يمكن القول، ابتداء من العربية، كما من التجربة الإنسانية، إن اللذة تصحُّ، وتخصُّ، الحواس : في لسان الذوق والكلام، في السماع الذي يشنف الآذان، في بهجة العين بما ترى، في تنشق الزهور والعطور، وفي ملامسات الناعم والطري وما شابه... بل أبعد من لذاذات الحواس، إذ تشمل أيضًا إحساسات المرء، سواء اللذيذة أو الكريهة أو الأليمة.
لو طلبَ الدارس الانتقال إلى الإبداع، وأنواعه، لوجد أن اللذة مصدر لها، ومنتهى لها؛ أي أن المبدع يطلب إشباع لذته، بإنتاجِ، أو بإنشاءِ، ما يلذُّه، ويطلب إشراك الغير به، بين التواصل والوصل. هذا يعني، في تمييز أول، وجوب التمييز بين المعطى الملموس، الحسي، لما هو لذة، وبين الطلب على التذاذ آخر، ينطلق من المحسوس، من التجربة، لكنه يشبكها مع الثقافي والجمالي، أي إبداعات الإنسان، والفنان حصرًا. وهو الربط بين الحسي والجمالي الذي يقع في أساس النظرية الجمالية ابتداء من بومغارتن.
إلا أن هذا يستقيم معنى وصحة مع تمييز آخر، وهو أن الالتذاذ بالحواس يصيب الملتذ بما يَطيب لحاسته، فيما الالتذاذ بأنواع الإبداع يَحصل من جهتين، لا من جهة واحدة : من جهة الملتذ لنفسه، اذا جاز القول، ومن جهة الملتذ لغيره. وهو ما يتوزع في أنواع الإبداع، وفق تصنيفات اختلف فيها الفلاسفة وعلماء الجمال : بين من يربط بعض الفنون بالكلام، وبعضها الآخر بالمكان (ما يمكن اختصاره في فنون الفرجة)، وغيرها.
إلا أن ما تشترك به هذه الأنواع -على اختلافاتها- يلتقي في ما تنبه له بومغارتن (وغيره بعده)، وهو: الانفعال. أو يلتقي في ما جعله جيرار جينيت يتعين في "ما يثير انتباهنا" (أي "الحار" من عالي التعبيرات الجمالية)، أو في "ما ننتبه إليه" (أي "البارد" من تعابير تواصلنا الجمالي). وهو ما يمكن توزيعه -ببساطة- بين "طرب" الغناء وبين الابتهاج في قراءة كتاب؛ أو توزيعه في أكثر من مدار.
لهذا قد يكون مناسبا، في درس شاغل المؤتمر، التفكير في الإشكاليات المتولدة منه : بين فنون الاداء والفرجة وفنون الكلام، وبين الالتذاذ الحسي والالتذاذ العقلي. هذا ما يتمايز، في شغل المبدع، بين صنعه والتذاذه لذاته، مثل الغناء الملتبس للمؤدي بين سماعه لصوته، والتذاذه به، وهو ينشد. إلا أن للذة منقلبها، أي ما يبعث مشاعر الكراهية والنفور والألم. فـ"اللذة نقيض الألم"، حسب ابن منظور نقلًا عن سابقيه، فيما يتحدث الفراهيدي، في "كتاب العين"، عن أن "الطرب" هو "ذهاب الحزن".
الإبداع... الجامع
لم أتردد، منذ توجيه الدعوة إليَّ قبل ما يقرب من العام، في الموافقة عليها وتلبيتها، بعد أن وجدتُ في الدعوة ما يُبهج في هذه الأيام البائسة والكالحة التي نعيشها موحدين في العالم، في الفقدان والألم. كما لم أتردد لأسباب بحثية خالصة، وهي أن البحث العلمي، خصوصًا العربي، قلما اقتربَ من "شيء الرغبة الغامض"، حسب عنوان أحد أفلام لوي بونويل. وهو ليس بغامض، إلا لأنه موضع نزاع : في القانون، في الفقه، في النظرية، لقليلِ انصرافِ العلوم والمقاربات في درسه؛ وهو ما يحتاج –مؤكدًا- إلى مناهج مناسبة، وهي متعددة، مما لم يألفها درسُ الأدب، من جهة، ودرسُ الفن، من جهة ثانية.
اللافت، في موضوع المؤتمر، هو أنه يتحدث عن "الإبداع"، فيستجمع ما كان قد انقسم، عمومًا في التداول، بين الشعري والفني (التشكيلي ضمنًا). وهو ما استجاب له المشاركون ابتداء مما ترسمه عناوين مشاركاتهم الكتابية من خرائط وحدود وعلامات.
هكذا تجري العناية البحثية بالقصيدة واللوحة والصورة "الثابتة" (الفوتوغرافية) و"الممتدة" (السينمائية) وغيرها.
هذا الجمع مستجد، كان قد أُسقط من منظومة الفنون إثر حلول منظومة "الفنون التشكيلية" (ثم "الفنون البصرية") محل "الفنون الجميلة" (التي كانت تجمع الشعر مع الصورة في نظام جمالي واحد). هذا ما سرى في الخطاب عن الفن (بين الجمالية وفلسفة الفن) حيث باتت القصيدة مُسقطة من هذا الخطاب، بعد أن كان درس القصيدة في العصور البعيدة يستقر وحده في علياء الجماليات.
هذا الرواح والمجيء (مثل رقّاص الساعة الحائطية) استجاب لصراع القيمة في التداول الاجتماعي، فيما كان الخطاب الدارس يستجيب لذلك أحيانًا، أو يغفل عن مبررات قيامه ودوره أحيانًا أخرى. لذلك يمكن القول إن لحظة المؤتمر لحظة مباركة، إذ تجمع ما كان يتفرق من دون سبب موجب في الخطاب؛ بل تخص لحظةُ المؤتمر جانبَ اللذة ومداراتها بأشغالها البحثية، ما يعد جديدًا –وفيه شيء من الجرأة- في السياق العربي، سواء البحثي أو الاجتماعي.
تحيةً لهذا التوجه، رغبتُ في التوقف عند لحظة سابقة، قلما يجري الانتباه إليها، وهي العلاقات التفاعلية النشطة والخصبة بين الصورة الفنية في تجلياتها الانطباعية وبين القصيدة بالنثر في تجليات الشعر الحديث منذ مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهو جمعٌ يُظهر بأن محركات الالتذاذ لدى مبدعين ومبدعين تبدلت، وباتت تُصاغ وفق مسببات أخرى، لم تعد تعنى بالحواس مباشرة، بل بالتذاذات عقلية وثقافية، لها ما يحركها في "انفراد" المبدع و"تفرده" عن الجماعة، وعصيانه على القانون، الاجتماعي كما الجمالي.
