ثمّة صورة مركّزة غدت تُلاحق اللبناني شربل داغر، باعتباره أكاديمياً وشاعراُ وروائياً ومُترجماً، إلاّ أنّ هذه الصفات الأدبيّة على ألقها، بدت في الآونة الأخيرة، وكأنّها غير قادرة على القبض عن البورتريه الحقيقي لشربل داغر، لا كباحث يقف في حدود النظريات الفلسفية وسياقاتها، وإنّما كمُفكّر عربي يقتحم بعُدّته المفاهيمية والفلسفية والتاريخيّة مدارات الأدب والصورة والجسد واللوحة والاستشراق، بحيث إنّ المُتتبّع لاشتغالاته الحفرية، التي راكمها على مدار سنوات من البحث في تاريخ الفنّ العربي والإسلامي، جعلته يتبوأ منزلة رفيعة ومرموقة داخل مدونة البحث التاريخي العربي، بل وفي طليعة المُؤرّخين العرب عناية بالفنّ ومجالاته البحثية المتفرّدة معرفة وبحثاً، أمام شحّ معرفي كبير، يطبع مختلف الدراسات المتعلّقة بتاريخ الصورة بالعالم العربي من تشكيل وفوتوغرافيا وسينما. هذا وقد صدر للمُفكّر شربل داغر العديد من الدراسات الفكرية/ التاريخيّة مثل: “مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون العربية”(1998)، “الفنّ الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال”(1999)، “الفنّ والشرق: الملكية والمعنى في التداول”(جزء أوّل وثان/ 2004)، “الفنّ العربي الحديث: ظهور اللوحة”(2018)، “الفنّ الإسلامي بين اللغة والصورة”(2019). وغيرها من الدراسات المونوغرافية، التي تُعنى بتوثيق الفنّ وطرق فلسفته وأسئلته، لا بما يجعلها موضوعات جماليّة تنتمي إلى الماضي الفكري، وإنّما بوصف الفنّ قضية فكرية مركزية قادرة على جعل منطلقاً لبلورة مشروع فني لا يبدأ من السياسة وينتهي داخل السلطة، بل يبدأ من الصورة وينتهي داخلها في سلسلة من الأسئلة الأنطولوجية، تجعل من الفنّ مركز العملية الفكرية.
التقت منصّة “معنى” المفكّر اللبناني شربل داغر وكان لها معه هذا الحوار الخاصّ في موضوعات تتعلّق بتاريخ الفنّ العربي والإسلامي واللوحة والفلسفة والصورة والجسد والتاريخ والاستشراق:
– الدكتور شربل داغر، أنت من الباحثين والمفكرين العرب، الذي زاوجوا في كتاباتهم الفكرية بين النصّ الأدبي وما يرتبط به من شعر ورواية ونقد، وبين العمل الفني الذي خصّصت له أكثر من دراسة فكرية تجد منطلقاتها الإبستمولوجية داخل تاريخ الفنّ العربي. كيف انتهى بك المطاف داخل هذا المبحث الأركيولوجي الشائك، الذي يقوم ويستند على تأريخ فنّ عربي وآخر متعلّق بمُصنّفات الفنّ الإسلامي؟
هذا الازدواج قام في تحصيلي الأكاديمي، من جهة، وفي اشتغالي البحثي والكتابي، من جهة ثانية. فقد انصرفتُ، بعد تحصيلي شهادة الدكتوراه الأولى، في الآداب العربية الحديثة، إلى تحصيل شهادة ثانية تناولت فلسفة الفن وتاريخه. وهو ما اتخذ سبيله في كتاباتي البحثية اللاحقة. هذا الازدواج جمعتُ بين أطرافه في حياتي نفسها، في اهتماماتي نفسها، حيث إنني انشغلت بعالم الفن، وببناء اللوحة، في انصراف كاد أن يوازي، بل أن يبعدني أحيانًا عن عالم القصيدة. ولقد تأتى اتصرافي هذا من انتباهي إلى تجاهل الأدباء العرب لعالم الفن، في نوع من التعالي الجمالي والثقافي الذي لم أجد له مبررًا، عدا أنه ينهل ويصب في اعتقاد تقليدي وقديم، قوامه : رفعة الشعر الموروثة عن ماضي الثقافة العربية. غير أن الدافع إلى تعرفي لمسار الفن، سواء القديم أو الحديث، تأتى خصوصًا من كوني عاينت بناء اللوحة، وحمولاتها، وتأكدتُ من كونها تقيم علاقة مع الزمن التاريخي والاجتماعي، وتعايش لحظوية الإنسان المعاصر أكثر من قصائد حديثة كثيرة في شعرنا المتأخر. لقد كان لتعرفي إلى عالم الفن وبناء اللوحة (اختصارًا)، ما أفادني في درس تشكلها، وفي استفادة قصيدتي نفسها في بناء عالمها.
