المقدمة
شكلت الصورة، ذات المرجعية الإسلامية، في السنوات الأخيرة، وجهًا أو علامة عن صراع مكشوف، دموي، في غير مدينة أوروبية وعربية وإسلامية، من دون أن يتبين الدرس، في صورة وافية ومناسبة، أسباب اندلاع هذا العنف: أله علاقة بمجرد تصوير الرسول أم تحديدًا بالسخرية منه؟ أيكون الفن بتصرف الفنان وتعبيرًا عن حقه في التمثل والتعبير أم يكون الفن تحت نظر الجماعة، بل بتصرف الجهة أو الجماعة الغالبة (أو التي تسعى إلى الغلبة) في تحديد عقيدة الجماعة وصورة هويتها؟ أتتعين أسباب هذا العنف في نطاق الفن وأحكامه أم في نطاق أوسع منه، لكنه يتخذ من الصورة تعبيرًا مكثفًا ومختزلًا عنه؟ ألا يكون تناقل الصورة – وهو أيضًا تناقلُ وسائل الإعلام الإلكتروني المسرَّع لها – سببًا لتناقل الصراع على عجل، بما خفَّ نقله والصراع حوله؟
هذه الأسئلة وغيرها تستدعي أسئلة مزيدة: هل نهى الفقه الإسلامي عن تصوير الرسول تحديدًا أم عن مجرد التصوير؟ هل أجمعت المذاهب الإسلامية – على اختلافاتها العقيدية – أم اختلفت في الموقف من الصورة، ولا سيما الفنية منها؟ هل هناك فروق بين مواقف الفقهاء، من جهة، وبين ممارسات الفنانين أنفسهم في هذه الثقافة أو تلك، من جهة ثانية؟
إلا أن طرح هذه الأسئلة وغيرها يستدعي طرح أسئلة ربما مخالفة لها، مثل هذه: أهو الفن، والاختلاف في الموقف منه، بين عربي وغربي، ما يفسر اشتداد العنف بين الجانبَين؟ ألا تكون المواقف من تصوير الرسول، ومن الصورة الفنية، ذريعة لمناوشات ذات دوافع أخرى، خصوصًا عند مُفتعليها؟ ألا "يستعمل" المبادرون إلى إشعال هذا العنف الدينَ، والرسولَ، والصورةَ وغيرها لكي يتمكنوا من التسيُّد على جماعاتهم، في بيئاتهم نفسها، وحيثما تواجدت (تمامًا مثلما جعلوا قبل ذلك من الحجاب "مسألة" في حد ذاتها)؟ ألا يكون للعولمة الظافرة ضغط متفاقم، أينما كان، على الحدود وعلاماتها (أيًا كانت)، بما فيها حدود الكيانات والاعتقادات والمواقف وعلاماتها "الحضارية" والثقافية والفنية؟ ألا يؤدي هذا الضغط المتفاقم إلى استثارة مواقف "ضدية" و"بائسة" و"يائسة"؟
الأسئلة عديدة ومتشعبة، تستجمع أحوالًا معقدة، تختلط فيها أسباب القوة بأسباب الفن، وموازين القوى العالمي بخيارات جمالية وذوقية، مثلما يتداخل عالم الفن الصغير بعالم البشر الكبير، ما يشير – وإن بعلامات سلبية ودموية - إلى قوة الفن المتعاظمة، ما هو مدعاة لأكثر من بحث ومراجعة.
لا يبتغي هذا الكتاب الإجابة عن هذه الأسئلة كلها، وإنما ينطلق منها ليتوقف عند حقيقة سندِها المرجعي في الفقه الإسلامي، وفق مذاهبه المختلفة. وهو يعالج بالتالي ما يمكن تسميته بـ"فقه الصورة"، أي يعالج جوانب ومسائل قلما اهتمت بها فلسفة الفن، أو تاريخ الفن، سواء في نطاق الفنون الإسلامية القديمة، أو في نطاق الفن العربي الحديث والمعاصر. ذلك أن من يتابع الكتب والبحوث في غير لغة وثقافة معنية بالفنون المذكورة يتحقق من كونها قلما تَجمع بين الدين والفن، وخصوصًا بين الفقه والفن. ذلك أنها تتعامل مع هذه الفنون، سواء القديمة أو المتأخرة، كما لو أنها فنون "فنية" محضة، أو "مهنية" وحسب، تولدتْ من خيارات الفنانِين والمقتنِين لتعود إليها من جديد في صالة العرض والمتحف والبيت والكتاب، من دون أن تمر هذه الفنون في البلاطات والخطابات والجماعات والاعتقادات.
لو عاد الدارس إلى الكتب المتوافرة عن الفن الإسلامي، على سبيل المثال، لوجد كلامًا مختصرًا ومبتسرًا عن "موقف الإسلام من الصورة"، أو عن "تحريمها"، من دون أن يجد كلامًا – إلا في ما ندر - عن موقف الفقه من الفن. وهو ما يصحُّ كذلك في الكتب والبحوث عن الفن العربي المتأخر، إذ لا يجد الدارس فيها كلامًا مناسبًا حول منع الفقه أو تشجيعه دخول "ثقافة الصورة" إلى المجتمعات العربية.