خلخلة إبداعية
هكذا لا يمكن الحديث عن "اختصاصات" مختلفة، خاصة، بكل نوع إبداعي، بل يمكن الكلام عن تباعد تنافسي بين فنون القول والكتابة وبين فنون الصورة (وأبعد منهما). ذلك أن ما جرى لم يتعين في الخطاب، بل في تداول المجتمع والنخب فيه (ولا سيما المتمكنة من قيمة الفن المادية والاستثمارية). وهو ما ينساق إليه الدرس من دون انتباه، من دون فحص، من دون التأكد من صحة الأرضية التي يقف عليها. وهو ما أسعى إلى تلافيه في هذا المقال.
ذلك أنني تبينت، في درسي، سواء في نطاق الشعر أو في نطاق الصورة، من أن حوارًا ثريًا جرى منذ مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بين القصيدة بالنثر (التي تولدت كنوع شعري في تلك الفترة)، وبين المدرسة الانطباعية (التي تولدت، هي الاخرى، في الفترة ذاتها) : هذا ما يجتمع في اجتماع الصداقة والتفاعل الخصب بين شارل بودلير وإدوار مانيه.
وهذا التعالق بينهما، وأبعد منهما، لا يتعين في "انفتاح" خلاق بين نوعين إبداعيين متباعدَين وجديدَين، وإنما يُعبر عما هو أبعد وأعمق من ذلك بكثير : خروج المبدع على قواعد الإبداع الناظمة له، وهو خروج متساوق مع بروز "فردانية" متمايزة عن الجموع بدورها، وقبل ذلك. نقاد وكتاب سيرة يتندرون في كون فيكتور هيغو وقع في غرام خادمته، على الرغم من مكانته "الرسمية"؛ ويتفكهون أكثر في كون شارل بودلير وقع في غرام "سمراء"، بل زنجية؛ أو يستفيضون في الكلام عن "عادات" الشعراء "الملعونين" (في القرن نفسه، التاسع عشر، وفي المدينة نفسها، باريس) في شرب الخمرة (بل المسكرات الشديدة)، وفي تدخين حشيشة الكيف وغيرها... وهو ما تجلى، في الدرس، في الحديث عما يمكن تسميته بـ"أدب الصعلكة" والتشرد (لا سيما مع بول فرلين ورامبو)... إلا أن هذا كله (وغيره من مفارقات العيش والحياة عند هؤلاء وغيرهم) لا يُخفي كونهم يَطلبون "الفضيحة" كإعلان صارخ عن تعرضهم الوجاهي لنظام الجمالية المتعين في قواعد خاصة بكل نوع إبداعي، ولنظام الحياة البورجوازية نفسها، في خبثها وتسترها الأخلاقيين.
وهذا التعرض (المزدوج) لا يعدو كونه الخروج من "القطيع"، ومن سلوكياته وقيمه المتسلطة عليهم، صوب "فردانية" تطلب التأكد من إبداعيتها، من عيشها الحر، في... مدارات اللذة. ذلك أن ما يحرك دوافع مثل مأمولات هؤلاء "الملعونين" يصدر عن نزوعات الرغبة فيهم، وتلبيةً لها، ولو بكلفة باهظة من قبل قضاة البلاغة وقساوسة الأخلاق، عندما يُبعدونهم عن عرضِ "عاريةٍ" (كما مع مانيه) في لوحته الشهيرة : "أولمبيا" (1863)، أو في لوحته الأخرى، "غذاء على العشب" (1863)، التي مُنعت من العرض بعد تعليقها... هذه الخلخلة الإبداعية-الاجتماعية لم يَسلم منها الشعر، ولا التصوير، ولا العلاقات بينهما. في إمكان الدارس أن يتوقف أمام "الحَمِيّة" التي تتحكم بهذا الحراك الثقافي الفرنسي : يبدو ما يفعله عدد من الفنانين في العالم 1863 إعلانًا لأكثر من انفصال ولأكثر من استقلال. ففي تلك السنة، رفضتْ الجهة المشرفة على "الصالون" الدوري للعروض التشكيلية –وهو يُمثل "السوق" الأساس للفن– عددًا من أعمال الفنانين، ما جعل السلطات الرسمية تنصاع وتطلق صالونًا آخر، "صالون المرفوضين" : انفصالٌ عن سلطة الفن الرسمية، إنشاءُ دورة أخرى للفن، واستصدارُ شرعية جديدة ومنافسة، والظهورُ العلني لفن جديد : "الانطباعية".
باتت العين تكتب
ما لا يَظهر كفاية هو أن ظهور القصيدة بالنثر، منذ صيغتها الأولى مع ألويسيوس برتران (1807-1841)، الفرنسي، أظهر عينًا للقصيدة (لو جاز القول)؛ وتغتذي هذه العين من "فنون"، وتعول عليها، مثل : المحفورة، واللوحة، والصورة الفوتوغرافية، قبل اللقطة السينمائية.
هذا ما نجده منذ عناوين مجموعات شعرية فرنسية أولى : برتران يصف قصائده بأنها شبيهة بفن المصوِّر رامبرانت (Rembrandt)؛ ورامبو يتحدث عن "إشراقات"، بوصفها أعمالًا فنية (حسب تفسير بول فرلين لها)؛ وفيكتور سيغلان (Victor Sgalen) عن "تصاوير"؛ وبول إيلوار (Paul Eluard) عما "يُعطى للنظر"؛ فيما أطلق فيليب سوبو (Philippe Soupault)، في العام 1915، على إحدى قصائده، اسم : "قصيدة سينمائية".
هذا ما تتبعتْه الدارسة رينيه رييس هوبير (Renée Riese Hubert) بالدرس، في مقال : "تقنية التصوير في القصيدة بالنثر" ، واستبينتْ فيه علاقات تأثرٍ باديةٍ، في قصائد برتران وبودلير ورامبو، بالتصوير، وبالمحفورة، وبغير فنان تشكيلي. هذا ما يَظهر، في عدد من عناوين قصائدهم، أو في محاكاة قصائد (أو في تذكرها) لمحفورات ولوحات، أو في بناء القصيدة بما يرسم لوحة أو مشهدًا... هكذا أقام بعض الدارسين جمعًا بين قصائد لبودلير وبين التصوير، خصوصًا عند صديقه المصور مانيه (Manet). وهو ما يصحُّ كذلك في قصائد عديدة لرامبو، أو في معجمه الشعري الشديد الإحالة على التصوير (لوحة، صورة، تصوير، أن تشاهد، أن ترى...). بل يمكن القول إن العين باتت عامل البناء في القصيدة بالنثر، لا اللسان. هكذا يبني الشاعر قصيدته وفق ما يلتقطه إدراكيًا، بصريَّا، ونفسيَّا... وما تصفه القصيدة يكون حفظًا لرؤية العين، أو تخيلًا حلميًّا؛ وما تنتقل القصيدة فيه، في أخباره وأمكنته و"قضاياه"، توفره العين المعايِنة أو المتخيِّلة أو الجامعة.