يتم النظر، في أحوال كثيرة، إلى عالم الفن بوصفه عالمًا رأسماليًا، واستهلاكيًا، موصولًا بأهل الحُكم والغنى، وهو أمرٌ فيه قدر صحيح من التلازم المذكور، غير أن عالم الفن يتعين في تشكلاته وفي تجلياته وفق سياقات تاريخية واجتماعية أكثر تفاعلًا مع الزمن مما هي عليه القصيدة.
إلا أن هذا الازدواج لم يعنِ، في مساري الفكري، بناء ثنائيًا، أو انفصالًا وتعايشًا بين قطبين، بل عنى تقاربًا وتشاركًا بينهما. فقد انتبهتُ، في بحوثي، إلى أن التاريخ الأدبي أو الفني المتوافر، عن ماضي الثقافة العربية، أو عن راهنها، فصلَ بطريقة اعتباطية بين هذين العالمَين، ما لا يشير تمامًا إلى علاقات التعايش والتفاعل بينهما. فقد بان لي، في أكثر من كتاب وبحث، لزوم البحث عن العلاقات الخافية في بعضها بين الأدب القديم وبين عالم الصور في الكتب: هذا ما ظهر في شعر قمتُ بدرسه، في الحقبة العباسية خصوصًا، إذ ظهرت فيه تجليات الفن الإسلامي. كما أمكن التنبه أيضًا إلى اتكال التصوير الإسلامي القديم على أدب المقامة.
وقد اعتنيتُ بما هو أكثر من ذلك، إذ تنبهتُ إلى أن حوامل اللغة، ولا سيما في المعجم، لها أن تمدَّنا بما كانت عليه استعمالات الكلام، المحفوظة في المفردة والجملة والمجموعات اللغوية، في حقبة تاريخية بعينها، ما له أن يشير إلى أوصاف وأحكام وتقويمات دالة بالتالي على ما يمكن جمعه تحت التصنيف التالي : المادة اللغوية المناسبة لتشكل الخطاب الجمالي، أي ما يشتمل عليه من أحكام استحسان أو استقباح يُبديها المستعمِل اللغوي إزاء المصنوع، أو السلوك، أو النظرة، أو القيمة وغيرها.
وهو المبحث نفسه الذي اشتغلتُ عليه في درس القصيدة الحديثة، إذ تبدى لي الظهور اللافت، وإن المحدود، منذ نهايات القرن التاسع عشر، لنظرية “الفنون الجميلة” بوصفها الجامع النظري، ليس للفنون وحدها، وإنما لنظرية الشعر نفسها.
وهو ما درسته بصورة أقوى في تأثيرات فن اللوحة على تشكل عالم القصيدة بالنثر، وفي تأثيرات فن السينما على تشكل بعض الشعر العربي الحديث، لا سيما مع بدر شاكر السياب.
– في أكثر من دراسة فكرية، تعمل على التفريق بين ” الفنّ العربي” و”الفنّ الإسلامي”. أوّلاً ما هي المنطلقات الفلسفية والتاريخيّة، التي جعلتك تتّخذ موقفاً في الموضوع؟
أتحدث، بعد غيري، عن : الفن الإسلامي، وعن الفن العربي، ما لا تعود تسميته لي. غير أن حديثي عن “إسلامية” هذا الفن القديم يعني شيئًا مختلفًا عن دينيته، إذ يشير إلى ما هو أوسع من ذلك، وهو الإنتاج البصري ابتداءً وتأكيدًا لعمل صُناع ليسوا بمسلمين بمجموعهم، ولا عربًا بمجموعهم أيضًا. هذا ما أظهره التاريخ لجهة إسهامات شعوب وفئات متعددة ومتنوعة في إنتاج هذا الفن، فضلًا عن “الخلطة” التي قام عليها وفق تأثيرات استند إليها، وتجلياتٍ متنوعة عائدة، في بعضها، إلى تقاليد فنية سابقة على ظهور الديانة المسلمة، من جهة، ومتأثرة بتقاليد وخبرات صنعية محلية في أكثر من بقعة بلغ فيها الحكم المستند إلى الديانة الإسلامية، من جهة ثانية.
