مع عباس ثائر

حين أُنهي حوارًا ما يتلبسني بعده صمتٌ لمدة ليست بالقصيرة، ربما لأن الشاعرَ إذا ما أخذ دور الصحفي وبدأ يحاور مُبدعًا تجده يصبح ثرثارًا إذ إنه يقول كلّ ما يُحظر قوله في القصيدة، ثم يأخذ قسطًا من الصمت، القسط هذا، أنفقُ شيئاً منه أفكر في المُحاوَر لمَ أرهقته، ربما استنزفته؟ لكني قط لم أفكر بذات الأفكار وأنا أحاور الكاتب والمفكر الشاعر المترجم اللبناني شربل داغر، رجل نهر يدفعك لتغترف منه دون أن تسأل هل سينخفض منسوب الماء عنده؟ رجل يدفعك لأن تنتهزه حتى آخر كتبه، هو الآتي من وطى حوب -قضاء البترون- شمال لبنان، يحمل للناس على ما يربو الثمانين كتاب، كتبه فاقت عمره بستةِ أعوام، وهو الكاتب الذي تتسابق مؤلفاته مع سني عمره. بعد الحرب الأهلية في لبنان حمل أرزه ولغته وكتابه الوحيد وسافر لباريس، حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بعد عام من صدور مجموعته الشعرية الأولى فتات البياض في العام 1981 كانت أطروحته الألى حول "الشكل- المضمون في القصيدة العربية الحديثة" ثم لم يكتفِ عاد في العام 1996 ليحصل على الدكتوراه مرة أخرى ولكن هذه المرة حول "الجمالية في العربية" سجلها في باريس لكنه نقلها للجامعة اللبنانية ليتخرج من وطنه. عمل أستاذًا في جامعة البلمند في لبنان، وكان صحفيًا يكتب بالعربية والفرنسية في بيروت وباريس ولندن، سيرته حافلة بإنجازات لا يمكن حصرها بصفحة "وورد بقياس "A4" توسعت في الحوار معه لكني اضطررت أن أجعله بهذا الشكل والحجم لدواع فنية الذي أراه مقتضبًا وإن طال. (شربل داغر "مجموعة أنوات في كاتب واحد"، حسبما وصفَه أحد الكُتاب. فإذا كان الشعرُ شغفَه الأول، "والأبعدَ في بداياته" حسب لفظه، فإنه جمعَ إليه، وإلى كتابة الرواية، الدرسَ المنهجي للأدب -ين شعر ورواية- وللفن الإسلامي، والعربي الحديث -بين فلسفة وتاريخ- واللغة، فضلًا عن التاريخ السياسي المتأخر).

- الشعر والرواية والنقد بنوعيه الأدبي والفني وأدب الرحلات والترجمة وأدب السيرة، هذه المساكن الكثيرة كلّها قد استوطنتها، ودون شك سبغت بالشاعر أكثر من سواها. أيُّهم كان قادرًا على تحملك، وكنت الأقدر عليه؟ وأي المساكن تختار لو أردت أن ترتاح من التنقل بينهم، ولمَ؟

= هذا صحيح. جميل للغاية الحديث عن "المساكن": سأعتمدها من اليوم وصاعدًا. كما راقني، في سؤالك، أنك لا تتساءل عن سبب هذا التنوع.. لعلي توسعت في مساكني، ربما أكثر من غيري. إلا أن هذا التوسع ليس بغريب عند أدباء قدامى أو معاصرين. إلى ذلك، لا يسعني القول إن الشعر هو من قادني إلى هذه المساكن، أو أنني أقمتُ فيها بهوية شعرية مخفية. فبين هذه المساكن حدود معلنة، جرى التصريح بها، مع الإقرار بأن هواء الشعر قد يتسلل من مسكن إلى آخر.. لو كان لي أن أختار بين المساكن لقلت في إجابة تلقائية: إنه مسكن القصيدة، مسكن الكائن. إلا أن جوابي يكمن في مساكن أصبحتُ متيقنًا، مع تقدم العمر، من أنني لن أقوَ على بنائها، ولا على الخطو فيها، فكيف على سكنها. وهي ليست مساكن بينة الحدود والهوية بالتالي، بل هي مساكن هوائية، مما لا يحط في خطة، في أرض، ما دمت أتيقن، مع اتساع المعرفة بالكتابة، بأن هناك ما لا قدرة للكتابة على تصوره، فكيف على التكفل به. لا يغيب عني كوني أعمل مع جملة صانعين آخرين، ما يجمعني ويقيدني بالضرورة بثقافة مشتركة، مهما تحدثت عن اشتغالي الخصوصي فيها. وهذا يعني أن بعض ما لا أجده في كتابة غيري، لن أجده في كتابتي بالضرورة، من دون أن تكون هوية الغائب معروفة، أو ممنوعة الظهور. أقول هذا، لأنني أتحقق أكثر فأكثر من غياب "النفَس النقدي" الذي أعلنَ طه حسين عن الحاجة إليه في البحث. ولأنني أتحقق من نقصان الحاجة إلى العربية الكتابية، ومن القبول المتعاظم بثقافة "ما ورد"، وكما ورد.. لا أريد تعداد المعايب، أو الأعطاب، أو الممنوعات، وإنما أريد التشديد على حاصل هذه العوامل على إمكانات الكتابة، بما فيها عندي. أجمل كتبي هو الناقص، غير الممكن، غير المتاح، وهو ما أتشوق إليه، و.. لن أكتبه.

