صدرت في بغداد عن "دار الشؤون الثقافية العامة" مختارات شعرية للشاعر اللبناني الدكتور شربل داغر في 392 صفحة بعنوان "يحلو لي أن أعبث بهذا كله". وتأتي هذه المختارات بعد مختارات مترجمة له إلى أكثر من لغة (الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية وغيرها)، وبعد مختارات عربية في أكثر من بلد عربي (مصر، تونس، الجزائر، عمّان).

نقتطف بعض ما جاء في مقدمة المختارات التي حملت عنوان "لو أتاني الفتى الذي كنتُ" حيث تقول "ذلك الفتى الذي كنتُ، لو أتاني، ما أقول له؟ أأعتذرُ عما فعلتُ؟ عما تماديتُ في غيِّه؟ أأقول له إن ما أوقدَه، يخبو نارُه في عيون كثيرين؟ أأقول له إن في الشعر فتنةً، ما عدتُ أسْتَبق شراراتها؟ أأقول له إن الزمن اختلف، وإن التكالم غلبَ الكتابة، وإن الصورة، خصوصًا صورة إظهار الذات وترويجِها، غلبت الشعر والمعنى وغيرهما؟ أأقول له إن كتابة جملة بعربيةٍ سليمة باتت صعبة، فكيف بكتابة جملة شعرية! إذ كيف لهذا أو لتلك أن يطالعا قصيدة حديثة، وهما فقدا الاعتياد على قراءة العربية، وباتا يسمعانها ويدردشان بها ليس إلا! كيف له أن يكتب بها، وهو ينساق وراء كلامٍ يناسب جلسة مقهى أو مكالمة هاتفية في أحسن الأحوال!؟ مع ذلك سأقول للفتى لو جاءَني: إن ما كنا نهجس باللقاء به، ولو في بصيص استعارة أو غمزة عين، اختفى وبتنا نلهو بأي شاشة صغيرة أو كبيرة، مثل نبتة إنكيدو في الخلود. سأقول له –فيما يخصني- إنني أصبحتُ متمسكًا بالقصيدة تمسكًا يكاد أن يكون هوسًا مرضيًّا. فأنا إن بحثتُ عما يشدُّ أعماقي إلى تطلعِ عيوني، فلن أجد جذعًا لقوامي أفضل من الشعر -في نظري لنفسي على الأقل". 

إلى أن يمضي قائلا "سأقول له إنني سأقول بالشعر ما لا أقوى على قوله بأي لغة أو احتمال. فلماذا أَقبل بالشعر طنينًا مثل طبل رتيب أو مثل سطر في دفتر مدرسي!؟ لا، فما يشدُّني إلى الشعر هو أقرب إلى اتساع يدي حيث لا تصل يدي، وإلى حيث لا تبلغ عيني... فهو هذه المتعة التي تجعل الصدر بوسعِ قارَّة، والأصابع تستطيل بفعل امتداد رغبة. فأنا لم أجد في الشعر غير ما هو عليه البرق إذ ينير ما حوله ويمضي. لم أجد فيه غير فجائية حلم ينقضي إن لم ندونه بعد مروره العابر". 

بمناسبة صدور مختاراته الشعرية الجديدة التقينا الشاعر د. داغر فكانت هذه الأسئلة وهذه الرؤى وهذا البوح.

 

ما تعني لك هذه المختارات؟

  • تعني لي الكثير فقد لبيت، في السنوات الأخيرة، طلبات أكثر من دار نشر عربية لنشر مختارات من شعري ووجدتُ في هذه المقترحات حلا مناسبا لمشاكل انتقال الكتاب الشعري في العالم العربي، إلا أن للمختارات العراقية وقعا خاصا، فقد كتبتُ قبل سنوات "مَن لا يصل إلى بغداد، لا يبلغ الشعر"، وما يعنيني قوله في خصوص هذه المختارات هو أن كتابي الشعري الأول "فتات البياض" مُنع في بغداد في العام 1983، وها تُصدر دار نشر مرموقة فيها مختارات لي بعد ما يزيد على أربعين سنة. هذا لم يمنع، مع ذلك، تواصلي وتفاعلي مع شعر كثير من العراقيين، في العراق نفسها وفي المهاجر، كما أن وشائج متينة ربطتني بالكثير من شعرائها، لاسيما في جيلي، وقد تشاركنا في كثير من الهموم والتطلعات.