فالحديث عن “الإسلامي” يعني توصيفًا وتعيينًا “حضاريين”، في المقام الأول. أما الحديث عن “عربية” الفن فيراد منه الإشارة إلى إنتاجات في بيئات ودول ولدى فنانين باتوا قائمين في مجتمعات وأنظمة حكم تشملهم وتمايزهم عن غيرهم. لهذا فإن التقسيم الثنائي يستند، في الدرجة الأولى، إلى مرتكزات تاريخية، لا فلسفية، أو جمالية.
-ألاّ ترى أنّ الغياب المُخيف، الذي يطبع مبحث تاريخ الفنّ داخل العالم العربي، يُساهم ضمنياً في تغريب التجارب الفنيّة وتكريس الأخطاء التاريخيّة في هذا المضمار وعسر تأويل فلسفي مفرط، يجعل العمل الفنيّ أشبه بحقل ألغام؟
لا يزال الدرس الفني يفتقر إلى الكثير من مقوماته. فعالم الفن متعدد الجوانب، ويحتاج إلى مقاربات متعددة، هي الأخرى. سأكتفي بالإشارة إلى بعضها: لا يزال التناول التاريخي لهذا الفن، سواء الإسلامي او العربي، ضعيفًا، بل يكاد يكون أضعف الدرس الحالي، سواء بالعربية أو بلغات أجنبية. وإذا كان درس الفن القديم عرف بعض التقدم في درس جوانب وإنتاجات في الفن الإسلامي بما يضيء جوانب من تاريخه، فإن هذا الأمر يبدو – يا للغرابة !– أضعف في درس الفن العربي الحديث. فالكتب والدراسات عديدة في هذا المجال، إلا أنها تفتقر إلى تاريخية فنية مناسبة لها : يتحول تاريخ الفنانين، أو هذا الفنان أو ذاك، إلى تاريخ للفن! أما لجهة درس جمالية هذا الفن، فالأمر شائك أكثر وأعقد، إذ يفتقر إلى دروس مناسبة للخطاب الفلسفي، ولأحكام الذوق، وللتمييز – في ما يخص الفن الإسلامي – بين الإلهي والديني. أما أفدح النواقص في درس الفَنين، القديم أو الراهن، فيتمثل في درس “اجتماعية” هذا الفن، أي العلاقات التي تشمل إقبال الجماعات والأفراد على أنواع الفنون، والقيم التي تتمثلها، وأطر التداول التي تندرج فيها … فكيف إذا طلب الدرس الوقوف عند “اقتصادية” هذا الفن أو ذاك، أي وقوعه في التداول بمعانيه المتعددة!
-ليست المقاربة التاريخيّة/التأريخيّة، هي ما يجعل مشروع الفنون العربيّة مجهضاً، بل يتعلق الأمر أيضاً بما يُسمى “فلسفة الفنّ”، إذْ نعثر على الكثير من الكتابات عربية وغربية منها، تعمل على نوع اجترار الأطروحات الغربية كنوع من الإسقاط الفلسفي (كانط، هيجل، فرويد، بورديو) على خصوصيات العمل الفني بالعالم العربي، دون التأكّد من السياقات الفكرية والتاريخيّة، التي أسّست مسار ووعي العمل الفني عربياً. هل لهذا السبب قُمت في دراسته الفكرية “مذاهب الحسن” الاعتماد على مصطلحات ومفاهيم وسياقات ذات علاقة بالدرس الفني الموجود في تراثنا العربي؟
لا يستقيم درس الفلسفة من دون درس اللغة التي يتم التفلسف بها، إذا جاز القول. هذا ما قادني، في كتابي المذكور، إلى إعادة إحياء (إذا جاز القول) ألفاظ اصطلاحية كانت قد سقطت من التداول، فيما هي تمثل في كتابات الكندي أو الجاحظ أو الفارابي أو ألتوحيدي وغيرهم اشتغالات عالية التعيين في التفكر والتعقل. وهذا يشمل ألفاظًا اخرى، أقل “تكريسًا” (إذا جاز القول)، مما يرد في المدونة القديمة، ولا سيما في المعاجم، ما يشير إلى توليدات العربية في استعماليتها الاجتماعية، أو في المحادثة أو في الخطاب نفسه.
