شربل داغر شاعر من طراز خاص، يشق طريقه إلى القصيدة عبر بوابات التفكير والخلق الجمالي الخالص بعيدا عن آثار السابقين. كما ينحو، فى دراسته لمذاهب الجمال العربي، منحى شعريا خالصا يتقصى الثوابت التى قامت عليها هذه المذاهب، دون أن يخضع لتمحيص النقاد أو تفسير الشراح.
الشاعر صاحب "تخت شرقي"، و"حاطب ليل"، و"القصيدة لمن يشتهيها"، و"على طرف لساني" وغيرها، يتعامل مع القصيدة كحدث وجودي وجمالي يرتبط وجودها بوجود الشاعر نفسه، كما يرتبط تجليها بانفتاح آفاق جمالية جديدة على مستوى الشكل والرؤية والتفكير.
الحوار مع شربل داغر صاحب روايات "وصية هابيل"، و"بدل عن ضائع"، و"ابنة بونابرت المصرية" يثير كثيرا من الأسئلة الجدلية حول تقاطعات السرد والشعر، وحول ماهية قصيدة النثر وروافدها ومستقبلها الجمالي، كما يثير الأسئلة حول الكتابية والشفاهية، وهل يمكن تلقي نص شفاهي فى ظل التطور التكنولوجي والتقني.
والحوار مع شربل داغر المولود فى مارس 1950، حافل بالمعرفة. فالقصيدة لديه تنبع من وعي كامل بشكلها ومعناها. ليست غنائية، وليست مجرد حروف تتلى. إنها طريقة تفكير للعالم، وللأسف فالنقاد عادة لا ينتبهون لذلك الأمر.
"اليوم السابع" أجرى حوارا مع شربل داغر وقصيدته الممتدة منذ مجموعته الأولى "فتات البياض"، التى أبدعها عام 1981، والذي كشف عن "قيمة" شعرية مهمة فى تاريخ الشعر العربي، يحمل صوتا خاصا به بعيدا عن صراعات الشعراء أو اتفاقاتهم.
- كم شربل داغر تعرف؟ شربل الروائي وشربل الشاعر وشربل الناقد الأدبي المتعمق وشربل المهموم بتاريخ الجمال والتشكيل العربيين وشربل الأستاذ بالجامعة وشربل الكاتب بالعربية وشربل المفكر والكاتب أحيانا بالفرنسية، كيف تتجاور كل هذه الوجوه؟
- هذا سؤال لا يقلقني الآن. كان يقلقني فى سنوات سابقة، عندما كنت أحتار فى أي وجهة لكتابتي أن تتقدم. لو أعود بالذاكرة إلى مراهقتي لوجدت فيها بعضًا من إقبالي على فنون أدبية مختلفة، إلا أن هذا التعدد زاد مع العمر... لهذا علاقة بما درستُ، بثنائية تخصصي العالي بين الشعر وفلسفة الفن، إلا أن له علاقة أشد بالصحافة، حيث إنني خبرت فيها امتحانات أولى لشغفٍ ما توانى عن الظهور والتأكد... ففي سنواتي الصحفية، قادتني الكتابة، وحاجات العمل نفسها، إلى سلوك طرق غير معتادة. هذا كان أشبه بفتح الشهية... إلا أن ما بدا نزهة خارج المعتاد انتهى إلى أن يكون اشتغالًا على مقادير من التتابع. فقد تعددت ميادين كتابتي وتنوعت إلى درجة تفاجئني أنا نفسي، فكيف الناقد أو القارئ! هذا ما بتُّ أسميه "الورطة"... غير أنها ورطة جميلة، تجعلني أتبين وجوه الكتابة مقدار ما أتبين وجهي وأصواتي المتعددة.
- نبدأ من الشعر، وصدور مختارات جديدة فى القاهرة... كيف ترى محنة الشعر وصعوبة تلقيه فى البلاد العربية؟ وهل حقا العالم لم يعد يلتفت إلى الشعر
= فعلًا، يعيش الشعر محنة أكاد أن أقول فيها إنها عالمية. لم يعد الشعر "أعلى" الفنون منذ أكثر من قرن، لصالح الفنون التشكيلية، بداية، والآن، لصالح الصورة الحيوية والممتدة، مع الشاشات المختلفة، من الهاتف إلى الصالات والبيوت. ذلك أن ما يجتاح العالم، ابتداء من العقود الأولى فى القرن العشرين، هو "البضاعات الثقافية الجماهيرية"، مع الأسطوانة والتلفزيون والأغنية والفيلم وغيرها. هذا لم يُعلِ فقط من فنون، ويُسقط من فنون، وإنما جعل منسوب الإبداع متدنيًا.
