملته الملتوية، الملتفّة على نفسها، ما يجعلها دالّة على نفسها من دون إحالة إلى غيرها، إلى خارجها. وهي علامة عمّا اختطّه ديريدا، وقام به، في كتبه التي تناولت مسائل غير معهودة بالضرورة في الفلسفة، لكنها تابعت تشكلَ الفكرة "الأوروبية"، خصوصًا في "الاتحاد الأوروبي"، فضلًا عن مسائل "الراهن الساخن" مثل الإرهاب وغيره.
لقد تحكم بنظرتي إلى نتاج ديريدا موقفي من مسائل المنهج في الفلسفة وغيرها، ولا سيما في درس النص أو العمل الفني. فقد كنتُ قد أعدتُ النظر في البنيوية من دون أن أنفصل عنها. وجدتُ أنها تكتفي بحدود النص الداخلية، وتُسقط "خارجه"، أو "محيطه" (كما عند ميخائيل باختين وغيره)، أو تسقط دور "التلفّظ" في النص، مثلما بلورَه إميل بنفينيست، وبنيتُ عليه سبيلي التحليلي في كتابي الأول في الشعرية العربية الحديثة. هذا التوسّعُ في بناء المنهج انبنى خصوصًا على أن الدرس لا يستقيم في صورة مناسبة إلا بالقدر الذي يقوم فيه الدارس ببناء المنهج وبلورته، بما يجعله في تصرّف القارئ، من جهة، وبما يجعله، من جهة ثانية، قابلًا للاستعادة النقدية من قبل القارئ.
ولقد وجدتُ أن ديريدا انطلق مما بدأ به نيتشه، وما استكمله هايدغر، أي التعرّض لفكرة "الأصل"، وللماوراء، أي البدء من... عدم واقعًا، والتقدّم من دون دليل. فإسقاط "الغيب" ليس له – في حسابي – أن يُسقط ما يوازي النص، أو العمل الفني، ويحيط به، أي ما يسبقه ويضيف إليه. هكذا فقدَ التفلسفُ أساسَه وهو البناء على العقلانية، والتعقلن، في الفهم والتفسير. هكذا باتت للكتابة طريقة لا تختلف، بل "تحتذي" سبيل الفن نفسه، مثلما كتبتُ ابتداءً من دراستي الموسومة: "فان كوخ بين هايدغر وديريدا: الفلسفة تحتذي الفن".
قصيدة في القصيدة
- إن انشغالك الشديد بالقصيدة وجعلها موضوعاً للقصيدة قد يُربك القارئ في نصوص عدة، إذ يلتبس الأمر بين الكلام عليها والكلام على المرأة. يبدو واضحاً أن في عملية التخييل هذه جمعاً بين المرأة والقصيدة، فعلى أي أساس تمّت المقاربة؟
= بين القصيدة والفلسفة جوارٌ وحوار اكيدان في كتاباتي على الأقل، إلا أن هناك جواراً وحواراً، في الحياة كما في القصيدة، بين الشاعر والمرأة. وفي شعري، كثيراً ما تتزيَّ الاستعارة بلباسين: زيّ المرأة الشهوانية أو الحبيبة في غالب الأحوال، وزيّ اللغة العصية والمطواعة في الوقت نفسه. إذا كان الجوار والحوار السابق فيه فكرٌ وأشكلة وتجريدٌ وتأمل، فإن الجوار والحوار الثاني شهوة وعنف وألم وتوحّد وانشقاق. لا أريد أن أجعل من هذين الوجهين قالباً للمقارنة، وإنما أتبيّن ان في الحال الثانية تفكّراً يتعيّن في الشعور، في الإحساس، في التوهّم، أي في تلك المنطقة الرخوة، والغامضة، والمشوّشة، والمثيرة التي تقع في دواخلنا حين تشتاق أو تبتعد أو تلتحم بالآخر الذي هو بعض وجهنا في المرآة، وبعض اختلافاتنا. أي أننا في تلك المنطقة، نشعر بالانسان في سيرورته بين ما هو وبين ما يمكن أن يكون، بين ما يشتاقه في وحدته وينفصل عنه في عزلته. هي صحبة أخرى للإنفعال، فيها قوة آسرة، وهو ما تسعى القصيدة إلى بنائه، وإلى إستثارة القارئ به.
- ما حاصل ما تقول عن علاقتك بالفلسفة؟
= لم يقمْ درسي على تناول فلسفي – محض، إذا جاز القول – لا لفلسفة الفن عمومًا، ولا للفن الإسلامي خصوصًا، إذ اعتبرتُ أن مثل هذا الخطاب لا يوفّر درسًا مناسبًا لهما. ولقد انطلقت في نظري هذا من منظورٍ فلسفي واقعًا، يتقاطع مع عددٍ من الفلاسفة المتأخّرين، وهو ما اجتمع في مفهوم "التداول".
لقد عنى هذا المنظور، في درسي، التعويل على الملموس، والعَيني، والخصوصي. وعنى أيضًا تجنّبَ ما هو "ثقافي" و"عقلاني" بصورة مسبقة. هكذا يُعنى التداول بمعاينة المجريات، والوقائع، والأعمال، والسلوكات. هكذا عدتُ إلى فلاسفة، مثل: شارل ساندرز بيرس (Charles Sanders Peirce) وويليام جايمس (William James)، وجون ديوي (John Dewey)، وألكسندر باين (Alexander Beine) وغيرهم.
وعنى هذا المنظور أن لا وجود لـ"حقيقة موضوعية"، ما دمنا لا نُحسن فصلَ الفكرة عن شروط إنتاجها؛ ولا يعدو تاريخُ المعرفة أن يكون تاريخ اعتقاداتٍ جرى تثبيتها في العقول كما في الكتب. هكذا عملتُ على تفكيك عددٍ من الاعتقادات المقرّة، فكيف إن تداخلت فيها مواقف "نبذية" و"استيعابية" في الوقت عينه لأي فنٍ، أو فكرٍ، واعتقادات، ثابتة خارج الخطاب الغربي.
 
(مجلة العربي، عدد مارس 2021 (748)، الصفحة 78، ضمن باب: وجهاً لوجه)