- اصطلحت على قصيدة النثر "القصيدة بالنثر" وأنك قد جربت واقترحت نماذج لبناء "القصيدة بالنثر" على درجة من الاختلاف مع نماذج أخرى لشعراء قصيدة النثر، أي أنك جددت في قصيدة النثر، وخرجت عن اشتراطات سوزان برنار. ما المعايير الفنية التي اشترطتها لكتابة مثل هذه القصيدة، من أين ابتدأت وكيف انتهيت؟ وهل ترى أن بعد هذا التجديد سيورد تجديد آخر، بعبارة أدق ما القصيدة الآتية بعد القصيدة التي اقترحتها؟

= الظريف هو أن أحد الشعراء كتب عن قصيدتي أنها "قصيدة ما بعد قصيدة النثر"، فأجبتُه ضاحكًا: "وماذا لك أن تقول عمن سيكتب قصيدة بعدي، وتختلف عن قصيدتي؟". هذا الترابط، والانقطاع، باتا صفة لازمة في ظواهر الثقافة والفن والأدب، وهي قد بلغت مؤخرًا نوعًا من التخمة، بل من الانسداد، مثل الكلام عن: "ما بعد بعد الحداثة".. إلا أن هذا يشير، من جهة خفية، إلى أن الثقافة باتت تشترط بصورة مزيدة التجديد في مقوماتها، وما يعني الاشتداد في المنافسة بين المجموعات وبين الأفراد. هذا ما أصابني في شعري. هذا ما تحققتُ منه غير مرة، عندما كنتُ أعدُّ مختارات لشعري، فكنت أراجع كثيرها، وأتنبه إلى تبدلات أكيدة فيها. لن أقدم على تقسيمها إلى "مراحل" أو "أنماط". هذا ليس عملي، ولا يعنيني تمامًا. فهناك خيارات أُقدمُ عليها، في قصيدة، أو في مجموعة، في نوع من الهجس، من الميل، من الإلحاح، الذي يقود التعبير وفق هذه الأشكال البنائية. مثال: خفَّ كثيرًا، في شعري الأخير، نوع القصائد الطويلة، لصالح قصائد قصيرة. مثال آخر : مالت قصائد، في مجموعات مختلفة، إلى بناء معنى لا يتكشف إلا في مقبله، لا في مسبقه، فيما تتعين قصائد متأخرة في أبنية متوازية أو تراكمية بما يحدث الدهشة، المسبوقة، أي التي تم التمهيد لها. مثال أخير: لا يفارقني، منذ شعري الأول، في قسمه الباريسي، الهوس بعالم القصيدة الغامض والشهي، بل أصبحت القصيدة أقرب – بكلام بسيط – إلى "الموضوع" الشعري الأثير في شعري، حتى إن الناقد التونسي د. مصطفى الكيلاني، عندما خصني بكتاب دراسي لشعري، أطلق عليه : "شربل داغر : الرغبة في القصيدة". هذا ما انشغل بدرسه أكثر من دارس، واصطلحوا على تسميته بـ"الخطاب الواصف" للقصيدة. كلامهم هذا يستقي أسانيده من مفاهيم سارية في مناهج اللسانية الحديثة، إلا أن تفسيره، في شعري، يطمح إلى غير ذلك. أن تكون القصيدة "موضوعًا" ملحاحًا، فهذا يعني العودَ، والطرقَ، والعزم، من دون أن أقوى على فتحها. الوقوف أمام باب القصيدة يضعني في علاقة وجودية معها، ومع الوجود نفسه. يضعني أمام ما يمكن أن تتوصل إليه القصيدة، من دون أن تتوصل إليه فلسفة، أو معرفة، أو أحاسيس. واشتهاء القصيدة، بهذا المعنى، هو اشتهاء المابعد، أي الذي لم يكن في سابق، أي المقبل في هيئة، في ملامح، لها قوة البناء وإن في هواء. ولهذا كتبتُ في نهاية كتابي الأخير عنها: "القصيدة بالنثر مشروع للمستقبل".