مع ذلك يمكن القول إن حال الشعر فى البلاد العربية أفضل حالًا من غيرها من البلدان فى العالم. فأعداد الشعراء تتزايد، والجدل حول الشعر قائم، والنشر مستمر، وإن يتخذ شكل النشر "الفايسبوكي" فى أحوال كثيرة.
الأكيد هو أن الشعر لا يقوى على العيش والتجدد فى حياتنا الثقافية والإبداعية من دون تنمية حضوره فى الكتاب والمجتمع، وتحسين شروط التذوق الشعري من المدرسة إلى الشاشة الصغيرة مرورًا بالبيت. تخضع الآداب والفنون بصورة مزيدة لشروط السوق المعولم، ما يُضعف تمامًا من حظوظ الشعر. الإتجار بالأدب والفن لا يعني، ولا يوفر دومًا أعلى التشكلات والصياغات الجمالية، فيما للشعر أن يوفرها أكثر من غيره.
خيار الدفاع عن الشعر هو، فى حسابي، خيار الدفاع عن وجوه الحرية فى عالم يجري فيه الحديث عن حرية الفرد، فيما توفر التكنولوجيات الجديدة مزيدًا من الرقابة عليه، والتحكم به.
الشعر يبقى التفلتَ الممكن من قبضة التحكم، ويبقى متعتنا العالية والمجانية.
-قصائدك عموما تُعنى بما وراء القصيدة، تشكلها ووجودها وتجليها وإيجادها لشاعرها، إن جاز التعبير، كما تعنى برؤية العالم من خلال الاكتشافات الفلسفية والجمالية وليس العواطف الجياشة... كيف ترى مدخلك إلى القصيدة؟ من الفكرة أم اللقطة أم الموضوع أم الهم الذات
= للقصيدة كيانها اللغوي، وهو أساس بنائها، إلا أن لها تجليات وتعبيرات تصلها حكمًا بالأدب وبالجمالية. هذا ما يقوم به الشاعر أحيانًا فى قصيدته من دون علمه أو قصده. هذا ما أقوم به، من ناحيتي، وفق مقادير من التدبير المطلوب للقصيدة. فالقصيدة ليست معزولة عما يحاذيها، فكيف إن طلبت التحاور والتفاعل مع فنون قريبة منها. هذا ما فعلَه السرد في القصيدة، فيما لم يكن أبدًا جزءًا من البناء فى الشعر العربى القديم، فيما عنى تحديثُ القصيدة العربية، منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، اقترابًا وتفاعلًا أكيدين مع السرد.
لقصيدتي انطلاقات متعددة: من همّ، أو لحظة، أو شاردة وغيرها. القصيدة مثل دولاب هواء يتنصت ويجاري هواء الزمن، على أن الشاعر يتدبره بالمعالجة. إن انشغالات قصيدتي بما هو أعلى منها، أو ما وراءها، لا يعني أبدًا عدم انطلاقها من اللحظة، حيث تكون القصيدة تجربة فى العيش، ولكنها تتعين فى عيش الكلمات نفسها.
ما تقوله صحيح لجهة أن قصيدتي تبتعد عن عالم العواطف الجياشة، وهو يعني عندي ابتعادي عن الغنائية، وعما أسميه بالدندنة العاطفية. أعتقد أن القصيدة العربية الحديثة قلدت كثيرًا، عند عدد من شعرائها، عالم الأغنية، الذى شهد فورة كبيرة مع الأسطوانة والفيلم ثم التلفزيون. وأعتقد أيضًا أن القصيدة قلدت عالم السياسة، فى الخطاب والتظاهرة وغيرها، ما نجده في كثير من الشعر الحديث الذى يقوم بعملية ببغائية لغيره.
قصيدتي تبتعد عن سابق تصميم وتعمد عن هذه العوالم، مع أنها تتناول تجليات الانفعال العاطفي والسياسي وغيرها، ولكن من دون أن ترفق ذلك بتردادت واستعادات شبيهة بما تقوم عليه الأغنية العربية الجماهيرية.
