عمران القيسي : تواشجات بين النصين التشكيلي والشعري

الشعر بحث عن المعنى الكامن وراء المعاني المرتهنة لفنون اللغة السائدة، والتشكيل تجاوز لمعاني النص التصويري، وصولاً إلى المعنى الباطني لتراكيب العناصر التي تتألف منها ذاكرة العناصر. إذن نحن نفترض شعراً لا يتعامل مع اللغة كغاية، بل كعناصر كيمياوية تدخل في صلب التركيب وتلغي ذاتها وذوات التراكيب الأخرى، لتستنتج مادة حافلة بمواصفات جديدة، وكاشفة عن أسباب جديدة، ربما تكون بمثابة "الفلذات" الأساسية لعنصر لم يسبق له أي وجود في الكون، إلا على يد الشاعر وحده. ونفترض بالمقابل عملاً فنياًَ لا يصف المظاهر الخارجية، بمعنى لا يتباهي بتقديسها، بل يصير الذي يخترع ذاكرة جديدة لخارج جديد. إذ الفن المعاصر هو وحده المعني بتركيب المفاهيم المستجدة والنظرة الجمالية المتطورة، بقدر ما هو معني أيضا
بتكوين الصورة الذهنية التي تلغي البصري البسيط والمباشر، كاشطة جلد الغباء عن جسد الثقافة البصرية السائدة، التي تحكمت أمداً طويلاً بالتذوق والتفسير في مجمل الثقافة البصرية.
لقد خطت القصيدة العربية خطوات واسعة صوب الداخل، وفجّرت الجملةُ الشعرية عقلانية البناء الموروث عن مدارس شعرية عربية كثيرة، بعضها عدّ في الخمسينات والستينات فتحاً وتجاوزاً للحالة الشعرية السائدة، سيما وأنّ عالم "القريض" العمودي، وأبواب الشعر المعلنة، كانت حتى ذلك الزمن تفرض سيادتها من على المنبر على زمن الشعر العربي. فلا غرابة أن يشكّل رعيل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي تحوّلاً درامياً في القصيدة العربية. لكن هذا التحوّل، كما يرى ذلك العديد من أقطابه، طاول البناء الشكلي التركيبي للقصيدة، كما طاول بالطبع مواضيعها ومفرداتها.
لقد أدخل هذا الرعيل الرمز اليوناني والرمز المسيحي وأسطورة البطل، كما أدخل الكائن الإنساني، كمحور تدور حول حضوره الحبكة الشعرية. مع ذلك فقد تغيّر، مع حلول أزمنة الستينات الشرسة، مفهوم الرمز في القصيدة الحديثة في دنيا العرب، فاقتربت لغة القصيدة من اللغة المتداولة لدى المتصوّفة المسلمين، وصار الحلاج والنفري ومحيي الدين بن عربي وابن الرومي والكرفي وغيرهم علامات اللغة السائدة وشهود بنائيةِ المشهد الشعري الدارج.
والغريب أنّ الرعيل الشعري الأكثر خطورة في تاريخ الشعرية العربية، ونقصد به جيل الستينات العربي، لم يورث للجيل الذي أعقبه واكتمل نموّه مع أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، غير حالة التمرّد والتجاوز والنزعة الاختبارية. فصارت القصيدة حقلاً للتجارب، ومساحة للخروج عبر شتّى الأبواب، وبكافّة الإمكانات عن أيّ موروث شعري. وقد شهدنا تطوّراً مهمّاً في القصيدة التي تبنّت العروض الباطني للجملة الشعرية، وهناك من أسماها بالمحاولة التي أدنت الشعر من مستوى النثر. لكن هناك من تعامل معها كتصميم خطير للغة الشعرية، وجعلها أداة أكثر طواعية لممارسة الحالة الشعرية. وقد برهنت تجارب كثيرة لشعراء عرب معاصرين على أنّ هذه اللغة ليست ملكاً مشاعاً كأوزان الشعر العمودي مثلاً، أو كتفعيلات ومجزوءات بعض الشعر الحرّ غير المقفّى في بعض الأمثال. بل إنّ خاصية بنائية يستحيل أن تتحوّل إلى ملكية مشاعية، بل هي تركيز لدى قلّة من الذين يعرفون المعنى الآخر للشعر، أي أولئك الذين يسعون للذهاب صوب "الشعرية"، لا القصيدة الشعرية فحسب. وبهذا الوصف صار الشاعر جزءاً من معادلة فكرية ذات استقطاب "كوزموبوليتي"، بل كوني أحياناً، وأحياناً أخرى ذات مزاج "فرداني" خطير، يكشف عن طاقة خلاّقة متعدّدة المواهب تجبرك على التعامل معها بقدر من الوعي والشمولية.
بالمقابل سنرى أنّ لغة تعبيرية جديدة طاولت الفنّ العربي، ودفعته إلى إسقاط الوصفية، والابتعاد عن النصّ الإنشائي الذي يشكّل عنوان العمل الفنّي وشفيعه. فقد دخلت اللوحة العربية مرحلة الإسهام والمشاركة الفعّالة في بناء العالم وليس في وصفه. إنّها جزء من ثقافة بصرية تؤسّس ولا تصف، تخترع ولا تكتشف.