باتت العين، منذ برتران، أداة الإدراك كما التصور الشعريين؛ وباتت كذلك بعد أن خرج الشاعر من الشعرية السابقة، من المسبقات، صوب تشكلات مغايرة، فلم يعد هناك "نموذج" للقصيدة (بناءً ووزنًا وأشكالًا وموضوعاتٍ وأنماطَ تعبير). وما كانت حدودًا بين الشعر والنثر عُمل على إسقاطها، وعلى فتح فضاءات بينها : محتملة، وغير منمذجة بالضرورة. كلها باتت في عهدة الشاعر، يتصرف بها، ويقترح لها صيغًا وانبناءات وتجليات.
باتت القصيدة فضاء، ولم تعد بناء يُبنى مثل مداميك معمارية واحدًا تلو الآخر. العين باتت الأداة، ما تبدأ به وتحيط به في إحاطةّ قد تنتهي من حيث بدأت، أو تبدأ لتغور، أو لا تدرك نهايتها... لهذا كانت المعاينة وليدتَها : المعاينة البصرية، والمعاينة التخييلية.
باتت العين تكتب ما ترى أو تتخيل : هذا ما احتاجَ منها الخروجَ إلى شارع، أو الجلوس في مقهى، أو التوحد في غرفة؛ وهو ما رسم للشاعر صورة "المشّاء"، في تعريفات بودلير أو رامبو : هي صورة "الفنان الحديث" لدى بودلير؛ وهو ما اختصرَه رامبو (بكثافته الاعتيادية) في جملته المقتضَبة : "لستُ سوى مشَّاء". هذا ما جعل القصيدة "لقطة"، أو "لمسة تصويرية"، حتى في تهويمات التخيل والكوابيس...
الصورة حيوية، حركية، مما يتحصل في المعاينة، كالتي يحصِّلها الفنان التشكيلي إذ يخرج من المحترف، إلى الطبيعة، إلى المناظر، لكي يعاين وقوعاتِ الضوء المختلفة عليها، أو "تمايلاتها" الشكلية. وفي ذلك تُناسبُ الصورةُ الشعرية ما كان قد تعيَّن، في أكثر من فن آخر (بما فيه الرواية)، في ما "هو قابل للتصديق" (vraisemblable). إلا أن هناك صورة أخرى تتأتى مما لم يًحدث، مما لا يمكن توقعُه أو تصديقه؛ صورة متخيلة، بل غرائبية، شبيهة بلوحة لسلفادور دالي : تتعرف على أجزاء اللوحة أو مفرداتها (جانب من حصان، أو ساعة وغيرها)، إلا أن اجتماع بعضها مع البعض الآخر، في بناء فني واحد، ليس معهودًا، وليس قابلًا للتصديق، بالمعنى الجمالي القديم. بل بات ممكن التصديق وفق المعنى الجمالي المستحدَث، أي الجمالية الغرائبية، أي "ما فوق الواقعية" (لو طلبتُ ترجمة حرفية لمعنى : "السوريالية").
المعاينة أو التخيل
هذا ما يُقرن المعاينة بالخيال، بل باتت لهذا الأخير "حياته"، إذا جاز القول، أي ما يَطلبه في الرؤى والتصورات، أو في الكوابيس والمشوَّه والغريب. ومن يطلب التدقيق في سطوة الخيال هذه، فسيجدها عند الرومنسيين بطبيعة الحال، بل في "رائدهم"، جان-جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau)، حسب بعض الدارسين الفرنسيين، ولا سيما في كتابه الذي يتحدث فيه عن "حُلُميات"، أي عما يتصوره ويتخيله في اليقظة ("حلميات متنزه منفرد") ، فيما يتحدث بودلير عن "الحلم"، منذ "مقدمة" كتابه "سويداء باريس"، بخصوص ولادة القصيدة بالنثر. واللافت، ابتداءً من عنوان كتاب روسو، هو جمعُه بين "الحُّلُميات"، وبين "المتنزه" و"المنفرد"... ولو شاء الدارس استكمالَ هذا التتبع، لانتبهَ إلى أن من كان "متنزِهًا"، في زمن روسو، في حدائق البلاطات والقصور (في القرن الثامن عشر)، بات "مشّاء" مع بودلير في المدينة، و"بوهيميًّا" مع رامبو بين باريس ولندن وفي صحراء أفريقيا الشرقية. أما "المنفرد"، فيتحقق الدارس من حضوره، منذ بودلير و"سويدائه" في عزلته، مرورًا بمحمد الماغوط و"غربته" (في "غرفة بملايين الجدران"، في كتابه الشعري)، وصولًا إلى أنسي الحاج وانفراده بنفسه.
ما قيل في شعريةٍ ذات أسباب جمالية، يمكن التوسع فيه، بل التحقق منه في صورة مزيدة بالعودة إلى مصادر الجمالية وتغيراتها منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فإذا كانت الجمالية، مع عمانوئيل كَنتْ، تجمع بين الجمال الطبيعي والجمالي الصناعي، وبين تنظيم الحديقة وتذوقِ ثمار البحر وبين اللوحة والتمثال، على سبيل المثال، فإن الجمالية لن تلبث، مع هيغل (Hegel)، أن تُسقط كل تمثُّلات الجمال الطبيعي، لصالح الجمال الفني والمصنوع وحده. هذا ما كان قد ظهر قبل ذلك، منذ منتصف القرن الثامن عشر، في "منظومة الفنون الجميلة"، التي "أسقطت" فنونًا (مثل الجدل والخطابة)، و"أبقتْ" على غيرها، و"أضافت" إليها، ما جعل "الفنون الجميلة" تتعين في : الرسم، والتصوير، والنحت، والعمارة، والموسيقى، والشعر، والمسرح، والرقص. وقد عنتْ هذه المنظومة الجديدة، بعيدًا عن فنونها، إعلاء أكيدًا لفن الصورة؛ هذا ما سيتبلور بقوة أشد، بعد ذلك، في منظومة "الفنون التشكيلية"، التي أبقتْ على الفنون ذات الصلة بالرسم وحده (النحت، التصوير، والعمارة)، ما عنى إعلاءً متعاظمًا للفنون البصرية .