- شربل داغر فى أعماله الشعرية هو شاعر يفكر فى القصيدة ويفكر من خلال القصيدة، وتصوراته عن القصيدة أنها نوع من التفكر فى اللغة، كما أنك صاحب ديوان بعنوان "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك"... إذن من ينتج المعنى داخل القصيدة؟
= لو تعدْ إلى شعري الأول ستجد بأن القصيدة انتهت أحيانًا إلى أن تكون موضوعًا للقصيدة نفسها. القصيدة لا تُكتب فقط، وإنما ترى إلى نفسها وهى قيد الكتابة. هذا الشاغل لا يبدو بعيدًا، فى حسابي، عن شاغل رافقَ الفلسفة نفسها، ابتداء من نيتشه وصولًا إلى هايدغر، وهو أن خطاب التفلسف لم يعد يعنى بالوجود، وإنما بات يسائل اللغة، وفيها، عن الوجود.
لا يمكن فصل المعنى عن الشكل، وعن اللغة. القصيدة ليست سيارةَ نقلٍ لما هو خارج اللغة، أو يقع خارجها ويؤتى به إلى القصيدة. من لديه هذه القناعة، يكون مقتنعًا بوجود مسبقات، مثل الموقف الحزبي والسياسي الذى يَكتب القصيدة عند بعضهم، كما لو أن اللغة حذاء ينتعلونه للمشي فيها ليس إلا.
-أنت تقول فى قصيدة بعنوان "لا تبحث عن معنى": "القصيدة تنتظرني/ والقارئ ينتظرها /وأنا أنتظر ألقا لا يخبو / على أطراف أصابعي"... القصيدة بالنسبة إليك فعل اجتماعي وتفاعل مستمر. كيف؟
= ما تفتقر إليه دراساتنا عن الشعر العربي، فى قديمه وحديثه، هو التناول الاجتماعى له. تركز درسنا، فى قديمه، حول بلاغة القصيدة، في تناولات جزئية وموضعية لها، فيما انصرف النقد الحديث إلى تناولات محدودة، توقفت عند علاقات الشعر بالنثر، وحول مقومات الشعرية، وحول أطراف من المعانى الدائرة فى فلك الشعر.
أما اجتماعية الشعر، فهي، في حسابي، الفقيرة المبعدة، فيما أرى أن الشعر اجتماعي فى طبيعته، ما دام أنه، عند شاعره، احتياج إلى البث، إلى التلفظ، وعند متلقيه، احتياجٌ إلى التقبل والانفعال. إلا أن التقليد يٌفسد أو يخفف من اجتماعية الشعر، ما دام أن القصيدة تنحو صوب المطلوب، صوب المتبع، فلا تجعل القصيدة – كما عند أبي نواس وابن الرومي وغيرهما – أقوالًا فى حوار مفتوح، خارج القصيدة وحولها.
أما مع الشعر العربي الحديث فقد زادت "اجتماعية" الشعر، مع توقيعات الخطاب اليساري أو القومي، إذ باتت القصيدة تحمل سِيرًا وأخبارًا وتعبيرات عن: العامل، والفلاح، والجندي، والمُخبر والحبلى والمومس وغيرهم، فيما طلب الشاعر أن يكون: الراوي، أو المتقدم فى تظاهرة، أو صائغ النشيد، أو "مفرد فى صيغة الجمع"... أما القصيدة بالنثر، فقد اتجهت إلى "الغرفة" مع أنسي الحاج، ونزلت إلى "الشارع" مع محمد الماغوط... فى ما يخصني تنحو الاجتماعية فى شعري وجهة أخرى، تتعين فى المتكلم بطبيعة الحال، لكنها تتعين فى لحظوية منشودة، حيث التكلم يعني تأكيدَ الذات فى وجودها، في عيشها. تكاد جملة: "هكذا أكتب"، تساوى أو تعين جملة: "هكذا أكون". ففعلُ الكتابة لا يتوسطه شاغل خارجي، ولا يتوجه به إلى آخر، مطلوب، وإنما هو استحضار للكائن فى المتكلم، وتموقع فى تدافعات الزمن الجارى.