- قرأتُ مرة، أن الخيال النقدي يخلق نصًا شبحيًا. هل حدث أن تداخل الخيال النقدي بالخيال الشعري، وخرجت بنص أكاديمي يقف على حافة جانب منه نقد والآخر شعر؟ كيف تخرج من دار النقد أثناء الكتابة الشعرية أو العكس كيف تخرج من الشعر عندما تكتب نصًا نقديا؟ أصحيح أن الشعر يمدُ أنفَه في كلّ شيء؟

= في هذا قولٌ كثير، ويحتاج إلى استبيان. يعنيني، بداية، القول إن الخيال ليس من خاصية الشعر وحده، بل هو من خاصية العلم، والبحث أيضًا. يكفي أن نفكر في المغامرات الإنسانية الكبرى: الطيران، "اكتشاف" الكرة الأرضية، غزو الفضاء، الإنسان الآلي، الذكاء الاصطناعي وغيرها، وفي أنها ما كانت، في منطلقها، في عدد من تشكلاتها، سوى صور الخيال وتحققاته المادية. لهذا فإن الأشباح لا تعدو كونها خيالات أجسام تتجه نحو التاريخ. أما عن الشعر والنقد، فالعلاقة طبيعية بينهما، بل أقول : إن الخيال يغذي النقد، مثلما النقد يغذي الخيال. فنحن حين نقرأ، نتخيل، ونعاين، ونصاحب، ونحزن للفراق. ونحن حين نتخيل، نكتب من دون ألفاظ. وهو بعض ما يقع عليه الشاعر والباحث : كل ينظر إلى الآخر، ما دامت عملية البحث تنقب، وتفحص، ما هو غامض ومركب في القصيدة. هذه أحوال طبيعية، من الشراكة اللازمة، من "البصبصة" التلقائية بين أن تكون أمام الكاميرا (وفق استعارة معروفة في عالم السينما)، أي أن تكون الممثل، وبين أن تكون "خلف الكاميرا"، أي أن تكون المقرر في ما للصورة أن تكون عليه، وأن تنتهي إليه. فكيف إذا كان الشاعر، مثل بعض الممثلين، مخرجًا وممثلًا في العمل عينه ! لهذا لا يمكن الحديث عن خروج أو ابتعاد بالضرورة، حتى لو لم يُصدر شعراء وشعراء بحوثاً وكتبًا في نقد الشعر. ففي عمل الشاعر على قصيدته، في "الضبط والربط" (وفق عبارة عربية قديمة)، بعضُ عمل الدارس، إذ يعمل على "تحسين" نصه، على معاينته كتابيًّا وثقافيًا، قبل أي أمر آخر. هذه عمليات طبيعية، تلقائية، مشتركة، ولازمة عند شعراء كثر. هذا ما يصيبني بدوري مع الانتباه إلى الأمر التالي والحاسم : في البحث، أتخير قضايا، إشكاليات، كما أعمل على تدبر منهج ومقاربات لها، ما يعني أن عمل البحث مسبوق، وله مقادير من الضبط، التي تبعده – عندي – عن أن يكون الغرفة الخلفية لشعري. ومن يعد إلى مجموع بحوثي وكتبي في درس الشعر، يتحقق من أنها لا تتناول حقبة موافقة لحقبتي، ولا لشعراء مزامنين لي. فأنا لم أدرس أبدًا القصيدة بالنثر في جيل السبعينيات (مثلما أطلق علي مع غيري في لبنان وخارجه)، إلا في دراسة أو دراستين في الأكثر. يضاف إلى هذا، أنني طلبت "خطة" في درس الشعر العربي الحديث، قامت على مسعى "تحقيبي"، يتحقق من التغيرات البنائية في هذا الشعر، بين "القصيدة العصرية" و"القصيدة المنثورة"، و"القصيدة بالنثر"، بلوغًا إلى "كيان النص"... هذه اشتغالات دارسٍ في الشعرية، ومسندة إلى التعيين التاريخي. مع هذا، لا أتوانى، في شعري، عن أن تكون لي نظرة فاحصة، نقدية بالطبع، إلى ما أكتبه. غير أن هذا التفقد بات محدودًا في شعري الأخير، إذ إنني قلما أعيد النظر فيه، أو أصححه. هذا لا يعني أن قصيدتي كاملة الأوصاف، بل يعني، في ظني، إن مجموعة من العوامل الشعرية كما النقدية، باتت متشابكة في طويتي، ما يشير إلى عيش في الشعر ومعه، إلى ميلانات فيه، سابقة ومحصلة، ومتحققة بالتالي.