يتحقق الدارس، في هذا التتبع السريع والمقتضب، من أن العلاقة باتت مطلوبة بصورة أقوى، وأعلى دلالة وقيمة كذلك، بين العين والصورة. هذا ما يمكن تتبعُه، منذ "لحظوية العين" عند ديدرو (Diderot)، في "متابعاته" للعروض التشكيلية ، إذ باتت تُعلي مما تلتقطه العين وتتذوقه في ما بات ماثلًا لها في اللوحة وغيرها. هذا ما يبلغ التقاءً فائقَ التعيين والتبلور عند بودلير، إذ وجد تعريف الحداثة "الأول" (عالميًّا) في صورة المصور الحديث. يتحدث بودلير عن "الحداثة" في مقالَين : "صالون 1859" (للفنون التشكيلية)، و"مصور الحياة الحديثة" . يفتتح فقرة خاصة، في المقال الثاني منهما، بعنوان : "الحداثة"، ويكتب : "هكذا يمضي، يجري ويبحث. عمَّ يبحث ؟ من المؤكد أن هذا الرجل، الذي رسمتُه، هذا المنعزل المتمتع بمخيلة نشيطة (التشديد من الدارس)، المسافر أبدًا في صحراء البشر الكبرى، يهدف إلى عمل أسمى مما يقوم به المتنزه العادي، (يهدف) إلى عمل أكثر عمومية، هو غير البهجة الظرْفية العابرة. إنه يبحث عن هذا الشيء الذي أرجو السماح لنا بأن نسميه الحداثة" (م. ن.، ص 694).
بين المنعزِل والجُّموع
لقد وجدتُ من المناسب التوقفَ عند مفاهيم أساسية بلورَها بودلير، في "متابعاته" التشكيلية الواسعة، إذ إنها ترسم شبكة مفهومية فاعلة في جمالية القصيدة بالنثر. وقد يكون التعويل على "المخيلة" (كما في التعريف أعلاه)، "ملِكة الملَكات" (حسب عنوان فقرة في هذين المقالَين)، أشد هذه المفاهيم تعيينًا. يستقي بودلير المفهوم من الرومنسية (السابقة عليه، والتي أعلتْ من شأن المخيلة، على حساب الكلاسيكية بتجلياتها المختلفة)، لكنه يتوجه به توجهات جديدة، بل حادة، جعلتْه يُسقط "الاستنساخ"، الذي يقوم عليه التصوير الفوتوغرافي (في تجلياته الأولى)، لصالح المخيلة. فآلة التصوير هذه تقوم بمحاكاة... تقنية، وتجددُ بالتالي "حياة" المحاكاة السابقة، التي قامت عليها الشعرية منذ التفلسف الإغريقي. بل نجد بودلير، في "متابعة" لـ"صالون" العروض التشكيلية، في العام 1845، يسخر من المصورِين التشكيليين، الذين "يصورون بإتقان"، فضلًا عن تمييزه بين المصورِين "الواقعيين" وبين المصورِين "الخياليين"، الذين يستقون فنهم "من روحهم".
ذلك أن بودلير وجد تعارضًا قائمًا بين "حيوية" الحياة، وبين "جمود" قواعد الفن، ما يجعله يبحث عن "الغريب" في جاري الزمن، ما دام "الفن غريباً دومًا"، حسب قوله (م. ن.، ص 578)؛ وهو ما تعمل القواعد "الأكاديمية" على حبسه. يكتب بودلير، في "صالون" العام 1859، كلامًا فائق الدلالة عن التصوير، وما يريده منه، إذ يتخيل، في المقال، حوارًا بين فلاح ألماني وبين مصوِّر، فيطلب الأول من الثاني القيام بتصوير هيئته، ويقول له : "أرجوكَ، لا تنسى، إذ أتأمل في هذا المنظر، (تصويرَ) الدخانِ (المتصاعد) من غليوني، الذي تهددُه الشمس الغاربة. كما أريد منكَ (ألا تنسى) إسماعَ صوت الجرس (...). فمن المهمِّ للغاية أن تصور مناخ الرضا الذي أتمتع به في هذه اللحظة من النهار" ("الأعمال الكاملة"، المجلد الثاني، م. س.، ص 219).
في هذا يتصدر الفنان على القاعدة، منطلقًا من "روحه"، أي من عالمه الذاتي، جامعًا بالتالي بين العالم والذات : "ما يكون الفن الخالص حسب التصور الحديث له ؟ هو إيلاد (خلطة) سحرية موحية، تجمع، في الوقت عينه، بين الذات والموضوع، وبين العالم الخارجي على الفنان وبين الفنان بنفسه" (م. ن.، ص 598).
هذا ما يجعل المصوِّر يعمل على استثارة "الإعجاب"، وهو ما توفره أعمالُ المخيلة وسبلُها، حتى وإن أـظهرت صورًا غريبة، أو "وحوشًا" متولدة من مخيلتها. هذا مدعاة لأن تنصرف العين إلى ملاحظة العالم الجاري، لكونه "مَخْزنًا من الصور والعلامات"، أشبه بالطين الذي يعمل الفنان، بمخيلته، على تسويته وصقله وبلورته.
هذا ما يجعل الفنان يعاين، ويبحث، طلبًا لما يثير الإعجاب، ما يجده بودلير في "حكاية" معروفة لإدغار آلان بو (Edgar Alain Poe) : "إنسان الجُّموع" : "خلف زجاج أحد المقاهي، (يجلس) أحد المتعافِين (من مرض)، متأملًا الجموع باغتباط، خالطًا فكره بالأفكار التي تنشط حوله (...). أخيرًا، يندفع وسط الجموع بحثًا عن مجهولٍ أثارَ إعجابه بعد أن لمح هيئته، بطرف العين. هكذا بات الفضول رغبة قاسية لا تُقاوم" (م. ن.، ص 689-690). إلا أن هذا العليل الخارج من المرض لا يعدو كونه "طفلًا"، ما دام أنه يرى إلى العالم بدهشة دائمًا، وهو عالَم "جديد" في كل مرة. لهذا تكون "الجُّموع" ميدانَ عملِ الفنان، مثل "الهواء للعصفور"، و"الماء للسمكة"، ذلك أن رغبة الفنان ومهنته تقومان على "معانقة الجُّموع"، ما يقع في أعمال "التنزه"، و"المعاينة الشغوفة"، لما هو عابر، وهارب، وحركي، ولامتناهٍ : "هكذا يكون خارج بيته، لكنه يشعر بأنه فيه، أينما كان؛ فيرى العالم حوله، وهو في وسطه، مختفيًا فيه" (م. ن.، ص 692).
