سفينة المنستير الخيالية

 

كنت أعرف تمام المعرفة بأن للقصيدة - أي قصيدة - سياقاً مسرحياً أكيداً، ومن دون مخرج يديره غير الشاعر نفسه. وكنت أعرف كذلك أن القصيدة يمسك فيها في الغالب "متكلم" أو عدة "متكلمين"، وهو ما تقوم عليه أية مسرحية إذ يتبادل الكلام فيها ممثلون يؤدون "أدواراً" وضعها كاتب ويديرها مخرج. كنت أعرف أيضاً أن لكل قصيدة ما يؤسسها في علاقتها بغيرها، سواء أكان في المحيط الاجتماعي والتاريخي الذي تصدر عنه مثلما تصب فيه. وهي العلاقة التي للقصيدة مع قارىء يقف أمامها مثل شريك لازم لها. وهي العلاقة التي تصيب المسرحية مع خارجها، ومع المتفرج عليها...
كنت أعرف هذا، وكتبت فيه، ولا سيما عن علاقة "الصوت" ب"المتكلم" في القصيدة، ولا سيما في شعر صلاح عبد الصبور ومحمود درويش وغيرهما، إلا أنني ما كنت أعرف ولا كنت أحسب أن لهذه العلاقة أن تتعين في شعري، تحت نظري، في مسرح، ومع غيري، مثلما حدث لي في الأسبوع المنصرم في مدينة المنستير على الشاطىء التونسي. فقد قامت فرقة "المسرح الصغير"، بإدارة الشاعر والمسرحي التونسي سالم اللبان، بتقديم عرض مسرحي بعنوان: "عتبات للرحيل ... وللوصول أيضاً"، ضمن برنامج اللقاء الدولي حول المتوسط، الذي نظمته "جمعية الفنون والثقافة المتوسطية" التي أسسها ويرئسها الكاتب والجامعي التونسي منصور مهني (بين 13 و16 نيسان-أبريل). وهو عرض اتصل بمجموعة من قصائدي، إذ بنى اللبان منها بالتحاور مع قصائد له، عملاً عرضياً كان له من السفينة استعارة مكانية وعرضية: فوق السفينة بحارة يستقبلون ويودعون، ولهم طرق في العيش وفي التعبير تتوزع بين الشعر والأداء المسرحي والغنائي والعزفي.
لن أتحدث عن العرض بالمعنى الفني للكلمة، إذ أنني في ذلك سأكسر القاعدة التي ارتضيتها لنفسي قبل قيام العرض مع الفنان اللبان، إذ قلت له بعد مبادرته بالاتصال بي – وأنا ما كنت أعرفه قبل ذلك – بأن شعري في متناوله، يتعهده بالرعاية كما يشاء، فهذا الشعر قد عرف "الفطام" بمجرد صدوره في كتاب، وتداوله بين القراء. وكنت أريد من ذلك التعامل مع اللبان كما هو، أي بوصفه مبدعاً، له أن يتصرف تصرف المبدع في ما يرتئيه لعرضه. ولن أخل بهذه القاعدة بعد حصول العرض...
ما يعنيني قوله عن هذه التجربة هو ما راودني أثناء العرض الذي دام ما ينيف على الساعتين: تذكرت في هذه الليلة ليلة أخرى على ضفة أخرى، تداولت فيها مع صديق (معني بمهرجان ثقافي) فكرة بناء سفينة يحط فيها مبدعون من جنسيات ومهارات مختلفة، فيعيشون ويبدعون معاً فوق السفينة، مثلما يحطون في ميناء أثناء تجوالهم، وفي أكثر من ميناء، فيستقبلون ويودعون فوق الضفة التي يلقون مرساتهم فيها مبدعين، وينزلون على اليابسة ويعيشون لأيام فيها، ثم يقلعون من جديد...
كان الحلم مغرياً ومكلفاً، وما كان لميزانية الجمعية المعنية التكفل به. إلا أنني ما كنت قد انتبهت يومها إلى ما يعرفه وقدمه اللبان في عرضه، وهو أن المسرح قادر على ذلك، إذ هو البديل الخيالي عن تلك السفينة المستحيلة. فقوة المسرح تكمن في هذه القدرة التي له على الترميز، على الإيحاء، إذ يكفي أن يرفع اللبان يده في مطلع المسرحية فوق جبهته، شاداً على عينيه، لكي نعرف أنه يقف أمام عتبة استقبال للوافد البعيد... وهذا ما يمكن قوله في أكثر من علامة وإشارة اشتمل العرض عليها، بحيث اكتفى المتفرج بها لكي يسافر، فضلاً عن وجود علامات أخرى في الديكور (مثل شباك الصيد وغيرها) تسهل عملية التواصل بين خشبة المسرح وخارجها، وبين القصيدة ومبنى المسرحية نفسها.
ولقد استوقفني كذلك اسم المجموعة المسرحية، "الجسر الصغير"، التي قامت بالعمل (أحمد عياض، إيناس عاشور، ماهر الحاج عبد الله، عزة اللبان، فضلاً عن سالم اللبان نفسه الذي تكفل بالإخراج وبقسم واسع من التمثيل والعزف والغناء) إذ وجدت فيه خير تعبير، خير دال، عن هذه الأفكار: فالجسر الصغير يصلح للفنون، في علاقاتها بعضها ببعض، مثل علاقات الشعر الممكنة والقريبة من الأداء والعزف والغناء. كما ان الجسر الصغير يصلح كذلك لبناء حوار فعال بين البشر أنفسهم، ما يجمع بينهم فوق وسيط ضيق بما يتيح التعارف بينهم.
أمتنع عن إبداء الراي في العرض إلا أنني لا أقوى على إخفاء المشاعر المتضاربة التي تنازعتني فيه: مشاعر الدهشة إذ ترى الكلمات في وجوه ولباس وحركات، وهو ما كانت عليه، في بعضها، قبل أن تصير كلمات، ومشاعر الغربة عنها إذ باتت طليقة الجناحين تماماً، تمشي بقوامها حيث لها أن تشاء وكيف تشاء.
عرض المنستير سيجعلني من دون شك أعود إلى شعري بعد اليوم في هيئة زائر، في هيئة مختلفة، ومجددة.
(هي في أساسها كلمة مرتجلة بعد نهاية العرض، ثم أعيدت كتابتها، ونشرت في جريدة "الصباح"، تونس، 27 نيسان-أبريل 2006).