-فى كتابك "ترانزيت"، محاولة لاصطناع شكل حواري مسرحي ربما لمجموعة من المحبوسين فى صالة الترانزيت. وهذا الشكل يبدو وكأنه مصالحة بين أشكال عدة، كما يظهر الشاعر بأكثر من دور وصوت... إلى أي أرض خرجتَ فى هذا الكتاب، وهل تسعى لشكل أدبي يجمع كل فنون الكتابة؟
= لا أحبذ الكلام عن "اصطناع الشكل" ما دمت أنني أعتبر أن المتكلم، أيًّا كان، يبدل اللغة بالضرورة إذ يستعملها، فكيف بالشاعر نفسه، بخاصة من يطلب تجديد اللغة وإزاحتها عن مساراتها المعهودة.
خرجتُ بالقصيدة إلى برية الكلام، إلى جدل الأشكال الأسلوبية والتعبيرية المختلفة، إلى ما يشبه قاعة "ترانزيت" فعلًا فى مطار: إنها "ترانزيت" الكتابة، بل ترانزيت الكتابة مع الكاميرا والحاسوب والمشهدية المسرحية، كما يمكن ملاحظة هذا في مجموع الكتاب.
هي تجربة متطرفة بطبيعة الحال. تجربة بالمعنى التجريبي للكلمة. تجربة تطلب الخروج من معهود الكتابة الشعرية، بين تفعيليتها ونثريتها. فالقصيدة، فى هذه البلاد، باتت تفتقر إلى التجريب، وباتت تركن إلى ساريها، فترى المجموعات الشعرية تتناسل من بعضها البعض، فلا تميز كاتب هذه القصيدة عن جاره البعيد.
غير أن ما حركني إلى كتابة هذا النوع، الذى يعود فى شعري إلى العام 2005، صدرَ عن نوع من التذمر مٍما آلت إليه قصيدة المتكلم فى الشعر العربي الحديث: متكلم باسم جماعة، أو متكلم متصعلك ولكن بنبرة عالية.
يغلب على هذا النص التمسرح، إلا أنه يتوسل أيضًا أساليب كتابية أخرى، مثل الرواية، والحوار بالطبع، كما انه يتلاعب بالصورة كما بالتشبيه والاستعارة. إلا أن احتياجي إلى التمسرح لم يكن بغرض توسعة ما يمكن للقصيدة بالنثر أن توظفه فى أبنيتها، وإنما تأتى خصوصًا من حاجتي لتمثيل ما هي القصيدة فى حسابي، وهو أنها أصوات، وليست – مثلما آلت إليه – خطابًا، وعظة، وصراخًا وغيرها، مما يبعدها عن فردية المتكلم فى وجوده.
-أنت مشغول فى الشعر باجتراح شكل أكثر من انشغالك بالقبض على معنى. ديوانك "إعرابا لشكل" و"ترانزيت" يؤكدان أن الشكل هو المعنى بالنسبة لشربل داغر. كيف ترى ذلك؟
=فعلًا، يعنيني الاشتغال على شكل القصيدة، على ما أسميه "قَوامها" أيضًا.
أرى أن مسألة الشكل مهملة فى الشعرية العربية. فى القصيدة القديمة، الشكل يختفي سلفًا وحكمًا فى البيت المتتابع وفى الوزن العروضي. مع ذلك ظهرت في الماضي تجارب ما كنا نعلم بوجودها، وهى مساعٍ قامت بتوليد أشكال هندسية وزخرفية مع أبيات القصيدة، ولا سيما فى ما أطلق عليه أحد شعرائه: "شعر المدبَّجات".
الشكل بات مسألة مفتوحة، على ما أظن، منذ أن تخلعَ بناء القصيدة العربية فى القرن التاسع عشر. باتت القصيدة تحتاج إلى ما يكفل ظهورها، مثولها، أي إلى ما بات يتعين في: هيئة القصيدة، كما أسميها، أو فى شكلها الخطي، كما أسميته أيضًا. حتى قصيدة التفعيلة اعتنت بشكلها، ما يظهر بجلاء واضح فى قصيدة "أنشودة المطر" وغيرها الكثير. وهو ما اشتغل عليها بعض شعراء القصيدة بالنثر، حتى إنه بلغَ عنايات تشكيلية وزخرفية وغيرها.