لهذا لا يجد الدارس غرابة في كون بودلير يتحدث، في إحدى فقرات هذه "المتابعات"، عن "الفن الفلسفي". ففي ما ورد أعلاه وغيره، مما تحفل به كتاباته الواسعة عن الفن، بأنواعه المختلفة، نظرٌ فلسفي جديد إلى الشعر والفنون المختلفة (تصوير، نحت، موسيقى...)، من جهة، وإلى ما يستدعيه من قوى و"ملَكات"، وما يطلبه من "استثارة" عواطف وانفعالات، من جهة ثانية. هذا ما يُبعد منظور بودلير عن الكلاسيكية كما عن الرومنسية، وينقل الفنان من "الطبيعة" إلى "المدينة" (باختصار)، جاعلًا "مثال" الفن لا يتعين في قواعد جَمْعية، "خارجية" ومفروضة، وإنما في احتكام الفنان لذاتيته، التي تستجمع فيها العالم.
انشغالُ بودلير بالفلسفة، يرافقُه انشغال غيره من الشعراء، مزامنيه ولاحقيه خصوصًا، بها. وهو ما يَظهر في علاقات باتت قريبة، متواشجة، بين الشعر والفنون، بل في نوع من "القلْب" الجديد للمنظومة التي كانت تشملها. كثيرون من رواد القصيدة بالنثر الفرنسيين انشغلوا بالفنون (كما سبقت الإشارة في غير موضع)، ما نلقاه في عملية متوازية يمكن إجراؤها بين "صورة" الفنان و"صورة" الشاعر، كما تحققنا منها أعلاه عند بودلير.
يمكن كذلك نقلُ هذا التوازي إلى ما هو أشمل منه، وهو التوقف عند ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (Pierre Bourdieu) بـ"الثورة الرمزية"، ابتداء من الفنان الفرنسي إدوار مانيه (Edouard Manet)، (1832-1883) . فما شرعَ به مانيه يتلاقى (حتى لا أقول : يتوازى) مع ما شرع فيه بودلير نفسه، ما يمكن إثباته في تلاقيات جمالية أكيدة بين الحراكَين، التصويري والشعري. ما شرعَ به مانيه يفتتح مدرسة "الانطباعية"، بما تعنيه من دلالات قوية وجديدة، يمكن اختصارها في المعادلة الجديدة : لم تعد اللوحة موضعَ الاهتمام، وإنما بات الفنان نفسه؛ وهو ما ساقَه أكثر من دارس، وأكد عليه، وفق كتاب بورديو (م. ن.، ص 123).
إلا أن النقلة الجديدة قامت، قبل هذا، على انتقال بين صنعٍ وصنعٍ في اللوحة : بين صنعٍ "تامٍّ" و"منتهٍ" (opus operatum)، وبين صنع "قيد الإتيان" (modus operandi)، وفق التمييز اللاتيني؛ أي بين صنعٍ (قديم) قائم على "تمام" الإنجاز المتعيِّن في قواعد جمْعية، وبين صنع غير منتهٍ، بل جارٍ، في العملية التصويرية، مثلما يمكن التحقق منها في عمل الفنان الانطباعي. هذا الفنان يشرع في تصوير مشهد طبيعي، على سبيل المثال، ولكنه يعالجه شكلًا وألوانًا في عملية متتابعة ومتغيرة.
هذا ما يمحض "التجربة" جانبًا كبيرًا من معانيها ودلالاتها، وهو ما يجعل "التجريب" صفة صنعية ملازمة لهذه القصيدة بالتالي. وتعود "التجربة"، في إحدى دلالاتها، إلى "العيش"، من جهة، وتحيل كذلك على "الحضور"، من جهة ثانية. هذا ما يقود "التجربة" صوب الحياة نفسها، إلى ما يقوى الكائن على فعله، على معايشته، ابتداء من مطالب أو مقتضيات يتقيد بها، أو لا ينصاع إليها. هذا ما يسمح له بالمغايرة، بالمخالفة، عما هو سارٍ ومتبع... أي أن للتجربة منظورًا يناهض بالضرورة "التقليد" و"العادة" و"التوافق" و"الاتباع" وغيرها : التجربة بوصفها ميدان الالتذاذ ومنشط اللذة. هذا ما يمكن للدرس تناوله في العمل الإبداعي، حيث إن أكثر من سمة باتت تعين الفنون البصرية بوصفها تسمح بـ"بتجريبات" و"تجريبية" وغيرها من مشتقات الفعل كما المفهوم نفسه. فالحديث عن "تجربة" يستدعي حكمًا الحديث عن "فردانية"، سواء في "تذوق" العمل الإبداعي، أو في صنعه.
ما يعنينا، في هذا المجال، هو النظر إلى القصيدة بوصفها "صنعًا"، أي رهن "التجربة". هذا ما يمكن قوله في كلِّ قصيدة؛ هذا ما نعرفه عن "معاناة" الشعراء في صنيعهم، وعن "الأوقات" التي تناسبهم أو لا تناسبهم في قرض الشعر (ما تحفل به أخبار الشعراء، ولا سيما في كتاب "العمدة" للقيرواني).
هذا ما يجعل الفنان "قوَّامًا" على صنعه بالتالي، لا "النظام" (الأكاديمي، النقدي...)، الحارس والراعي لـ"مثال" الفن وشرعيته. وهو ما بادر إليه مانيه، وغيره من بعده، من "خروج" على الطاعة، على "النظام"، إذ تمنعَ غير واحد منهم من المشاركة في "الصالون" (صالون العروض التشكيلية الدوري)، من الامتثال؛ أي أنهم طلبوا عدم الانصياع بالتالي للسلطة (بأكثر من معنى) : لم يعد "مثال" الفن متعينًا في "مرجع"، وإنما بات قيد التبلور في صيغة مغايرة، تقع أبعد، بل أعلى من شخص الملك نفسه، ومن "القواعد" المرعية الإجراء. ومثلما بدا شعر بودلير "تجديفًا" على جمالية واجتماعية قيمية ساريتَين، بدا عمل مانيه خروجًا على "الأكاديمية" وقواعد التصوير، في السنوات عينها. وما شاع من "مثالٍ" تمثلَ في "البوهيمية"، درجَ في "مناخات" القصيدة واللوحة، في آن، فضلًا عن "طقوس" العيش لدى الشعراء "الملعونين" والفنانين "المنبوذين". وماذا عن القصيدة بالنثر ؟
يقوم بورديو، في كتابه المذكور، بإجراء تلاقيات نافعة ومضيئة بين مانيه وأقرانه، وبين خطاب إميل زولا (Emile Zola) وشارل بودلير وستيفان مَلَّرْمِه (Stéphane Mallarmé) وغيرهم، من دون أن يجري هذه التلاقيات بين هذه المدونة وبين قصيدة النثر. ولقد بان لنا، أعلاه، وفي ما جرى تحليله سابقًا، أن مثل هذه التلاقيات أكيدة، وخصبة .