غير ذلك – وهو ما هو رائج وسارٍ في كثير من الخطاب الفلسفي عن الفن بالعربية – فلا يعدو كونه إسقاطًا غير موفق، ويقوم على علاقة تعسفية بموضوعه، أي غير موافقة له.
-على هذا الأساس، كيف في نظرك، يستطيع الباحث/ الناقد الفني اليوم تفادي نسخ الفلسفة الغربية المتعلّق بمفاهيم الفنّ والجمال أو بالأخرى تبئيتها أو توفيقها مع النتاج العربي، وهل ذلك ممكن أصلاً؟
إن مواقفي المتشددة هذه لا تعني إسقاط النظر عن التفلسف الأوروبي، ثم الغربي، في مسائل الفن والجمال. هذا ما لم أنقطع عنه، في ما يخص كتابتي البحثية. ففي الخطاب، منذ التفلسف الإغريقي، أمكن التحقق من قيام خطاب عن الصنع والفن، واقعِ بين الماوراء والوجود نفسه، وهو ما لا يتوانى الخطاب الغربي عن العود إليه، والبناء عليه، والتفكر المتجدد ابتداء منه. هذا ما لم يتحصل في خطاب الثقافة الإسلامية بالعربية، إذ إن هذا الخطاب توزع بين خطاب فقهي-قيمي، ينتهي إلى أحكام قوامها التوافق مع الشرع، ومع المنفعة، من دون إيلاء المتعة أي أهمية أو قيمة (فيما المتعة، والانفعال، هما في أساس النظرية الجمالية). أو توزع في خطاب كلامي (من عِلم الكلام)، قام على إيلاء “الحُسن” قيمة عليا، دينية وأخلاقية، ما تعين في الإلهي في المقام الأول. كما توزع كذلك في خطاب تفلسفي (لا سيما مع الفارابي، وجانبيًا مع التوحيدي) أعاد التأكيد على أهمية “المحاكاة”، فيما كانت مُسقطة غالبًا في خطاب العربية السائد: فما كان يستند إليه خطاب التفلسف الإغريقي من فنون (مبنية على المحاكاة خصوصًا) كان لا يجد أساسًا صنعيًا له، لا في الأدب بالعربية أو في إنتاجات الفن الإسلامي. هذا ما جعل الخطاب الأخير – عند الفارابي، على سبيل المثال – شاهدًا عن غائب، وغير ذي نفع بالتالي: يتحدث عن المحاكاة في نظرية الشعر عمومًا، لا في القصيدة العربية … يتحدث عن التماثيل في الهند، ولا يشير إلى إنتاج الصورة الإسلامية.
– حقّقت الثقافة الغربية تراكماً كبيراً فيما يتعلّق بتاريخ الفنّ وفلسفته، مقارنة بثقافة عربية تبدو واقفة أمام كتابات/اجتهادات نابعة من داخل مجال الصحافة. كيف نُفسّر غياب المونوغرافيات التاريخيّة والفلسفية المتعلّقة بالفنّان العربي وتأريخ سيرته وفلسفة مُنجزه الفني؟
يستند هذا الخطاب إلى أكثر من خمسة قرون، متصلة ومتنوعة ومتجددة، في إنتاجات هذه الفنون، وفي النظر والحكم عليها، فضلًا عن التقاليد الإغريقية-الرومانية، في الصنع أو في التفلسف. ولو عدتُ إلى أولى تجليات هذا الخطاب، لوجدتُها في كتاب “حيوات” لجيورجيو فازاري، قبل خمسة قرون : سنجد أن هذا الفنان والدارس الإيطالي حفظ ودوَّن “مونوغرافيات” (كما تُسميها) لمعلِّمي التصوير في المدن الإيطالية. إن مثل هذا الكتاب لا يتوافر مثيل له، حتى اليوم، – بكل أسف – في المكتبة العربية، لا عن ماضي صناعه، ولا عن سِيَر فانينه المعاصرين. هذا يشير، بالطبع، إلى ضعف المكانة التي يوليها أهل الحكم والمال والنفوذ والمعنى للفن.