من ناحيتي، أذهب بالشكل وجهة إضافية. أذهب به إلى بناء الجملة، قبل بناء النص نفسه. فالقصيدة عندي تنتظم، أو تتشكل، وفق إيقاع جملتها، وفق إيقاع تتابعها، في علاقة الجملة والجمل بالسطر نفسه، بين منقطع ومتصل... إلا أن الشكل معنى، فى المقام الأول. هذا ما أخذتُه عن اللسانية الحديثة. هذا ما أكتبه عن أن القصيدة بناء لغوي، فضلًا عن كونه بناءً ثقافيًا وجماليًا أيضًا. ما لا ننتبه إليه كثيرًا، هو أن الرثاثة اللغوية باتت تتحكم ببناء العبارة، فيما يتصرف التقليديون كما لو أن العودة إلى لغة "خشبية"، مجلوبة من خارج زمنها، تبعث الحياة فى عظام القصيدة..
بلى، الشكل ليس وعاء، ولا آنية، إنه تشكلُ المعنى. ومن يتابع تشكل مدارات المعاني فى مجموعاتي الشعرية يمكن له أن يرى إلى معانيها فى أبنية جُملها، لا فى معان مستقاة، و"منزلة" فى القصيدة... إذ ذاك تكون القصيدة قاربًا، أو سيارة نقل، وليست أبدًا صنيعًا مبتكرًا، جديرًا بالحياة.
بعثُ الحياة فى الألفاظ ليس تحريكًا لغويًا أو زخرفيًا لها، وإنما هو تحريك للطاقات الخاملة فيها أحيانًا، أو تحريكها بما لم تعتد عليه: هذا كله يصب فى صالح القصيدة، أي فى مصلحة القارئ.
- النص الشعري لدى شربل داغر، إلى أي مدى يبدو متقاطعا مع الفنون البصرية ومتداخلا مع منجزات التكنولوجيا من كمبيوتر ومحمول ومواقع تواصل اجتماعي، ربما أكثر من التراث القريب لقصيدة النثر العربية... كيف ترى ذلك؟
= انقطعتْ قصيدتي، منذ بداياتها، عن إرث النثر البلاغي و"الديواني"، كما عن النثر الذى يستسهل ركوب القصيدة، مثل من ينتعل جوربًا.أجدني أقرب إلى إرث ما قاله طه حسين ومحمد حسين هكيل فى العقود الأولى من القرن العشرين حين تحدثا عن "ثورة النثر". أجدني أقرب إلى ما أسميه الكتابية، بعيدًا عن بقايا الشفوية فى القصيدة العربية.
لهذا كان تعاملي طبيعيًّا، تلقائيًّا، مع الفنون البصرية، حيث إنن وجدتُ أن القصيدة كيان جمالي، هو الآخر، كيان متفاعل مع عين القارئ، مثلما يصدر عن عين الشاعر إذ يكتب. وهو ما وجده فنانون فى شعري، وتفاعلوا معه وأنتجوا واقترحوا إنتاجات بصرية متفاعلة مع القصائد.
كما أتى تعاملي مع الحاسوب طبيعيًا وتلقائيًا، هو الآخر، مع أننى لم أعرْ اهتمامًا، قبل ذلك، للآلة الكاتبة على الرغم من وفرة إغراءات الصور عنها مع الكاتب، ولا سيما مع همنجواي وغيره.
مع الحاسوب، التحقتُ بدورة تدريب عليه، منذ العام 1986 فى باريس. وهو ما جعلني أكتب بشكل متناسب مع ما شرعوا به فى جريدة "الحياة"، أى الصيغة الإلكترونية، إذ انصرفتُ، فى مقالاتي، كما في نصوصي وشعري، إلى الحاسوب.
غير أن التعويل على الحامل الرقمي لم يكن تعويلًا ماديًا، أو تقنيًّأ وحسب، وإنما جرى وفق عقلية تتمثل ما قاله مارشال ماكلوهان، وهو أن: "الحامل المادي (أو الوسيط) هو الرسالة". ومؤدى كلامه هو أن الآلة التي نستعملها لوضع رسائلنا ونصوصنا، تُملي شروطها على معناها.
هذا ما جعل الحاسوب – "مجازي المحمول"، فى إحدى مجموعاتي الشعرية – استعارة كبرى، جديدة، ومحولة، للقصيدة، إلا أنه كان، قبل هذا كله، وضعٌ جديد للكتابة، وبالتالي للنص، ما يجعل الكاتب متغيرًا بالضرورة، فكيف إن طلب التجاوب معه، مثلي.