المثال جديد، على أن القصيدة أصبحت بتصرف الشاعر، ورهن التجربة؛ وإذ تخرج القصيدة إلى العالم لا تلبث أن تستعيده، ولكن وفق نظر الشاعر. باتت للقصيدة، بالتالي، مرتكزات ومفاهيم أخرى تحتكم إليها، ما ينطلق من المعاينة "الباردة"، أو الحيوية، أو المتخيلة، مما يمكن تصديقه، ومما يخرج على المعتاد والمألوف. لهذا تحدث بودلير، بعد جان-جاك روسو، عن "الحُّلمية"، أي عن إعمال المخيلة وأعمالها في اليقظة، ما يستدعي "الخارجَ" إلى "خشبة" الداخل. هذا ما يتمثل في : الغريب، والفنتازي، والطريف، مما يستثير الإعجاب، "بعينَي الطفل"، اللتين للشاعر (حسب بودلير). هذا ما يلتقطه الشاعر، عبر المعاينة، أو التذكر، في مشهد، أو "لقطة"؛ أي ما يجعل القصيدة مقتطعة من جارٍ ممتد، ما دام الشاعر يماشي "هواء الزمن" (حسب مَلَّرْمِه).
إنه "المتفرج بامتياز"، حسب عبارة الشاعر بول فارلين، على أنه يريد "أن يرى بعينٍ هي غير التي للجميع". هكذا يكون للقصيدة عين، قبل اللسان، بما يتيح النظر إلى العالم، إلى الأشياء، إلى الطبيعة، إلى الجريدة، إلى وراء هذه وغيرها، حيث بات للشعر مبتغى آخر، فلا يخدم غيره، أو "يوظفه" له، وإنما يخدم الشاعر نفسه قبل أي كائن آخر، وقبل أي "قضية" أو وظيفة. يكون الشاعر، في ذلك، فردًا، بل "فردًا فرديًّا" (حسب بودلير)، خفيفَ الصلات والتوسطات مع خارجه الاجتماعي؛ فهو ليس لسانًا لغيره، لأداء خدمة، أو لإبراز إجادةٍ، أو لمنافسةٍ مع مرجع أو مع جمالية جمعية. لهذا هو هامشي، أو مقطوع الصلة، أو "غريب"، أو منبوذ... : يخرج إلى الشارع، أو ينصرف إلى غرفته، من دون أن يتواجد في أمكنة اجتماعية غير التي تتعين في "مارَّة"، أو في "جموع".
خيال أبي القاسم الشابي
من يَعُدْ إلى "مسامرة" أبي القاسم الشابي (1929)، التي ارتقت إلى كتاب، "الخيال الشعري عند العرب" ، يتبين سعةَ التغير الذي يتمثل في مواقف للشاعر، من دون أن يفارق وزنية القصيدة. فما كتبَه الشابي من شعر عروضي، هو مثل خليل مطران وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومعروف الرصافي وغيرهم، أو ما عبَّرَ عنه هؤلاء من مواقف في الشعر والقصيدة، بلغَ مقادير من التمثل الجمالي –الجديد، والمختلف عَمّا كان عليه في القصيدة القديمة. ولعل مسألة الخيال، والصورة، هي من أشد المسائل إلحاحًا وظهورًا في القصيدة المتأخرة.
إلا أن الشابي، في محاضرته، يتحدث عن الخيال لكنه يقصد غيره، وأبعد منه. فالخيال ضروري للإنسان، حسب الشاعر التونسي، مثل النور والهواء والماء والسماء، ولروحه وقلبه وعقله، عدا أنه تولَّد في النفس الإنسانية بدافعِ الرغبة والغريزة الكامنة وراء الميول والرغبات. هكذا يكون الخيال مِمّا يلازم الإنسان، منذ العهود القديمة، "وهو حيٌّ خالدٌ، لا ولن يمكن أن يزول" (م. ن.، ص 11). كما يُقرن الشابي الخيالَ بالمجاز، ويقسمُه إلى قسمَين : قسمٌ يتخذُه الإنسان ليتفهمَ به مظاهر الكون وتعابير الحياة؛ وقسمٌ ثانٍ لإظهار ما في نفسه من معنى لا يُفصح عنه الكلامُ المألوف. ويتحقق الدارس من أن الشابي يجمعُ الخيال بتحسس الجمال وتذوقه، وهو ما لا يجده بالضرورة في البيئة العربية التي كانت تفتقر في الغالب إلى مقومات الجمال الطبيعي، ولا سيما في العصرَين الجاهلي والأموي، فيما يجد هذا الجمال متوافرًا في البيئة العباسية ثم الأندلسية. هكذا يقترن الخيال بالجمال، أي بالإحساس به، ما يولِّدُ تباينًا في المفهوم لدى الشابي. فتَحَسُّسُ الجمال مختلف عن الاحتياج إلى الخيال أو جماله، عدا أنه يقوم (وفق الشابي) تبعًا لجمال الوسط الطبيعي، ولحصول التَّرَف (في بغداد العباسية).
يحيد الشابي عن الخيال، ليتناول جوانب مختلفة من القصيدة، التي يرتئيها، سواء في الشعر العباسي أو في الشعر الأوروبي، ما يتعين في جمال الاستعارة، وقوة المجاز، وجمال المنظر، وقوة التعبير وغيرها. والشابي، في هذا، يتناول بالعرض والنقد أوجهًا مختلفة من مقومات القصيدة العربية. والباعث إلى كلامه، هو كيفية تعامل هذه القصيدة مع الطبيعة، في واقع الأمر، ومع المرأة، وضعفُ هذه القصيدة في التعبير عن المشاعر، ما يعني أنها قصيدة ذات "إحساسٍ قاصرٍ وخيالٍ محدودٍ" (م. ن.، ص 58). بل يعني، إجمالًا، أن الأدب العربي "أدبٌ مادي، لا سموَّ فيه، ولا إلهام، ولا تشوف إلى المستقبل، ولا نظر إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق" (م. ن.، ص 67).
تتعدى مواقف الشابي، إذًا، مسألة الخيال، وتشير إلى أوجه مختلفة في القصيدة، ما يرسم ذلك الفضاء الجديد لها، بعيدًا عن مسألة صنفها. فما كان يطلبُه الشابي، يقع أبعد من مسألة بلاغية، ويتناول "روح" الشعر، إذا جاز القول. إلا أن البحث يحتاج إلى التوقف عند الخيال، وإلى دخوله على بلاغة القصيدة، وإلى ما يمثله هذا الدخول من اختلال في بناء الشعرية العربية القديمة.