لقد سقطت الصورة لمصلحة الصيرورة، وتنحّت المشهدية الباردة المحايدة لمصلحة البنائية المتينة. وتنوّعت أدوات التعبير فصارت اللوحة حضوراً مكانياً بكافّة الأدوات، ويمتلك زمانه الخاص به، ويفرز شروط محاكاته منتخباً المتلقّي اللبيب.
تُرى أيّ بعد زماني ينحني لمصلحة البعد المكاني وبالعكس، في زمن وحدة الفنون، وتراصف الحضور المؤثّر للفنين الزماني والمكاني أو السمعي والبصري؟ حتى عندما نشهد معرضاً يقام بمناسبة الشعر ندرك أنّ هذا الشعر كان بلا فاعلية، لو لم يتسبّب التشكيل في حضوره بهذا الزخم البصري الخطير.
المعرض ليس عن اللوحة، ولا عن القصيدة، بل عن لحظة ارتطام قطبي المعادلة، الشعر واللوحة عند تخوم التفاعل معها في الزمن العربي الذي لم يعد يملك من أسلحة ثقافية سوى "زمكان" الحضور الواعي الذي نجاهر به محاربين الزمان الغاشم والمكان المسلوب الذي صار بمثابة المكان الضدّ.

في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة"، في العاصمة الأردنية، عمان، التقى سبعة فنانين وشاعر بمعنى امتثلوا مدلولاتها. فيما الشاعر شربل داغر أراد أن يسمّي مجموعة قصائده هذه "تواشجات"، ربّما احتفالية بالعلاقة الوشيجة بين التشكيل والشعر. ماذا علق في الطابق الثاني من متحف الجمعية الملكية للفنون الجميلة؟ وكيف يمكن قراءة أعمال الفنانين السبعة قراءات بصرية مستقلّة عن الشعر ومرتبطة به؟
يكتب المدير العام للمتحف الوطني الأردني الدكتور خالد خريس قائلاً: "يجمع هذا المعرض أعمالاً فنية سابقة على تنظيمه لعبد الرحيم، وإيتيل عدنان وهناء مال الله ومحمد أبو النجا، وأخرى خاصة بالمعرض للأميرة وجدان علي وفيصل السمرة. أي أنّنا أمام سبعين عملاً تتراوح بين اللوحة والمحفورة والدفتر والفيلم والإنشاءات الفراغية والتركيبات الورقية، وتسعى كلّها من خلال أدواتها المتباينة إلى الألفة مع القصيدة إلى "تواشجات" معها لا يقتصر على استنطاق اللفظ في العبارة وإنّما للتخيّل أيضاً.
إنّ العلاقة بين الشعر والتشكيل قديمة ومتجدّدة أيضاً، والمعرض يقدّم أنموذجاً يظهر بأنّ الفنون متفاعلة في ما بينها، وتعبّر عن وجود الإنسان والأمّة وتطلّعاتها".
يمكن القول بأنّ عمل الفنانة وجدان علي، على أكثر من قصيدة للشاعر شربل داغر، وأطلقت عليه تسمية "معلّقات"، يشكّل مرحلة رابعة، في نتاجها الغزير والمتنوّع. ذلك أنّها تخترع عالماً سحرياً من النصّ الشعري عبر كتابة تشكيلية بقلم النسخ الحرّ، وكرامة الورق ذي المصادر الثلاثية الأناقة (الهند اليابان، أندونيسيا). وهو عالم سحري من فرط ما هو موغل في الفنتازيا المرهفة لوناً وحركة. إنّنا نقف أمام لوحة لا تنتمي إلى المسطّح التشكيلي التقليدي، بل تكتسب من تضاريس تعليق الورقة، ومن طبيعة الاشتغال الحسّاس على ملمسها الحيّ، طابعاً جديداً لم يألفه التشكيل العربي من قبل. وهو يحتاج لذلك في استظهاره للعين المتلقية إلى محيط خاص، قوامه ثبات الحركة العفوية، واستمرار فكرة التعليق، بكلّ ما تحتوي الكلمات من إيجاد عفوي للورقة المتدلّية فوق الورقة الأخرى، والتي تصرّ على أن تبرز الحيّز المسموح به للمتلقّي.
إثارة أو استثارة العين لكي تكشف سرّ الورقة الثانية، هو الذي يدفع بالنصّ الشعري المكتوب لأن يتقدّم خارج كلّ كتابة تشكيلية معهودة سابقاً، حتى لكأنّ المكان الذي ثبتت عليه الورقة صار أقرب إلى معلّقات الشعر قديماً. فهل كشفت هذه الفنانة عن حضور قديم ومجدّد للقصيدة الحديثة؟ أم أنّها أكّدت أنّ التشكيل الذاهب صوب الشعر يستحيل هو الآخر، إلى نصّ مركّب وشفّاف على قاعدة من الملمس اللوني المستقى من الألوان المائية وفانتازية الملمس الحسّي؟
عندما نطّلع على الإنتاج الإبداعي لفنانة بمستوى هناء مال الله فإنّنا سوف نضطرّ لأيّ إجراء مقاربة أولية بين نصين: أولهما أو أعلاهما هو البيان الفكري، الذي يتقدّم من خلاله موقفها، وليس لوحتها، من العملية الإبداعية، ومن الحالة التشكيلية، وربّما من لوحتها، وثانيهما نصّها التصويري الذي هو النتاج أو البيان البصري الذي يقابل البيان البلاغي الفكري، وبما ينعزل عنه أو يلتقي به.
