فريد رمضان : رشم على كتف الماء
يطرح العمل المشترك، ”رشم“، بين الشاعر شربل داغر والفنان جمال عبد الرحيم، صيغة العمل الذي يشبه، كما في قصيدة داغر، منارة وسط المحيط، ويحمل دلالاته المتولدة من داخل النص، من عمق البحر، ومن خفايا المحفورة الفنية في تقاطعاتها وهي تتجه إلى احتمالات التجربة بين الشعر والتشكيل كدليل وسط عتمة الأزرق الفاتن بالإبحار، رغم المخاطر المتولدة من التجربة.
”رشم“ ينبع من إصرار بليغ لدى الفنان الغرافيكي عبد الرحيم في ذهابه نحو صناعة الكتاب المحدود العدد، وهو إصرار كذلك من شاعر مفتون بالمغامرة والكتابة في توليفة بين النص الأدبي والتقنية الغرافيكية. امتياز يؤكد إيماناً نابعاً من قناعات متولدة بثقة بين الكاتب والفنان، عبر خلق ”تواشجات“ تتوالد من التجربة نفسها، من دون عزل في قراءة النص الأدبي عن قرينه في الجانب التشكيلي، وهو يذهب بثقة في تأملاته التفسيرية للنص الشعري، متوازياً، ومتوالداً منه.
أثر التقنية والإبداع
أول ما تذهب إليه التجربة هو اسمها: ”رشم“، أي الأثر، وما يتركه على صفحة الورق، وهو الطباعة كأثر في صميم الفن الغرافيكي في علاقته الجدلية بين التقنية والإبداع، عبر هذه الصلة الجوهرية بين ما هو مكتوب وما هو مختوم أو موشوم. إن هذا الحوار الجدلي المستمر بينهما منذ القدم يؤكد العلاقة الأدبية بين الكلمة والحفر، بين الحفر وطباعته، بين السر والوضوح، بين النعومة والخشونة. إنه الأثر الذي يصيبنا، ونحن نتحسس الحبر واللون، بين ما نقوله وما نراه.
في ”رشم“ هناك الأثر البصري الذي يتخلق للنص المكتوب، من خبرة تقنية بارزة ومتجددة. إن خبرة الفنان الواسعة في الغرافيك تتجدد بوسائلها، وهو يقرأ نص الشاعر، بوصفه منارة التجربة التي سوف ينطلق منها العمل الفني. ذلك أن عبد الرحيم يحاول أن ينشد في تعامله مع النص ليس كونه نصاً فحسب، بل يذهب معه عبر أبعاد التقنية التي يمكن لها أن تتفجر مع آلة الحفر، فيساهم النص، هنا عبر مخيلة الفنان، في خلق الأثر البصري من عمق الشعري ودلالاته اللغوية.
تجربة الشاعر داغر في ”رشم“ تنطلق من جدلية الرجل/المرأة، يقعان بين ضفتين، يشرخ بهما الشكل الواحد إلى جسدين، قارتين، وشعبين وجنسين، لتأخذ المنارة دلالتها كبوصلة لهذا الوصال المنقطع، المتباعد. تتفجر فيها أشكال الرغبات بين جغرافية اليابسة والماء، ويكون الجسد بينهما في شتات ليصل الجزء بالجزء الآخر، وتظل المنارة دليلاً في عتمة البحث، ورشماً واضحاً فوق صفحة الماء.
هكذا تأخذ التجربة من ذاتها دلالاتها الخاصة، بين المنارة كمركز وسط عتمة الفضاء في بحث من الإبحار بين ضفتي التيه والنجاة، بحث في الجسد الضيق عن المرآة/الآخر. هل هي سفينة أم غيمة؟ وهل هذا هو الإبحار المجهول؟
هكذا تتشكل الصور الشعرية في مجازها من خلال نسج العلاقات القائمة بين عوالم الأشياء، وأنسنتها عبر إضاءات عديدة تتدافع مثل حركة الموج وهو يصطفي ضفتين، في ملامسات حنونة بين مفردات الهو والهي ككينونة اجتماعية متشكلة، تطلق نسيم لقائها المعطل عبر تنامي الصور الشعرية في سردها المتواصل لحالة القلق والانتظار والحلم.
منارة وضفتان
يتوزع ”رشم“ على اثنتي عشرة محفورة توالد منها عناصر ذات سرية وجاذبية في آن معاً. تتوالد من علائق ذات صلة بالنص، بين المنارة والضفتين، البعد والقرب، السفر والترحال، الصخر والموج، البحر والسماء، وسطح المحفورة التي تستدل إلى نفسها من خلال خاصية أساسية من حيث قيمتها التعبيرية وصفاتها الجمالية. وهي، هنا، تحاول أن تجتاز مفرداتها المختزلة محاولة إحداث تأثيرات متنوعة وغنية، على الرغم من محدودية عناصرها، الذي اقتصد فيها الفنان، ربما لتوضيح فكرته الرئيسية حيث المنارة والضفتين، وحيث الحياة هنا في منعزل لا يدع إتمام الوصال. يحاول عبد الرحيم تأسيس حريته الكاملة وانفتاحه الواعي على كل الإمكانات التقنية التي لم يستطع مقاومة سيطرتها وتأثيرها عليه، ولا سيما أن تجربته الأخيرة وظفت التقنية الحديثة في إبراز أحاسيسه مثل استخدام الأجهزة الميكانيكية والفوتوميكانيكية والإلكترونية. وإن عاد في ”رشم“ إلى خبرته الفنية الأولى في نسج الكتاب بيده، فإن الحفر يأخذ من خبراته السابقة لعبة المزج والتخيل من دلالات النص وحده دون الاستعانات السابقة، وتبقى لعبة اللون وعمق الحفر المحرك الرئيسي في الذهاب نحو نص داغر، وفي التعاطي مع مفرداته الشعرية بحرية تامة. إن هذا الاستلهام المتوالد في ”رشم“ يقدم للفنان دعماً بدأ عبد الرحيم إدراكه منذ أعماله الأولى، وهي التفاتة جوهرية حققها فنانون في تعاملهم مع النصوص الشعرية. فهذا خوان ميرو يخاطب صديقه الشاعر ميشيل ليري قائلاً: ”قدمت إلي وإلى أصدقائي عوناً كبيراً، وحسّنتم فهمي لأشياء كثيرة“. إن مثل هذا التصريح يؤكد عمق المتانة للصورة الشعرية في تفاعلها مع الفنون الأخرى، وهو دور فجر العديد من التجارب التشكيلية في تطورها مع المدى الزمني، وفي تحريك المخيلة التشكيلية في تعاطيها مع الشعر، كونه جوهر الأشياء.
(جريدة "الحياة"، ملحق "آفاق"، الأربعاء 22 آذار-مارس 2000).