مثل هذه المباحث ضرورية، إذًا، على ما توصلتُ إلى التقدير؛ وما زاد من هذه الحاجة هو أنني وقعتُ على كتب وبحوث عربية عالجت المسألة، ولكن وفق مناح تجميعية، تصنيفية، "إرشادية" في غالب الأحوال، فأكتفي بذكر بعضها، مثل الكتب التالية: "حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية: دراسة فقهية موازنة" لصالح بن أحمد غزالي (دار الوطن، 1996)، و"الفنون التمثيلية في ضوء الفقه الإسلامي" للدكتور عبد الحليم عويس (شيكة الألوكة الإلكترونية)، و"الفنون الإسلامية والمنهج الإسلامي"، و"أحكام فن التمثيل في الفقه الإسلامي"، و"أحكام التصوير في الفقه الإسلامي" لمحمد ابن أحمد الواصل وصالح ابن عبد الله لاحم (دار طيبة للنشر والتوزيع، 1999)، و"بين الفن والفقه: دلائل المنع والإجازة والترجيح بينهما" لرجب أبو مليح (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008)، و"الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية" من تحرير: إبراهيم البيومي غانم (مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 2017)، أو هذه الدراسة المغربية: "التصوير من وجهة نظر إسلامية" لحسن السائح (مجلة "دعوة الحق"، الرباط، العدد 232، نوفمبر-تشرين الثاني من سنة 1983)، وغيرها الكثير. فيما وجدتُ باحثين آخرين جعلوا من الفقه موضع نظر نقدي لجهة علاقته بالموقف العقيدي من الفن (محمد عمارة)، أو بمسائل الاجتهاد والتفسير في مسائل الفنون (نصر حامد أبو زيد)... كما تعرفت إلى مجهودات مغربية واسعة في النظر التاريخي والنقدي إلى المدونة الفقهية، ولا سيما المالكية منها، من دون أن تقترب من مسائل الفقه والفن إلا مع الباحث أحمد السعيدي. هذا مدعاة للسؤال: ألا تفيد - منهجيًّا وبحثيًّا - إقامة أسباب تأليفية بين الفقه والفن، من جهة، وبين الفقه وتاريخ الفن وفلسفته، من جهة ثانية؟ ألا يُستحسن استعراض المدونة الفقهية وفحصها نقديًّا، وفق منظور تاريخي، ودرسُ صلة هذه المدونة بالفن نفسه، ولا سيما فن الصورة، إنتاجًا، واقتناء، واستعمالًا، واعتقادًا؟
هذا ما طمع البحث بمعالجته، فكان أن ألزمتُ الكتاب بعدد من المحددات المنهجية: منها إقامة البحث في حدود دينية وجغرافية وتاريخية بعينها، فلا يقوم الدرس على التنقل الحر والمفتوح بين الأزمنة والبلدان والمواقف. هذا ما قادني إلى اختيار المغرب ميدانًا للبحث، بعد أن تحققتُ من وجود مدونة مغربية فقهية مناسبة للقيام به. كما قادني البحث إلى اختيار حقبة زمنية تقع بين سقوط "إمارة غرناطة" (1492) ومطالع القرن العشرين، بعد أن وجدتُ أن الصورة، الفنية وغير الفنية، شكلت علامة "قتالية" في هذه "الحرب الشاملة" (كما سأسميها).
إلا أن تعيين هذه المدونة، وهذه الحقبة، لم يعفني من معاينة حال الصورة في مجتمعات عربية أخرى، في العقود المتأخرة، سواء في الخطاب الفقهي، أو في تجارب الفن نفسها، ولا سيما في بلدان الخليج. بل أمكنني التحقق من ظاهرة مزدوجة، بل مفارقة، وهي انتقالة مسألة الصورة إلى حال جديدة، مع العولمة: اشتداد العنف حول الصورة، وبها، فيما "يتفاقم" ذيوع الصورة (بأنواعها المختلفة) حتى في مجتمعات كانت متشددة إزاءها، أو محرِّمة لها.
إلا أن تحديد البحث لم يجنبني مصاعب جمة، أولها التوفق بالفتاوى الفقهية نفسها؛ وهو ما تعين في مخطوطات مغربية كثيرة لم يكن العثور عليها بالهيِّن أو بالمتاح، عدا أن التوفق بها لم يعْفني من مصاعب القراءة، إذ إن غالبها مخطوط باليد، وفق هيئات تدوينية غير جلية أحيانًا. غير أن مساعدة الكثيرين خففت من هذه المصاعب، ومكَّنتني من الحصول على عدد من المخطوطات، وهو ما ساعدني عليه: أحمد السعيدي، حمزة الكتاني، محمد المليحي، محمد قاوتي، فريد الزاهي، جعفر عاقل، إدريس الخضراوي، محمد الداهي، الزبير بوشتى، رياض الساوري وغيرهم ممن رافقوني في رحلة هذا الكتاب منذ خطواته الأولى، أو في الرحلات المتعددة إلى المغرب التي اقتضاها. فلهم الشكر الخالص والامتنان الدائم، على أنني أتحمل وحدي مسؤولية ما كتبت.
(الكتاب الصادر حديثاً عن المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، 2022)