– يعتمد الباحثون العرب في تأريخهم للفنّ العربي على تحقيب أوروبي (قديم، وسيط، حديث) القائم على تاريخ الدول والسلالات والأحداث السياسية، ألاّ ترى أنّ ذلك يُعيق عملية التفكير في الفنّ العربي، أمام غياب تحقيب يقوم على حركات ومدارس وتيارات من داخل الفنّ وليس خارجه؟
هذا التحقيب معتمد في كثير من الثقافات، إلا التي تستند إلى تاريخ خصوصي على قدر من التحديد العائد إلى حقبات أو أُسر حاكمة في تاريخها، كما يمكن الوقوع على ذلك في التاريخَين الصيني والياباني وغيرهما أيضًا. هذا الأمر – حتى لو جرى الخلاف أو الاتفاق حوله – ليس بهذه الأهمية، مع أنه يعني خصوصًا تعيين ثقافات وفنون الغير وفق الترسيمة الاوروبية-الغربية تحديدًا. هذا ما جعل دارسين أوروبيين يعينون الفن الإسلامي بوصفه حلقة وسيطة، وصلةَ وصلٍ، بين الفنون القديمة والفنون الحديثة. هذا الطموح، أو التطلع، يعني ظاهرًا على الاقل بناء “تاريخ عالمي” للفنون، وهو طموحٌ وتطلعٌ مشروعان، غير أنه لا يُعنى، في المقام الأول، بدرس الثقافات والفنون وفق تكويناتها، ومسارها، وتجلياتها.
إن تحقيب الثقافات والفنون لا يُغيِّب، من دن شك، وجود تبادلات وتأثرات وتقاطعات، بين حضارات وثقافات وفنون مختلفة ومتباعدة : يكفي للتدليل على ذلك النظر، في الأدب، إلى انتقال آداب هندية، عبر الثقافة الفارسية، إلى الثقافة الإسلامية بالعربية. أو إلى انتقال علامات من التصوير الصيني، مثل الغيمة والعيون ذات الشكل اللوزي، إلى التصوير في المخطوطات العربية القديمة … كما يمكن التوقف عند التقاطعات والتأثيرات التي يمكن الوقوع عليها في الفنون الهندية المختلفة في عهود الأسر الإسلامية الحاكمة.
لهذا فإن التحقيب ممكن، ولكن وفق التقاليد المحلية والوطنية والحضارية … وما هو أشد إثارة في الدرس، فيتمثل في “فن اللوحة”، الذي تأكد في الكنيسة كما في القصر في عدد من المدن الإيطالية قبل أن يصبح تقليدًا أوروبيًا، ثم فنًا سائدًا في تقاليد الدول المختلفة، وعلى حساب تواريخها الخصوصية.
– تُشكّل الفلسفة الغربية مرجعاً هامّاً للفنّ العربي، إذْ نعثر داخل دراسات فلسفية تتناول سيرة الفنّ العربي على بيبليوغرافية كبيرة من المراجع الغربية مقارنة بالكتابات العربيّة، التي اجتهدت منذ منتصف القرن المنصرم على مُتابعة وتوثيق التجارب الفنيّة العربيّة بالدرس والتحليل. شربل داغر، كيف في نظرك يرنو الباحث العربي إلى بعض هذه الكتابات التي تميل أكثر إلى مجال الصحافة رغم جديتها، مقارنة ببعض المتون الغربية في فلسفة الفنّ والجمال والصورة؟
ما تقوم به الصحافة من متابعة، وتعريف، وتقويم لتجارب الفنانين العرب، من خلال معارضهم، عملٌ مفيد بطبيعة الحال، لكنه يبقى دون المطلوب في درس الفن، عدا أن كثيرًا من الكتابات الصحافية لا يرقى إلى النقد الفني تمامًا، ولا يعرف شيئًا حتى عن بعض قواعد النقد الفني.
المقال الصحفي لا يعدو، في أحوال كثيرة، ،سوى “تجميل” و”تسويق” لما هي عليه تجربة هذا الفنان أو ذاك، في هذا المعرض أو ذاك. أو يبدو المقال، في أحوال أخرى، نوعًا من التأويل الحر ابتداء من “أفكار” أو “مسبقات” أو علامات في العمل الفني؛ أي أنه مقال يشير إلى ثقافة الصحفي أكثر مما يستند إلى عمل الفنان.
– هل تعتقد أنّ الفلسفة الغربية المعاصرة قادرة على تخليص الثقافة العربيّة من الخطاب الشفهي الذي تحتكم إليه، مقارنة بالتهميش المتعمّد الذي تُمارسه بعض الجهات على الفنون البصريّة بشتّى أنواعها وألوانها؟
التفلسف هو المطلوب. أهذا ممكن بالعربية؟ وكيف؟
هذا يحتاج إلى لغة فلسفية بالعربية، وإلى بلورة لغتها الاصطلاحية ومسائلها، وإلى التفكر ابتداء مما تعرضه تجارب الفن العربي الحديثة على النظر، على الحكم، على التقويم. وقيام خطاب تفلسفي بالعربية لا يكون بالانفصال، أو بعدم إيلاء النظر إلى ما يقترحه الخطاب الفلسفي الغربي، وإلى ما يقترحه من أسس ومناهج ومقاربات في النظر، وإلى ما يَخلص إليه في مسائل القيمة والمعنى والتداول.