- كتابك "القصيدة بالنثر: البناء والشرعية"، حددت فيه مسألتين أساسيتين لقبول القصيدة في الثقافة العربية: الأولى صعوبة دراستها وعدم توافر بناء منهجي لدرسها، والمسألة الثانية شرعية القصيدة في النظر النقدي العربي. الى أي مدى تعيق هذه الصعوبات تقدم القصيدة والنقد الذي يصاحبها؟ هل لنا كعرب أن نجد تأصيلًا تاريخيًا وحضاريًا لها؟ أو جغرافيًا لو تغاضينا عن العربية وعدنا لمن سبقنا في السكن على أراضينا من الأقوام القديمة؟

= تمام. هذا ما توصلتُ إليه قبل مباشرة الكتابة فيه، بل كان الدافع لكتابته. فقد تحققتُ، في ما أقرأ وأعاين، من توافر عدد بالغ من الكتب النقدية في هذه القصيدة، لا سيما في العقدين الأخيرين، ولكن من دون أن تستجيب بالضرورة إلى ضوابط الدرس. فهي، في عدد منها، تباشر الدرس من دون منهج أو مقاربة معلنة، بحيث يقوى الدارس على مساءلتها، وعلى النقاش معها استنادًا إلى ما التزمتْ به. وهي، في عدد منها، تنطلق من مسلمات مضمرة غالبًا، على أنها واجبة ولازمة وصحيحة، من دون أن تضعها على المحك. وهي، في عدد منها، تكتفي بجوانب محدودة في بناء هذه القصيدة، أو في تجلياتها، من دون أـن تلم ببناء القصيدة العام. وهي، في عدد منها، تنطلق من "صفات" أطلقتْها سوزان برنار، من دون أن تراجع هذه "الصفات"، لا فيما قاله النقد الفرنسي وغيره فيها، أو أن تتحقق من مدى سلامة هذا التعيين في قصائد مختلفة ومتخالفة بين بودلير ورامبو ولوتريامون، على سبيل المثال لا الحصر. إن هذه التحققات، التي توصلتُ إليها، دعتني إلى كتابة كتاب ثان في هذه القصيدة، على أن أتوكل فيه بمعالجة المسألتين المشار إليهما في سؤالك: بناء المنهج المناسب له، وهو ما عرضته بتوسع، على أنه معروض للدرس والنقاش بطبيعة الحال. وهو منهج استخلصَ بناء هذه القصيدة في "مستوياتها" الأربعة، كما حددتُها وعرضتُها. هذا ما تكفل به المنهج في درس مدونة واسعة من القصائد، ذات تمثيلية راجحة. كما توقف الكتاب لمساءلة "شرعية" هذه القصيدة في النقد العربي القديم، إذ لا يزال هذا الأمر مستعصيًا بل مستحيلًا عند خصوم هذه القصيدة. ما يكتفي به هؤلاء هو تحكيم القصيدة بالنثر على ضوء العروض، وجعلها بالتالي خارج الشعر، بل خارج الشعرية. طلب كتابي الوقوف عند مدونة النقد العربي القديم وأحكامه ومعاييره، وسؤالها عما إذا كانت تقبل بشعرية القصيدة الناشئة أم لا تقبلها. ولقد خلصت في هذه المسالة الثانية إلى خلاصات قد تصدم الكثيرين من خصومها، وهي أن هذه القصيدة "تغني" و"تزيد" على الشعرية العربية.

- الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر متقطع في وجوده، كما تقول. ما الداعي اذن من زج هذا الاصطلاح في قصيدة النثر، أعني الذين زجوه عنوةً؟ وماذا نقول لدارسي الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر؟ ماذا نفعل أمام ما لدينا من دراسات أكاديمية وكتب حول هذا الموضوع؟ وما الذي نفعله بكل ما نملك من رسائل ماجستير وأطاريح الدكتوراه؟

= هذا "الإيقاع الداخلي" خرافة متأصلة في درس هذه القصيدة. خرافة تعود، في بعضها، إلى أن بعض قصائد بودلير وغيره في الشعر الفرنسي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عول على بعض التلاقيات والتنافرات الصوتية، الدالة كذلك على بعض دلالات القصيدة. وهو ما توقف عنده بعض النقد.. إلا أن النقد، بما فيه الفرنسي، لم يجد سوى بضعة أمثلة، ومحدودة، من دون أن تكون متبعة، في قصيدة أو أكثر. هذا ما خلصتُ إليه في درس الإيقاع الداخلي المفترَض في قصائد أولى من هذا النوع، إذ لم أجده، وإذا كنتُ وجدتُ بعض تحققاته، فإن هذه لم تشكل نسقًا متبعًا في القصيدة الواحدة. بالمقابل، توصلت إلى استخلاص تجليات أخرى للإيقاع، وهي تقوم في تشكلات الجملة، أو المقطع، أو بين مقاطع القصيدة الواحدة. على أن الدرس المناسب يتعين، قبل أي شيء آخر، في الخروج من المنظور العروضي صوب "الموسقة"، الظاهرة والخفية والمتقطعة، تبعًا للقصائد. هناك تجليات إيقاعية "مموسقة" في القصيدة بالنثر، لكنها لا تشكل نظامًا مثلما هو عليه النظام العروضي، على أي حال.

لعل بعض النقاد العرب دافعوا عن وجود هذا الإيقاع الداخلي، في نوع من الدفاع المستتر أمام نقمة العروضيين، وتنكرهم لشعرية القصيدة بالنثر، إلا أنهم يتناسون أن هذه القصيدة طلبت الخروج الحر والتام والناجز من العروض، واجترحت شعرية مختلفة، بما فيها في الإيقاع.

- ترى أن اختلافًا بين القصيدة المنثورة والقصيدة بالنثر، وأن بدايات محمد الماغوط وأنسي الحاج في القصيدة المنثورة وليست القصيدة بالنثر التي تُرجمت خطأ قصيدة النثر على حد وصفك. بم تختلف القصيدتان عن بعضهما؟ وكيف تصف القاعدة الأساسية للنصين؟

= هذا ما عاينتُه، وتحققت منه، في درس التاريخ الثقافي والشعري لكل من القصيدتين. وهو ما تحققت منه لدى الشاعرين، بين ما كتباه في مجلات أدبية لبنانية مختلفة، وبين ما لبثا أن كتباه في مجلة "شعر"، تحديدًا منذ العام 1957، وبالتوقيت نفسه بين الشاعرين. هذه النقلة أكيدة، وهي لا تعدو أن تكون، في جوانب منها، نقلة بين صيغة أميركية لهذه القصيدة، وبين صيغة فرنسية. وهي نقلة تشمل أكثر من التجربتين والشاعرين. فمن يعد إلى القصيدة المنثورة في تجلياتها الأولى يتنبه إلى أنها كانت تصنع، في واقع الأدب، خروج النثر من "ديوانيته" القديمة، ومن صحفيته الناشئة، صوب نثرٍ لينِ العبارة، خيالي البناء، وفردي النبرة (بما فيها عند المنفلوطي، أو عند مي زيادة). لهذا كانت القصيدة المنثورة افتتاحًا يتعدى الشعر واقعًا، ويواكب ما أسماه طه حسين ومحمد حسين هيكل "ثورة النثر". ومن يدرس هذه القصيدة في إنتاجاتها المتنوعة والمتعددة، بين بيروت ونيويورك والقاهرة وبغداد وغيرها، يلاحظ أنها تستجمع أنواعًا كتابية تتعدى القصيدة نفسها. لهذا يتوجب درس هذه القصيدة، بوصفها تجليّا لثورة النثر، كما قلتُ، وامتحانًا لقدرات التخييل الممكنة بالنثر. ولهذا يتوجب كذلك فحص تجاربها في تمايزاتها، وتولداتها المختلفة. وقد تكون تجربة الشاعر المصري حسين عفيف، هي من أنضجها شعريًا، على الرغم من رومنسيتها المتشربة لغنائية الشاعر الهندي طاغور. هكذا أعتبرُ القصيدة المنثورة طورًا تاريخيًّا في الشعر العربي، واعدًا ومرتبكًا في الوقت عينه. ولهذا قطعتْ القصيدة بالنثر معها، وأدخلتْ الشعر العربي في طور آخر: طورٌ ليس له إنجازاته المخصوصة وحسب، وإنما باتت له تأثيرات، في بناء جديد للشعرية العربية، تبلغ غيره من تجارب الشعر العربي الحديث.

