هل يهاجر العربي إذ ينتقل، إذ يقيم في غير بلده، إذ يقضي العمر في بلد أجنبي ؟

أهو ينتقل، أو يهاجر، أو يكتسب جنسية ثانية، وربما ثالثة، ليحافظ على صلات ببلد المنشأ ؟ هل يكتب بلغة غير العربية ؟ هل يندمج بثقافة البلد الجديد ؟ هل يحتفظ بهوية بلد المنشأ، إذ يهاجر أم يتكيف ويتبدل ؟
سؤال الهجرة يقع أبعد من سؤال البينية، ما دامت هذه لازمة في أيامنا هذه. ألا نهاجر، ونحن مقيمون ؟ سؤال الهوية بات مطروحاً بكيفية أخرى، إذ إن الأنا والهو والغير كائنات وهمية، افتراضية، سائلة (أكاد أقول).
هذه الأسئلة، هذه القضايا، تثير مسائل ملحة وأكيدة في الأدب كما في الفكر، ما لم يكن مطروحاً قبل خمسين سنة، فكيف قبل مئة وخمسين سنة.

لم يكن السفير، أو الفقيه، أو العالِم، أو الأديب يهاجر قبل القرن التاسع عشر إلا في بلاد الإسلام؛ وإذا كان ينتقل لمهمة، أو رحلة، خارج بلاد الإسلام، فإنه لا يلبث أن يعود. حتى ابن بطوطة عاد، فيما نحتاج إلى التبصر في ما أصاب ليون الإفريقي، أو من جرى أسرُه وتبديلُ هويته، على أنه دلالة على أن حدوداً باتت عدائية وفاصلة بين ضفتًي المتوسط، فلا يقوى كاتب مثل جاك بيرك (في اختصارِ سيرته) أن يكتب أنه "عابر الضفتين" (...).


هل يحق لي أن أسمي أمين معلوف أديباً مهجرياً، فيما تباهى أكثر من أديب لبناني، قبله، في كونه ينتسب إلى أدب مهجري قبل ما يقرب من المئة سنة ؟ هل تناسب معلوف هذه التسمية ؟

معلوف بات (كما نعرف، ومنذ شهور قليلة) أميناً عاماً لـ"مَجمع الخالدين" في فرنسا، وبات الساهر الأول على تاريخ وحياة الفرنسية، فيما لا يتكلم جبران خليل جبران عن سيارة في أدبه، فيما كان يعيش في القسم الأول من حياته في مدينة، في بلد السيارات الأول، هو الذي جعل للمصطفى، في "النبي"، وجهة ختامية، هي الشرق : أنا لا أفاضل بينهما، بل أشير إلى تغير الأحوال والخيارات.

جبران عاد محمولاً في نعش إلى لبنان، فيما لم ينقطع الريحاني عن العودة، وعاد نعيمة نهائياً.
ما كان مأمولاً بالعودة إليه، لم يعد كذلك بعد عقود قليلة هن غير كاتب لبناني، كما عند غيرهم.
طه حسين يدرس في فرنسا ويعود، وكذلك توفيق الحكيم وغيرهما. الشيخ علي عبد الرازق يدرس في انكلترا، فيما أقام الشدياق قبله فيها، وتزوج من إنكليزية، وعاد الاثنان – على تباعد زمني - إلى استانبول، أو القاهرة (...).


أمين معلوف اختار، في أدبه، في رواياته، أن ينطلق من أصول، من سِيَر، من شواغل، في بلد المنشأ وجواره.
حسن الوزان له اسم آخر : ليون الإفريقي، ما يُباعد ويقارب بين الأصل والهوية. وهو ما له علاقة أيضاً بين معلوف اللبناني ومعلوف الفرنسي في تباينهما وتداخلهما. حسن الوزان عاش حياته، مثلما عاش ليون الإفريقي حياته المباينة والمختلفة عن الحياة السابقة، بين ديانتَيه، الإسلامية والمسيحية  : كان له أن يقع في الأسر، وأن يُخطف، لكي يعيش حياتَين. أما ما عاشَه معلوف فمختلف، إذ أمكن للرجل الواحد، بين الأصل والهوية وبينهما، وبين ما كتبَ في عدد من رواياته، أن يكون ملتبساً، وجامعاً لِما أصبح ممكناً، وهو الانتقال من ضفة في المتوسط إلى أخرى. أهو انتقل تماماً ؟

لنبدأ باسمه : كان يتم تقديمه بوصفه لبنانياً يكتب بالعربية، ثم بات يُصنف بوصفه : لبنانياً يكتب بالعربية والفرنسية، قبل أن يُصبح كاتباً لبنانياً بالفرنسية، وانتهى مؤخراً إلى أن يُصنف بوصفه : الكاتب الفرنسي-اللبناني، والكاتب الفرنسي من أصل لبناني (...).

 

يؤكد ليون الافريقي : "عندما ترى أن عقول البشر تضيق، تنبهْ إلى أن الأرض واسعة". كما يكتب معلوف في كتابه "الهويات القاتلة" : "مصير الإنسان هو مثل الهواء لشِراع السفينة"؛ له أن يوجِّه الشراع حسب ما يتيحه الهواء، لا أن يغالب الشراع، ولا الهواء. في هذا الكتاب ينتقد معلوف كون الهوية باتت رفضاً وقتلاً أحياناً للآخر : "لكل إنسان الحقُّ في مغادرة بلده، إن لم ينجح بلدُه في الإمساك به، في الاحتفاظ به".

سقطتْ الإيديولوجيات التي كانت تؤطر الصراعات، فتحدُّ منها وتُشعلُها في الوقت عينه. إلا أنها كانت توفر رؤى وآمالاً، وإن كانت مصابة، بالمقابل، بالانحياز والعمى بالضرورة. غير أن سقوط "نظام الجبارَين"، وسقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا، لم يؤديا (كما وعد البعض) إلى انبلاج الديمقراطية والرأسمالية أينما كان. كما لم يعنيا خصوصاً أن نظام السوق سيجعل المجتمعات تنتظم بشكل أعدل، وبما يوزع خيرات الأرض بشكل أنسب مما سبق.

الأكيد هو أن السياسة لا تحب الفراغ، وكذلك الاعتقادات وأشكال التنافس. وهو ما استبدل الهويات بما كانت عليه الأيديولوجيات.

إذا كانت الإيديولوجية تشدُّ إلى طبقة أو تحالف طبقي، إلى مصالح، إلى مرتجيات ومثالات ثقافية، فإن ما تشيعه الأصول من معتقدات ومأمولات يشدُّ إلى ما هو سابق، إلى الدم، إلى العصبية، ما يعيد تاريخ البشرية إلى ما هو مسبوق، ومقفل كذلك (...).