لم يتوقف الشابي عند بلاغية الخيال، ولو عاد إليه، لكان تنبه إلى أن البلاغة العربية خلوٌ منه؛ ولو تفقّدَ معانيه ودلالاته القديمة، لوجد أن الخيال يوازي : السَّراب. وهذا يعني أن للخيال ظهورًا يقترب من الظن، والوهم، أي خلاف ما تطلبه البلاغة و"العمود" وعياراته من صحة المعنى، ومِمّا يتحكم به العقل والفهم. إلا أن أوسع تعريفات "الخيال" و"المخيل" و"المخيلة"، في المدونة القديمة، يرد عند ابن سينا، لكنه يستبعد صلته بالنثر، بل يربطه بالشعر وحده، الذي هو "كلام مخيَّل".
طبعًا، يحتاج البحثُ إلى التدقيق في الخيال، في الخطاب الشعري والنقدي العربي، كما يحتاج إلى التوقف عند تجلياته في القصيدة العربية المتأخرة، ومنها القصيدة بالنثر. هذا ما يتحقق الدارس من حدوثاته البيّنة في هذه القصيدة : بات المعنى يتقدم، ويتنامى، ويتشعب، ليس بقدرةٍ عقليةٍ أو تعليليةٍ أو منطقيةٍ أو تتابعيةٍ، وإنما بقدرةِ المزجِ والتنقلِ السريعِ التي يُتيحها التعويل على الخيال. فالخيال أكثرُ من أداة بلاغية، أو رمزٍ، أو أسطورةٍ، إذ إن هذه تبقى مقيدة بمعنى من المعاني، وضابطة للمعنى، ولجمالية القصيدة، فيما تتمكن القصيدة، بقوة المخيلة، بقوة هذه الملَكة الشعرية ، من فتحِ فضاءٍ جديدٍ لها : حياة إضافية، مزيدة، لـ"حياة" القصيدة. بهذه القوة التي للخيال، تتزايد جمالية القصيدة، إذ تُفضي بها إلى غير مساراتها المعهودة.
بين القصيدة والصورة
لا يبعد الكلام عن الخيال عن الكلام عن الصورة، على الرغم من تباينهما : الخيالُ أوسعُ من الصورة، بطبيعة الحال، عدا أن الصورةَ قابلةٌ للتضمين في الخيال. أما السؤال عن البلاغة والصورة فبديهي في درس القصيدة بالنثر، وغيرها أيضًا. إذ إنه سؤالٌ ملازم للشعر الحديث عمومًا، وللتنازع بين البلاغة، بوصفها علم القصيدة القديم (وغيرها)، وبين الدرس اللساني الحديث للقصيدة. إلا أن هناك تنازعًا آخر، بين وظيفةِ عدَّةِ البلاغة في تحديد القصيدة وتكييفها، وبين انزياح القصيدة الحديثة صوب عدَّةٍ تحديديةٍ مختلفةٍ، لعل أقواها وأشملها هو: الصورة.
التنازع الأول انتهى إلى أن يتحول العلم القديم (البلاغة) إلى عدة تقنية محدودة، ذات معالجات جزئية وموضعية في درس بعض التراكيب اللغوية، وما يصيبها من تحولات في داخل اللفظ كما في التركيب اللفظي. أما التنازع الثاني فلم يُدرس كفاية في الخطاب النقدي العربي، إلا أنه عرفَ بعض الانتعاشة مع شيوع كتاب جان كوهين عن "بنية اللغة الشعرية" ، الذي جعل من "الانزياح" (L’écart) مبدأ بانيًا للقصيدة. هذا ما وفَّرَ مقاربةً ميسَّرةً لبناء القصيدة المعقد، إذ وجد الكتابُ المعني أن اللغة الشعرية - ولا سيما بالاستعارة - "تزيح" اللغة عن جاري استعمالاتها ومعانيها. بات "الانزياح" يشتمل على الاستعارة، ويتعداها...
إلا أن الانزياح لا يحيطُ تمامًا بمجملِ البناء الشعري، ولا سيما الحديث منه. ففيه من التشكلات ما يتعدى الاستعارة؛ وهو أوسعُ وأعقدُ من هذه العدَّة البلاغية.
فقد ظهر، في القصيدة، ابتداءً من السوريالية خصوصًا، بناءٌ صوريٌّ لافتٌ جديرٌ بالتناول والبحث. هذا ما دعا إليه شعراء، مثل بيار ريفردي (Pierre Reverdy)، الذي نظر إلى الصورة (1918) بوصفها تقاربًا بين متباعدَين : "لا يمكن (للصورة) أن تنشأ من التشبيه، بل من التقارب بين واقعَين على قدر من التباعد" . وعنى قولُه هذا –على بساطته– نقضًا للبلاغة القديمة، وخصوصًا لنظرية المحاكاة، الإغريقية القديمة، المتجدِّدة في الحقبة الكلاسيكية، التي جعلت الصورة تقوم وفق مبدأ المماثلة التي هي في أساس المحاكاة. هذا ما وجدَ أيضًا في موقف أندريه بروتون (André Breton)، في "بيان السوريالية"، تعيينًا أشد (وقد أعاد ريفردي نشره في كتابه المذكور) .
ما انتبهتْ إليه هذه المواقفُ النظرية بلغَ بناءَ القصيدة، ولا سيما مع السورياليين، إذ دعت إلى التوليد الصوري المبتكر المخالف لجمالية المحاكاة : توليد صورة (تشكيلية، سينمائية...)، ذات جمالية، من دون أن تكون محاكية. هذا ما يمكن الوقوع عليه، بشكل ميسَّر، في لوحة سلفادور دالي (Selvador Dali)، أو في فيلم لويس بونويل (Louis Bunuel)، وغيرهما... وهو ما يمكن تتبعُه في صدمات الصورة الكتابية والشعرية عند بروتون وتزارا (Tzara) وغيرهما. لهذا لم تعد البلاغة، ولا الاستعارة منها، أداةَ شرحٍ مناسبة لهذه القصيدة، سواء سوريالية أم لا. وهو ما أمكن التحقق من حدوثه في قصائد بالنثر ...
هذا يحتاج إلى مزيد من التحقق والدرس : هناك ما يتعدى الاستعارة (وهي الأكثر قربًا من الصورة)، ما لا يقيم شبهًا، وهو بناءُ صورةٍ ترسم مشهدًا أو تحيط بجوانب منه، أو ترسم وجهًا بملامح تفصيلية أو سريعة؛ أو ترسم وضعيةً سردية وغيرها. إلا أن رسمَ الصورة قد يبلغ مشهدًا صوريًّا من دون تحديدات دقيقة له، أو قد يبلغ لقطة أو منظرًا يُراد منه جمال الصورة (لا واقعيتها)، أو استثارة تأثيرات نفسية وشعورية لدى القارئ.
