حالُ تعليم الشعر في الجامعات العربية من حال الثقافة العربية بين لغة ومنهج وقابليات تعلم. وهي حال، بل أحوال تتباين بين مجتمع وآخر، إلا أنها لا تُلغي تشاركات أكيدة بينها.
ما يمكن ملاحظته، بداية، هو أن انتشار التعليم، أو ديمقراطيته (كما يُقال)، لا يعني بالضرورة ارتفاع مستوى التعليم أو جودته، لا سيما في تدريس العربية. بل يمكن القول إن أحوال درسها، وهي أحوال تعليمها، تتراجع لصالح مشافهة متعاظمة لا تصيب اللغة لصالح الكلام وحسب، وإنما تصيب أيضا أحوال أساتذة تعليمها بدورهم. فكيف إذا دعتْني جامعة إلى القيام بمهمة فحص أحوال أساتذتها، وتيقنتُ من مراجعة بعض نصوصهم "الداخلية" (قبل رفض المهمة) من أنهم يحتاجون - بكل اسف - إلى إعادة "تأهيل" لغوي قبل المنهجي.
لا أخفي أن ما أقول يتأتى مما عرفتُ وشهدتُ، في أكثر من جامعة عربية، في العقود الثلاثة الأخيرة. وهذا ما أعرفه وشهدته في محاضرات ومؤتمرات أشارك فيها، هنا وهناك، وأتحاور فيها مع طلاب دراسات عليا، واتحقق فيها من ضعف تلقيهم المناهج الحديثة في درس الشعر بشكل خاص : كيف لهؤلاء الطلاب أن يتعقلوا ويتفقهوا في المناهج المناسبة لدرس الشعر، وهم لا يتقنون لغة أجنبية واحدة، ويكتفون بما هو متوافر من الكتب المترجمة، وهي قليلة وضعيفة الترجمة المفهومية !
فكيف إذا التقت، مع هذه الأسباب، عطوب أو نواقص أو تعثرات تصيب المناهج نفسها. فما أنجزتْه المناهج والمقاربات ابتداء من اللسانية الحديثة (من بنيوية وسيميائية وغيرها) توقف، أو لم يجد منفذا متجددا له. وما حلّ محله في الدرس المنهجي تعين خصوصا في "الدراسات الثقافية"، وفي "النقد الثقافي"، وفي تطبيقات وقراءات ضحلة للغاية.
إذا كان منظرو ومفسرو هذا المنهج، في الولايات المتحدة أو في بلدان أوروبية مختلفة، استندوا فيه إلى خزين هائل من الطبقات المعرفية في العلوم الإنسانية المختلفة، فإن هذه الطبقات لا تعدو كونها قشورا بسيطة في الثقافة العربية الحديثة، لا سيما في علم الاجتماع وفي علم النفس وفي علم التاريخ. فكيف لنقدٍ ثقافي ألا يكون - والحال هذه - غير نزوع جديد إلى التفسير الميسر، والتأويل المبسط ! كيف له أن يستقيم، وهو لا يتحصل - واقعا - إلا على "مختصرات" مكتوبة، أو مبثوثة خصوصا، عن أقطاب القضايا والمعاني (الغربة، الهجرة، الذكورية، المدينة وغيرها) ! وما تعوزه هذه المقاربات، أو ما لا تُحسن تدبره، تستقيه من أيسر السبل، وهو الاحتكام إلى الأحكام الذوقية الخاصة بالدارس نفسه، من دون فحص أو غربلة.
هذا الفحص هو أشد ما يفتقده المنهج عموما، إذ لا يستقيم عمله وفق طريقة ارتدادية، إذا جاز القول، أي وفق طريقة تمكن القارئ من نقد المنهج ابتداء من مقدمته نفسها ومن مسلماته الضمنية.
لو طلب القارئ التحقق المزيد مما أتحدث عنه، في درس الشعر، لأمكنه التنبه إلى أن عددا بالغا من مسائل الشعر العربي الحديث لا تزال مفتوحة من دون أي تراكم نقدي ومعرفي، ولو في بعض جوانبها : أيُعقل أننا لا نزال نفتقر إلى تاريخية أكيدة للتجديد في الشعر العربي بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ؟ أيعقل أننا لا نزال نتمسك بتسمية "الشعر الحر"، فيما لهذا الشعر (الذي ظهر في الثقافات الفرنسية والانكليزية والأميركية في القرن التاسع عشر) تعريفات محددة غير التخلي عن تناظرية البيت لصالح السطر، وعن إلزامية القافية، ووحدانية الوزن (مثلما جرى في بعض الشعر العربي في منتصف القرن العشرين)؟ هل يُعقل أننا نُنكر، أو لا ندقق كفاية في ظواهر التجديد العربية، أو في أسباب حدوثها، فنقوم بتنسيبها إلى "سوابق" قديمة في الشعر أو في النثر القديمين ؟ هل يُعقل أننا لم نبنِ، بعد أزيد من سبعين سنة، مقاربة مناسبة في درس القصيدة بالنثر ؟
في الإمكان طرحُ مزيدٍ من الأسئلة، إلا أن الأدهى هو أن كثيرا من الدكاترة الجدد يبتعدون سلفا عن درس الشعر، فيما هو "جامعُ" الدرسِ المنهجي لأي كتابة أدبية. ويلاقيهم في هذا انصرافُ دور النشر العربية، أو تبرمُها الظاهر، من نشر دراسات عن الشعر.
الشعراء يتكاثرون، ولا تخلو الفعاليات الثقافية من أمسيات للشعراء، لا للنقاد. والأفظع في هذا كله هو أن الشعراء أنفسهم يتذمرون ( من علو عليائهم) من سماع ورقة نقدية في الشعر !
(ملف من إعداد : عبد اللطيف الوراري، جريدة "القدس العربي"، لندن، 15-4-2023.