- أستعيرُ سؤالًا منك قد طرحته مرة في إحدى مقالاتك: أما يزال تعريف الشعر ممكنًا؟

= بالطبع، التعريف لازمٌ وممكن، إلا أنه صعب. ويزيد من الحاجة إليه، أن الاشتغال الفلسفي السابق كان يتوكل بالشعر، ويجعل منه ميدان التمثل العالي، فيما تساقط مثل هذا العمل لصالح الفن البصري، أو التقنية، في الأزمنة المتأخرة. تزيد الحاجة إلى تعريف الشعر المتأخر، بسبب من تغيراته الشديدة، في البناء أو في خياراته الجمالية. الضمنية أو المعلنة. والاشتغال النظري في الشعر مطلوب في تعبيرات اللغة جميعها، ما دامت القصيدة تمثل أعلى اشتغال ممكن، حر ومفتوح، في اللغة وبها. وإذا كان تعريف الشعر العمودي، والتفعيلي، أكثر يسرًا، فهذا يعود إلى كونه ينبني، في عدد من مقدماته ومسبقاته، وفق نموذج مسبق، إلى هذا الحد أز ذاك. أما في القصيدة بالنثر، فلا نموذج مسبقًا، غير الجمع بين الشعر والنثر، مثلما طلبَه شارل بودلير في أول تعريف لها. وهو تعريف إشكالي، على بساطته الظاهرة. وهو يعني تشكلات مفتوحة، لا توفر للدارس بالضرورة نقاطًا أو معالم استدلال. بل توفر هذه القصيدة، في إنتاجاتها، وبمرور تجارب وخيارات، ما هو صعب التقعيد والتنميط، والتعريف بالتالي. ولقد وجدت، في كتابي الثاني عن هذه القصيدة، أن إخضاع هذه القصيدة لمحددات الشعر القديمة في المدونة العربية، لا يجعلها خارج الشعرية أبدًا، بل يجعل شعريتها متحققة، ولكن وفق منظور يتعامل مع عناصر البناء، لا مع القواعد. القصيدة بالنثر خرجت، أو أسقطت، قواعد الوزن والبيت والقافية، لكنها بنت نسق السطر، الممتد أو المنقطع. كما بنت احتمالات متنوعة للتركيب، بما ينمي طاقات الإنشاء الحر. كما لم تتقيد بمواضعات مسبقة، في النوع الشعري، بل جعلت من الشاعر متكلمًا، على أنه يتكفل بها، وفق المحددات التي يرتئيها أي مبدع في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. كما أن هذه القصيدة وفرت للنحو سيادته في البناء، مثلما وسعت من حياة الخيال فيها. تعريف الشعر ممكن، على أن ينصرف إلى مفهوم الكتابة، خارج مفهوم القريض، من جهة، وأن ينصرف إلى تكفل الشاعر بخيارات هذه الكتابة، لا بما تبيحه بلاغة مطبِقة على الشعر وغيره، من جهة ثانية. يزيد على هذا، بل ربما الأهم في أي تعريف، هو أن الخيارات الجمالية باتت هي التي تحدد وجهات الكتابة الشعرية. مثال بسيط : قد تجد هذه الخيارات في اللغة المتجردة من البلاغة غرضًا ومآلًا، فيما تجد خياراتٌ أخرى العكس من ذلك. هذا ما نجده في خيارات جمالية في الفنون التشكيلية، وهذا ما نجده – من دون أن ندرسه كفاية – في القصيدة، وما لتعريف الشعر أن يتعامل معه.