غير أن توافر شروط التفلسف بالعربية لا يستقيم بدوره من دون بناء السند، أي معرفة متعددة الجوانب للفن المطلوب درسه، ولأساليب الذوق والعيش (كما يسميها بيار بورديو)، في الثقافة المعنية. وهو ما ليس بمتوافر بعد في الثقافة العربية الراهنة، حيث إن المقاربات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية للفن معدودة للغاية.
– داخل كتاباتك الفكرية المتعلقة بالدرس الفني، تغيب أسماء فلسفية مثل: رجيس دوبري وجيل دولوز وبيير بورديو وناتالي إينيك وغيرهم من فلاسفة الحقبة المعاصرة. كيف نُفسّر هذا الغياب لهؤلاء الفلاسفة والسوسيولوجيين في تناولك للدرس الفني بشقيه العربي والإسلامي؟
هذا الوصف غير دقيق. يجب أن أشدد، بداية، على أن إغفال أو إسقاط هذا الباحث أو ذاك قد يتأتى، ليس من قلة الاطلاع والمعرفة، وإنما من اختلاف المناهج وسبل النظر. فأن تذكر هذه الأسماء – ولي عودة إليها – لا يعفيك، بالمقابل، من ذكر عشرات الأسماء التي عدتُ إليها في كتبي وبحوثي المختلفة. فالعائد إلى مكتبة المصادر في كتابي ذي المجلدين: “الفن والشرق”، سيجد قائمة متوسعة للغاية، قلما عاد إليها بمجموعها أي باحث بالعربية.
الامر الآخر، هو أنني عدت إلى عدد من الاسماء التي ذكرت في سؤالك : عدت إلى جيل دولوز في بحثي عن الصورة السينمائية والصورة في القصيدة العربية الحديثة، وعدت إلى ريجيس دوبريه في مقاربته “الوسيطية” في مسائل الكتاب والتداول؛ أما بيار بورديو، فقد حفل العديد من كتبي وبحوثي بإحالات ونقاشات معه. للعلم فقط، ستناقش قريبًا في الجامعة اللبنانية أطروحة دكتوراة تتناول دراسة مقارنة بين فكري وفكر بورديو في نطاق درس الفن.
-لماذا ظلّ تفكير الفكر العربي المعاصر بمنأى عن التفكير في عالم الصورة والتصوّر والفنّ والجمال، رغم وجود بعض الدراسات الفلسفية الجادّة، التي تُشكّل مقدّمة لبلورة صرح فني عربي؟
لا يزال خطاب الفن قاصرًا، ويفتقر إلى الكثير من أسسه ومقوماته. والخطاب شأنٌ فكري وثقافي تراكمي، وهو ما ليس ممكنًا البناءُ عليه في حالة الخطاب العربية الراهنة.
يضاف إلى ذلك أن الفلسفة باتت متراجعة، بل منعدمة، في كثير من الجامعات العربية، ما يجعل الخطاب الفلسفي شبه غائب. من أين للفلاسفة ان يَظهروا بالتالي؟ ومن أين للخطاب الفلسفي أن يتشكل؟
يضاف إلى ذلك أن كثيرًا ممن يتوكلون بتدريس الفن، وفلسفته، وتاريخه، في كليات ومعاهد التعليم العالي العربية، هم فنانون في تربيتهم ودراستهم، أي أنهم اتصلوا بالفلسفة والتاريخ الفنيين، ولكن من دون أن تكون لهم دراسة وافية ومتعمقة في هذا الجانب الدراسي أو ذاك.
أما السبب الآخر، فهو أن كثيرًا من المؤسسات التي “ترعى” كتب الفنون، مثل المصارف، أو المؤسسات الثقافية، تعنى بإصدار كتب “جميلة” عن الفنانين، ما يخدم رسملة مجموعاتهم الفنية في المقام الأول، ولا يفيد في إنتاج معنى الفن بالضرورة.