البلاغة من دون صورة!
إلا أن حال الدراسات العربية صعبة، ما دام أنها اشتغلت في درس القصيدة، من دون الصورة. فلا وجودَ لها، لا في البلاغة، ولا في الدرس : يجب استثناء الجاحظ في هذا المعرض، إذ تكلم عن أن الشعر "ضربٌ من التصوير"... وهو أمرٌ، إن بدا ضعيفَ الحضور في عدد بالغ من الشعر القديم (مِمّا انبنى على التعابير والمشاعر والتفكرات)، فإن الشعر الحديث تعاظمَ فيه حضور الصورة. سأصرفُ قولي على القصيدة العربية الحديثة :
"أيها الكناريُّ المقبلُ من عينَيها".
ما يعني هذا القول لمحمد الماغوط؟
أو حين يكتب السياب :
"عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر".
ما تعني؟ كيف تعني؟
الصورة تحضر أكثر فأكثر في القصيدة الحديثة (وهو أمرٌ قابل للتحقق والدرس في تكونها التاريخي)، لكن سؤالي هو التالي : ألا يستقيمُ البناءُ الشعري من دونها؟ إذا كان الأمر كذلك في قصائد، فإنها واجبة الدرس، بالتالي، بوصفها من عناصر البناء . ولكن كيف تُدرس؟
تُدرس، كأي عنصر في البناء الشعري، ابتداء من لغوية النص. فالصورة تجعلنا نرى، وتجعلنا نحس بها، ولكن بالكلمات. والصورة ليست ما ننقله من "خارجٍ" إلى "داخلٍ"، حتى حين نكتب عن لوحة، أو ابتداءً منها، في قصيدة، فإننا نتلقاها بالكلمات. هذا يعني أنها مع مجمل البناء، من جهة، ومع جوانب في كل مستوى، من جهة ثانية.
ليست الصورة حِلية مزيدة (ما لا يُربك القصيدة إن انتُزعتْ منها)، وليست "ترجمةً" لِما هو واقع خارجها، في هيئة، في مشهد، في وجه. هي تتعين في البناء النحوي، وتُسهم في تشكيل المعنى. كما أن للصورة، في القصيدة، تفاعلات مع عناصر في غير مستوى من القصيدة.
الصورة هي مِمّا نراه ونستعيده، مِمّا نتذكره، مِمّا نتخيله ونؤلفه تأليفًا بيننا وبين أنفسنا. لهذا ترتبط الصورة بقوة الالتقاط لدينا، وما تُحدثه في قدرات التلقي لدينا. هكذا يمكن أن تُشارك مشاركة قوية، فعالة، في بناء القصيدة، في تشكيلها. وهي قد تكون دقيقة، كما في وصف، أو سرد، ولكن بكلمات القصيدة. وقد تكون غير موجودة، أو ممكنة الوجود إلا في كلام، في تشبيك كلامي، من دون أن "نترجمها" في صورة عيانية.
القارئ يتخيل "الكناري"، و"عينَيها"، لكنه لا يتحقق من هذَين عيانيًّا، وإنما يقوى على الجمع بينهما، في جمعٍ حسّي، صُوَري. فالصورة هي ما يَتَعَيَّنُ في قولٍ شعري، يتلابسُ فيه ويتداخلُ العيني (الخارجي)، والمتخيل، واللاواعي. والمخيلة (في الشعر) هي تمكين القارئ من أن يرى أساسًا، لكنه يرى –لتقريب الصورة– مثلما نرى في لوحة سوريالية : تشبيكة غير واقعية، لكنها مغرية للعين، ومشغِّلة للعقل. أو يمكن تقريبها من صورة الحلم كذلك... الصورة تتيح للقارئ أن يرى، من دون أن يكون ما يراه "صورة" بالمعنى التقليدي، أو جزءًا منها. هي فضاء بصري، إذا جاز القول.
هكذا تكون الصورة في قصيدة، في قصائد، من دون غيرها : موجودة في كلام القصيدة، وفي تلقي القارئ والدارس لها. الصورة الفنية، ولا سيما ما بعد الانطباعية، تُحيل إلى بنائها، إلى علاقة بصرية مباشرة. أما الصورة في القصيدة فهي مختلفة، إذ هي مِمّا يُقرأ، مِمّا يُسمع، مِمّا ينبسط بين الكلام وإحالاته المختلفة (في اللغة، كما في "المرجع"). كما أن الصورة، في القصيدة، ليست مِمّا يُقرأ و/أو يُسمع فقط، أو مِمّا يُرى، وإنما تستنفر أيضًا أو تستدعي ملكات أخرى، مثل اللمس أو التذوق وغيرها : أن تقرأ لابن الرومي قصيدته في "العنب الرزّاقي"، فهذا يستدعي فيك، إلى النظر المتوهج في ألقها اللوني والشكلي، شهوةَ لمسِها، وتذوقِها كذلك. أو أن تستعيد قول المرزوقي في أبي تمام، أو الولادة بنت المستكفي، عن التشهي في اللذة المتداخلة، بين القصيدة والحياة...
إلا أن الصورة، التي اتّـكلتْ سابقًا على التوازي والتلاقي بينها وبين ما تحيل إليه خارجها، باتت، مع السوريالية، بناء صُوَريًّا أخّاذًا : بناء يَجمعُ ويضمُّ ما لا يجتمع ويُضمُّ عادة، لا في المرجع ولا في اللغة بالضرورة. والصورة، في أحوال كهذه، لا تعيِّن، لا تصف، بالضرورة، وإنما توحي وتؤشر، ما لا يجتمع خارج القصيدة، بل فيها؛ وهو ما يكون "ضبابَ صورةٍ" أحيانًا، أكثر مما هو ثبوتُ مشهدٍ في إطار محدد. و"تفشي" الصورة في قصيدة قد يؤدي إلى "تشتيت" المعنى و"زوغانه".

 

 

(محاضرة صفاقس، في الجلسة الأولى لمؤتمر "الإبداعي في مدارات اللذة"، الذي نظمه "المعهد العالي لللفنون والحرف" في المدينة التونسية، بالتعاون مع "مخبر السيميائيات وتحليل الخطابات" في كلية الآداب والفنون في جامعة وهران الجزائرية، وجمعيات تونسية اخرى، في 8 و9 و10 من شهر آذار-مارس 2022).