- بصفتك ناقدًا، ما المعيار النقدي الذي تتعامل على وفقه مع أدب السيرة؟ هل يخضع نقد السيرة لذات المعايير النقدية التي تُحاكم بها الأجناس الأدبية الأخرى؟ ولمَ هذا الإقصاء الأكاديمي والأدبي لأدب السيرة، أي أنها تكاد تكون مندثرة لولا وجود بعض الكتب القليل هنا وهناك؟

= السيرة الذاتية نوع من أنواع السرد، ومن السرد الحديث تخصيصًا. لهذا ما يسري من قواعد في درس السرديات يسري على درس السيرة الذاتية، مع الانتباه إلى عوامل مختلفة فيها : المؤلف هو حكمًا الشخص الأول والسارد في السيرة؛ وما حدث له في حياته هو مجموع الوقائع فيها، على أن يتقيد بما هو عليه أدب البوح : الصدق في النقل، وعدم التزوير أو الاختلاق.

أما عن الإقصاء، فهو ليس بدراسي أو أكاديمي، بل هو أدبي. فمَن أقدمَ من الأدباء العرب على كتابة سيرته الذاتية، لا يتعدى العشرة. حتى من كتبها، أخل عمدًا ببعض قواعدها: طه حسين، في "الأيام"، يسرد بلغة الغائب، بدل السارد المتكلم؛ وتوفيق الحكيم، في "عصفور من الشرق"، يتحدث عن سيرة محسن، لا عن توفيق الحكيم. سؤال: لماذا لم يُقدم شعراء، مثل نزار قباني أو محمود درويش أو أدونيس وغيرهم عن كتابة سيرهم؟ أيكفي القول عند الأول منهم كتابه: "فصتي مع الشعر"؟ أيكفي عند الثالث منهم الحديث عن: "سيرة ثقافية"؟ لأذهب أبعد في التقصي: هل نجد سيرًا ذاتية لمشاهير العرب: من أم كلثوم إلى محمد عبد الوهاب وفيروز وعبد الحليم حافظ وفاتن حمامة وغيرهم؟ لماذا هذا التجنب؟ أليست لهذا التجنب خشية خسارة مفترضة لجزء من جمهور "النجم" بدل زيادته؟ وممَّ تعود أسباب الخشية؟ أتعود إلى عدم تكفل "النجم" بحياته، كما كانت، في نوع من الرقابة المسبقة، التي تجعل "النجم" جسمًا غير مادي، غير منفصل عن المجموع الاجتماعي؟ هناك اسئلة مزيدة، والداعي إليها هو أن للسيرة الذاتية جانبًا اجتماعيًا يُتوخى من الأدب، من السيرة الذاتية، وهو إعلاء صورة المؤلف في سيرته، وفي أدبه. فلماذا يتنكب الأدباء والمشاهير العرب عن هذه؟ ألا يعود هذا إلى خشية اجتماعية في أساسها، أي مخافة فقدان الأديب والنجم لصورة مرتضاة من الجمهور، وإن قامت على الستر الأخلاقي؟

- في السرد الشعري، أو القص الشعري، تتدفق السيرة أيضًا، كأنك تستعير من الكاتب شربل داغر ما يحتاجه الشاعر شربل داغر في قصيدته لتصبح مختلفة عما جاء به جيله، لا سيما في كتابك: "أيها الهواء، يا قاتلي". ترى أترافقك السيرة حتى في الشعر؟ هذا الكتاب ذاته محمل بقصائد تأملية وفلسفية بل حتى نفسية. ما الذي تضيفه الفلسفة للشعر؟ وهل بمقدور الشعر التأملي أن يثبت ويعلق مقابل الشعر الذي أداته اللغة فحسب؟