– هل تعتقد أنّ غياب الاهتمام بفلسفة الفنّ وتاريخه من لدن الفكر العربي، تعود أصوله إلى فكرة تحريم الصورة ومُتخيّلها في التراث العربي الإسلامي؟
ما نسميه فلسفة الفن وتاريخه أمر مُقْحَم في تاريخ هذه الثقافة وخطابها، ويعود إلى تأثرات مثاقفة لدى عدد من الكتاب والدارسين الأوائل من العرب في القرن العشرين. لهذا فإننا نتحدث عن تاريخ قصير نسبيًا، من جهة، عدا أنه يفتقر إلى سند قديم، في التاريخ أو التفلسف، من جهة ثانية. فعدم الإقبال على الصورة، والانصراف إلى الزينة، جعلا من الفن القديم غريبًا أو منقطعًا عمَا آل إليه الفن منذ التجليات العربية الأولى للوحة وعالمها في القرن التاسع عشر. هذه انعطافة كبيرة لا يجوز التهاون فيها، ولا إغفال ما احتفظت به، أو ما أسقطته، من تاريخ فنها أو تاريخ خطابها السابق في الفن.
هذا يعني أننا دخلنا إلى عالم “ثقافة الصورة” بعقلية القهقرى، في بعض الأحوال. أي أننا لم نستوعب تمامًا هذه الثقافة الناشئة في هذه المجتمعات، ولم نقر بها في أحوال كثيرة. فما جرى، في هذه المجتمعات، هو أن ثقافة الصورة نشأت في المناخ الاستعماري، فاعتمدتْها نخبٌ، لا سيما في الحكم والبلاط، في نوع من طلب التشبه بالصورة الفنية الرمزية لدى الحاكم الأوروبي. هكذا بقيت اللوحة أسيرة مجتمع البلاط، ثم بعض القصور والدور، من دون أن تنتقل ثقافتها إلى فئات المجتمع المختلفة. اللوحة العربية إرث استعماري، بمعنى من المعاني: هكذا تعاملتْ معها فئات عديدة، متأسلمة أو قومية وغيرها، أي بوصفها من التركة الكريهة التي يجب التخلص منها، أو التخفيف منها، أو تحويلها وتطويعها بالتالي.
يزيد على هذا أن “طفرة” نشوء المجموعات الفنية لدى الأفراد، وقيام المتاحف، لم يخفف من النظر السلبي إلى هذا الفن، إذ أتت “الطفرة”، في أحوال كثيرة، تعبيرًا عن مسعى مالي، استثماري، في المقام الأول: استثمار، من دون أـن يبني ثقافة معنى مرتضى بها لهذا الفن في هذه المجتمعات.
– أضحت الصورة الآن دعامة قوية في صناعة الرأي العام وسلاحاً في يد المجتمعات المعاصرة، وهي تُعرّي عطب السلطة وديكتاتوريتها في أكثر من بلد عربي. شربل داغر، أيّ أفق فكري ترسمه لمفهوم الصورة بعد الدور الطلائعي الذي لعبه هذا المفهوم منذ الربيع العربي إلى الآن؟
هذا الدور الطلائعي، كما تُسميه، محدود، واختفى بسرعة اختفاء “الربيع العربي”، كما تُسميه. هذا لا يُخفي كون الصورة باتت حاجة في بعض جوانب حياة هذه المجتمعات : أقدمَ أكثر من ملك وأمير ورئيس عربي على وضع صورته فوق العملة الوطنية، في الوقت الذي تميل فيها ثقافة “اليورو”، العملة الأوروبية (وغيرها من العملات قبلها)، إلى وجوه الثقافة والأدب والفنون والعلوم لتزيين أوراق عملتها الناشئة. هذا ما لا يغيب عن الحاكم، في الانتخابات، أو في الدعاية السياسية، حيث بات يحتاج إلى صورته، وإلى رفعها أينما كان: حتى في مباريات كرة القدم! فالحاكم ما عاد يكتفي بالكلمة المسموعة، كما في أيام عبد الناصر وبورقيبة وغيرهما، غير أن الصورة السياسية والترويجية “الثابتة” صورةٌ استعمالية للغاية، ولا تُسهم تمامًا في بناء “ثقافة الصورة” وانتشارها. أما الصورة “الممتدة”، كما في الشاشتين الكبيرة والصغيرة، فتكاد تتحول، في غالب الأفلام والمسلسلات العربية، إلى بديل غير موفق عن الحكاية والسماع: في إمكانكَ إغماض العينين، ومتابعة الكثير من هذه الإنتاجات؛ أما “تفاقم الصورة”، الذي ظهر في “الربيع العربي”، وبعده خصوصًا، فلا يعدو كونه ناتجًا عن حاصل الثورة الرقمية في هذه المجتمعات. فما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي من صور ثابتة أو ممتدة، هائل، لكنه يشتمل على المزور والسليم، وعلى الفني والرتيب؛ أي أنه يُسهم، في المقام الأول، في “صناعة” الرأي العام، بدلًا عن الإذاعة والجريدة والمنشور والهتاف في تظاهرة، ويُسهم، في صورة أقل، في بناء ثقافة الفن.