 

هل تعتقد أن المختارات تمثل صورة مقبولة عن شعرك؟

  • هي منتخبات، مع وقفات لافتة في أكثر من سبع مجموعات من شعري، هذا يَنقل بالضرورة مشهدا فيه مقادير من التتابع والتبدل والتنوع. لا أريد أن أكون ناظراً نقدياً في شعري... ما يمكنني قوله هو إن شاغل التجديد حرَّكَ إقبالي على الشعر منذ مجموعتي الأولى، ولعلي أعبِّرُ فيها، كما كتبتُ في تقديمها، عن رغبة وإقدام على مبادرة القصيدة بالنثر بكيفيات مختلفة: تتصل مع قصيدة الرعيل الأول وتختلف معها، فقد عنت هذه القصيدة لي منذ اشتغالاتي الأولى فيها شعراً ونقداً، الحرية والبناء المختلف في آن معاً. فقد بان في شعر السابقين بين محمد الماغوط وأنسي الحاج، على سبيل المثال، إقبالاً مختلفاً على هذه القصيدة: بين شعر يطلب التعبير الهامشي عما لا يجده في خارجه، ولاسيما السياسي، وبين شعر يتأكد في هواجس الغرفة الحميمة.

 

هل تعتقد أنك بلغت ما تبحث عنه؟

  • أنظر إلى القصيدة، إلى قصيدتي تحديداً، كما لو أنني أدخل إلى غابة لا إلى حديقة ذات مداخل ومخارج ومسالك داخلية بينة، فالدخول إلى غابة يمكن أن يتوافر لك إذا كنت من هواة المشي الحر من أي جهة فيها من دون بواباتها أو مسالكها "المأذونة"، كما أن التنقل فيها يسلك مسالك غير معهودة، فيها من الصدمة والدهشة والتردد كذلك... أقول هذا لأن ما يربطني بالقصيدة هو الإقبال الحر على ممكناتها الخافية عني والتي أتقدم فيها مثل الماشي برفقة ظله وحسب، هذه الحرية – التي يتيحها الشعر وحده، في نظري – أُقبل عليها بدهشة الطفل والتذاذِ الوله واللعب.

 

ما جديدك في المجموعات الشعرية؟

  • صدرت قبل شهور قليلة مجموعتي الشعرية السادسة عشرة "أيتها القصيدة، جِدِيني فيكِ"، وأنا أعمل على مجموعة جديدة تتجه نحو الاكتمال، والانتهاء منها في قادم الشهور، كما أنتظر في الشهور القادمة صدور مختارات شعرية بالفرنسية.

 

وماذا عن جديدك في درس الشعر؟

  • أستعد، في الشهور القليلة المقبلة، لصدور كتابي النقدي في درس القصيدة بالنثر "القصيدة بالنثر: البناء والشرعية"، وطلبتُ في هذا الكتاب الجديد استكمال ما شرعتُ فيه في كتابي النقدي السابق عن هذه القصيدة.

في الكتاب السابق توقفت لدرس السياقات التاريخية والأدبية والجمالية لظهور هذه القصيدة، أما في كتابي الجديد فقد طلبتُ التوقف عند مسألتين أعتبرهما أساسيتين في قبول هذه القصيدة في الثقافة العربية: المسألة الأولى تتناول "صعوبة" درس هذه القصيدة وعدم توافر بناء منهجي لدرسها في جميع أوجه تجلياتها وهو ما توكلتُ به بدرس عدد كبير من شعرائها، مقترحا مقاربة لمستوياتها البنائية والتعبيرية المختلفة. أما المسألة الثانية، فتتناول "شرعية" هذه القصيدة في النظر النقدي العربي، إذ اعترضتْ عليها وعلى شعريتها مواقف واعتقادات.

ولقد طلبتُ لدرس المسألة الثانية عرض معايير بناء هذه القصيدة على المدونة 

(موقع "ميدل إيست أونلاين"، 12-3-2023)