= ما تشير إليه ممكنُ الحدوث، ما دامت للشاعر، بوصفه كائنًا، حياةٌ يشير إليها، يعود إليها، وبشكل معلن: إن هذا الكتاب الشعري ينطلق، في واعزه، من حدث كبير، هو انفجار المرفإ في بيروت، ومن مفاعيل "الكورونا" على حياتي وحياة غيري بالطبع. إلا أن هذا الواعز، أو الدافع، لا يكتب ما جرى، ولا يستعيده بأي حال. فما كتبتُه، في قصائد الكتاب، يتعين ابتداء من شارع طفولتي الذي تطاير مع الانفجار، لا لأصف ما جرى، بل لأتحقق من امتحانات اللحظة التي أعيشها : في القصيدة. هذا يعني حكمًا، أو يشتمل على إحالات، أو يقود إلى معايشات أو تأملات، إلا أن ما يتجلى في القصيدة يبقى رهين لحظتها، من جهة، وانبنائها المخصوص، من جهة ثانية. لهذا لا أتفكر فلسفيًّا في هذه القصائد، وإنما تكون لحظة كتابة القصيدة لحظة انوجاد، على ما فيها من زحمة التضافر والتشابك. الفلسفة ليست القصيدة عندي، ولا تفضي إليها. إلا أن ما يشغلها، ينبعث من القصيدة، ويتمدد فيها، ويجعلها تمضي في تجوالها الحر، إلى حيث لم يكن الحدث، ولا الفكرة.

قد يكون التأمل أقرب وصف لما يجري في القصيدة، إلا أنه لا يؤدي تمامًا ما يجري فيها، وما يتجلى فيها. فما تنهمُّ به القصيدة، قصيدتي، نوع من الانهمام المصحوب بالعزم، فلا يستكين لخلاصات، وإنما ينشغل في ما لا يعرفه، في توقده الذي يلمع في عتمة مقيمة. ما تطلبه قصيدتي هو هذا اللمعان في أرق المعنى، ما ليس مسبوقًا بالتالي، وعابرًا في الوقت عينه.

- في حضارتنا القديمة كثير من الفلاسفة، أنتجوا ما أنتجوه. لمَ لمْ تحضر الفلسفة في حياتنا اليومية، ولمَ تضاءل الفلاسفة بل شحوا في عالمنا العربي؟

= سؤال جدير بالطرح، وإن كانت المقارنة بين الأمس واليوم تخلص إلى حُكم غير عابئ بتغير انشغالات الفكر، ومنه الفكر الفلسفي. من المعروف أن ابتداء الخطاب الفلسفي بالعربية أتى، أو تولد إثر تفاعل مع التفلسف الإغريقي؛ وما اعتنى به كان يتمثل في بناء خطاب يستند إلى العقل ومقولاته، لا إلى الإيمان وأحكامه، على أن بينهما "الفصل" و"الاتصال". أما في الأزمنة الحديثة، فقد تولد خطاب التفلسف بالعربية من سياقات مغايرة، ابتدأت بالتفاعل مع المتن الفلسفي الأوروبي الحديث، لكنها اعتنت بما يمكن للتفلسف أن يؤديه قي بناء الثقافة كما المجتمع، في أحوال العرب الجديدة. فمن يعاين خريطة المذاهب الفلسفية والفكرية بالعربية منذ نهايات القرن التاسع عشر، يتحقق من أنها تستجيب لدافعَين : التخير والانتخاب في المذاهب الفلسفية الأوروبية (بين ليبرالية، وماركسية، ووجودية وغيرها)، والتموقع في الراهن العربي (بين قومية، ويسارية، وإسلامية وغيرها). وهذا يعني أن التفلسف، أو التفكر، بقي استعماليًا بشكل مخصوص، ما لم يوفر للعقل احتكامه إلى مقولات محضة، أو متجردة من أي غائية. ولهذا هو أقرب إلى الدعاوة الممتزجة بالتفكر. لأنتقل إلى القصيدة: قد تنبعث ابتداء من واقعة، إلا أنها، عندي، لا تنقلها، لا "تترجمها"، أو تتفكر فيها. بل تنطلق منها مثل الخطى في المشي الحر، أي الخيالي خصوصًا، في ما يشبه التحليق أو التغوير، بما هو امتحان للذات المتكلمة في راهنها. في مثل هذا الحراك الذي للقصيدة ما يوازي، أو يلتقي أحيانًا، مع حراك التفلسف : فالشاعر يطرق بمطرقته الخاصة، مثل الفيلسوف، كما تحدث عنها نيتشه، أي أنه لا يقبل، ولا يرضى، بل يمانع ويشكك في السؤال، ويستطلع ما في الخفي : هو لا يبحث عن كنز مفقود، أو عن وديعة، وإنما يقدح زناد اللغة، مثلما الفيلسوف يقدح زناد العقل. لهذا هناك جيرة وصحبة بين القصيدة والفلسفة، وهناك توازٍ وتباعد بينهما كذلك.

في "أخبار الادب"، القاهرة، 28-1-2024