– تكمن مدارات الصورة في كونها تُظهر وتنتقد وتُخفي وتحجب في آن واحد، ما يجعلها أشبه ببلور متعدّد الأضلع، لا يقف عند صورة واحدة. فلسفياً، كيف تفهم طبيعة الصورة في علاقتها بتوثيق أحوال الاجتماع العربي؟
الحاجة أكيدة لدرس دور الصورة الفوتوغرافية في هذه المجتمعات. وهي صورة أنتجَها مصورون عرب وأجانب. هذا ما ظهر في الجريدة، والشاشة الصغيرة، ووسائل التواصل الاجتماعي. وهو ما يَظهر أيضًا في ملصق، في معرض، ولا سيما في كتب، بعضُها فاخر. هذه الصورة حفظت الكثير، مما لا يظهر لا في الكتاب، ولا في اللوحة. لها بالتالي قيمة توثيقية، وتعبيرية، متعددة الدلالات.
لا أعرف، واقعًا، مقدار ما تُوليه مؤسسات عربية، رسمية وخاصة، لحفظ هذه الصورة، وبناء “سرديات” موافقة لها.
– في الوقت الذي تنشغل فيه الفلسفة الغربية المعاصرة بمفاهيم الفن والجمال والقلق والصمت والمرئي واللامرئي والصورة والجسد، ما يزال الفكر العربي المعاصر مُتقوقعاً في العروبة والقومية والعقل. ألاّ ترى أنّ هذه الموضوعات الفكرية، قد استنفذت مادتها على مستوى الدرس والبحث، وبالتالي تُصبح عائقاً إبستمولوجياً أمام تقدم البحث الفلسفي؟
إنّ خطاب الهوية – أيًا كانت – أساءَ إساءات كبرى إلى الفن، وإلى الخطاب أيضًا. فقد نظر الكثير من الموثقين والدارسين إلى تاريخ هذه المجتمعات من خلال منظور الإيديولوجية، ما جعل تعبيرها جزئيًا وضعيفًا: يكفي العودة إلى تعبيرات “الواقعية الاشتراكية” في الأدب العربي الحديث، وكيف باتت مُضحكة عند النظر إليها … أما الثقافة المتأسلمة فقد أعدمت الصورة تمامًا، إلا عند الترويج لعمليات العنف والاغتيال والإرهاب بالصورة الثابتة أو الممتدة. وهي تتعامل مع هذه المجتمعات وفق سياسة “الأرض المحروقة”، فتسقط ما سبق، ولا تنتج قصيدة أو كتابًا غير كُتب الترويج الدعائي.
– شربل داغر اشتغلت في أكثر من مرة على مفهوم الجسد أدبياً، لكنّه يبدو شبه غائب في أعمالك الفكرية النظرية المتعلق بالفنّ، علماً أنّ هذا المفهوم له علاقة قوية بمفهوم الصورة، لأنّ الجسد الفيزيقي هو عبارة عن صورة في الأصل. كيف تفاعلت مع هذا المفهوم داخل دراساتك الفكرية؟
بلى، تناولت في كتاب “العين واللوحة”، وفي كتاب “ظهور اللوحة” مسائل الجسد، و”الموديل العاري” والهيئة الاجتماعية من الهيئة الفردية في صور الأعيان و”الخواجات” وسيدات المجتمع والفقراء وأصحاب المهن وغيرها، وما تعكسه من صور مقبولة للجسد الاجتماعي، في اللوحة وغيرها. وهي تشير إلى “تغييب” الجسد عن المثول، إلا في تجارب شبابية غير منصاعة للمحرمات الدينية والاجتماعية في هذه المجتمعات.
لكنني، لم أتناول، بالمقابل، تجارب لافتة في بعض التجديد الشبابي المتأخر … إلا في بعض المقالات التي توقفت عند تجارب أو تجليات، كما تناولتها في تجربة الفنان السعودي فيصل سمرة، على سبيل المثال.