-شربل داغر يقف بين إفصاح يحمله ظاهر العبارة الشعرية وإسرار يتجلى فى تركيبها مع تعمد عدم اكتمال الدلالة. كيف توضح ذلك؟
= جميل ودقيق هذا الكلام في كلامي الشعري، إذ يتعين تمامًا بين إفصاح وإسرار. ذلك أن قارئ القصيدة له أن يسلكها مثلما تتوافر له فى بنية الجمل والمقاطع، أي أن ينزل إليها، إذا جاز الوصف، بما يتيح له أن يرى ما يظن أنه يعرفه، وما يتحقق من أنه مختلف في الوقت عينه، في القصيدة.
فالقصيدة لا تعدو كونها قولًا فرديًا في حوار مفتوح، يسبق القصيدة ويتبعُها. وهو قول فيه من الخصوصية مقدار ما فيه من طلبِ التفاعل مع سياق التلفظ نفسه.
- الشاعر لدى شربل داغر هو مشاء أعمى، يمشي ولا يقرأ، ويقرأ وهو مغمض العينين، يهجس بالأشياء دون أن يتبينها... أي صورة ساخرة للشاعر تناقض الصور الراسخة للشاعر الرائي والشاعر البصير والشاعر القابض على الوعي الجمالي فى الشعر العربي... أية قدرة إذن للشاعر كما تراه وأي خيال يمتلك وإلى أي أرض يصل سوى أرض الشك والعدم؟
=هذا قول دقيق، ليس فى وصف الشاعر، كما أرى إليه، بل فى الشاعر كما يعمل عندي فى قصيدته. الشاعر، الذى هو أنا، لا ينطلق من سابق، وإنما يندرج فيه، لا ليغنيه أو يبرزه، وإنما لكي يجلوه فى غامضه. الشاعر، فى هذا، ليس أكيدًا من فعلته، مما يقوم به، مثلما ترى ذلك في منصات شعراء كثيرين، حيث إن الشاعر لديهم أشبه بالعرّافات فى المسرح الإغريقي القديم، اللواتي يكشفن الغيب عن أسراره وحمولاته، أو تراه أشبه بالمطرب إذ يستثير عواطف مدربة لدى الجمهور ومتمكنة منه.
-يتجلى فى أعمالك الشعرية هذا التوحد بين الشاعر وكلمته، الشاعر لا يكون موجودا قبل كلمته قبل قصيدته، القصيدة هي ولادة وجودية قبل أن تكون ولادة جمالية للشاعر. من يخلق من لدى شربل داغر ... القصيدة أم الشاعر؟
=هذا كلام يقع فى صميم ما أكتب، فى صميم ما أعيش بين كوني إنسانًا وبين كوني شاعرًا وبين قصيدتي نفسها.
أعود أحيانًا، فى تفسير هذا، إلى ما دعا إليه واشتغلَ عليه برتولت بريشت فى مسرحه، وهو: "التبعيد"، حيث يقيم المسرحي الألماني مسافة بين الممثل نفسه وبين الدور الذى يلعبه... فهما، فى مسرحه، وفي الواقع نفسه، اثنان، لا واحد. هذا التبعيد أقمتُه فى عدد من قصائدي، ولا سيما في التي لا وجود فيها لمتكلم "يحتكر" القصيدة أو يتصدرُها، إذ جاز القول، وإنما هناك متكلمون كثر، ممن يتداولون الكلام الشعري.
لا تخلو بعض قصائدي من ثلاثي، هو: الشاعر بوصفه إنسانًا، والشاعر بوصفه متكلمًا فيها، والقصيدة بينهما. ففي قصائد مثل هذه تنعقد علاقات – بعضها نزاعي، وحزين – بين هذه الأطراف الثلاثة، وتبدو فيها القصيدة هى الأبقى – إن بقيتْ – بينها.
فى أحيان أتكلم عن غربتي مع قصيدتي، بعد أن تخرج مني، في عهدة قارئ، أو إذ أزورها بعد وقت، أو أتفقدها بعد النشر من جديد.
فى أحيان، لا أتورع عن الكتابة، أو عن التصريح، أن ما يعنيني من القصيدة هو وجودها، معناها الذى يتعداني، لا شخصي. إلا أن أقوالي يشوبها ألم أكيد، وهو أن القصيدة قد تبقى ناقصة، بعد خروجها إلى القارئ: ناقصة عما انطلقت منه، وناقصة، إذ إنها تكون – نهائيًّا – من دوني.
("اليوم السابع"، القاهرة، الأربعاء، 23-1-2019).