من هنا لا بدّ من الذهاب صوب العمل، بمعنى معاركته أو مواجهته، بوصفه الحقيقة الكلية التي أنتجت عبر طاقة وفكر تأويلي وتأمّلي يستند إلى مطالعات نقدية في موضوع الفنّ المعاصر. وتقترب الإحاطة الفكرية التي منحتها الفنانة مال الله لوحتها بما قام به بعض الفنانين-المفكّرين من أمثال العراقي شاكر حسن آل سعيد.
إنّ لوحة هناء جديرة، مثل مواقفها التنظيرية، بل أكثر منها بالدرس، ومنها دفاتر فنية عديدة سابقة منطلقة من قصائد مختلفة للشاعر شربل داغر، أو أعمالها المنفّذة خصّيصاً لهذا المعرض. وإذا كانت الفنانة توقّفت في ما سبق أمام جهد داغر المميّز، في درس "الحروفية" من جهة، وفي درس "الحسن" القديم، في غير كتاب ودراسة له من جهة ثانية، فإنّها ما لبثت أن توقّفت أمام شعره. إذ إنّها وجدت بدورها بين عمل داغر الشعري وعمله الفكري أسباب صلة وتواشج، شبيهة بما تجريه هي بدورها فوق اللوحة وخارجها.
فهذه الفنانة تنطلق من اجتهاد تأليفي يفرض حالة الاستقطاب المضموني للقوى المتصادمة، سواء ضمن نظامها البصري التردادي (لا سيما المربّعات بالأسود والأبيض)، أو من خلال الأنظمة الهندسية الأخرى المرسومة على المسطّح، أو في تعويلها المتأخّر على خطوط مسمارية. غير أنّ عملها، بما يقوم عليه من تلصيق وألوان "مقتولة" وغيرها، ليس عملاً تصويرياً يهدف إلى إعلان مضامين جمالية مريحة، بل تفجير للعناصر يجري داخل محتويات مسطّح ينزع ذاته من الصورة لتجاوزها صوب فكرة الصورة.
تنطوي أعمال الفنانة اللبنانية غادة جمال على قدر من التلاقح المضموني، أكاد أقول الفكري، بين النصين الشعري والتجريدي. فهي إذ تنفّذ بالزيت مسطّحاً صامتاً، تعمد إلى إقحام الضجيج في داخله. إنّها لا تزرع الفوضى، بل تعيد ترتيب الحركات الطائشة لكي تصير أصواتاً متجانسة تخدم في النتيجة البناء التجريدي اللوني العام. وهو تجريد غنائي، لكنّه ليس منفصلاً على الإطلاق عن حالة التقاط البؤر "المنياتورية" (أي المصغرة) من المنظور الطبيعي.
ستبدو غادة جمال كاتبة نصّ أكثر ممّا هي راسمة ومؤلّفة بصرية لنصّ تصويري، والسبب أنّها سبق واشتغلت على فكرة النصّ الصامت وحوّلته إلى لغة تفصح عن مضامين شتّى. لذلك عندما ستحاول أن تلتقي مع نصّ شربل داغر الشعري، فإنّها سوف تضع الشعر برمّته عنواناً لبناء درامي تجريدي يضجّ بالبراعة والعقلانية، لكنّه لا يبتعد، كما قلت، عن المفردة "المنياتورية" للطبيعة التي لم تغب يوماً عن رؤية غادة التشكيلية.
يذهب جمال عبد الرحيم إلى المدى الأبعد في ممارسته للحفر رسماً أو غرافيكا مباشراً، فهو تقني بامتياز، لكنّه أيضاً صاحب أفكار، أو بالأحرى صاحب فكرة يبقى يلحّ عليها ويتناولها بتكرار "رهيب" حتى يقدم لنا عبرها آلاف التفاسير. وهي تلتقي، بمجملها، مع هواجسنا الثقافية، وربّما الشعرية أو الشاعرية.
في المجموعة التي أنتجها هذا الفنان البحريني الكبير، وعلّقها في معرض تواشجات عن قصائد شربل داغر، هناك حركة مشطورة لبناء قوسي. هذا البناء الخطير، الذي يكاد يكون علامة شرقية أو إسلامية بامتياز، يحفل بقوى متناقضة ومتحرّكة، لذلك يمكن التركيز عليه، إمّا بوصفه مفردة قائمة بذاتها، أو بوصفه المعطى المحرّك لديناميكية فاعلة على مستوى المسطّح التصويري كلّه. وهنا يبرز الفنان أهمية البناء اللوني "الكونتراستي" (التضادّي)، إذ يلتهب الأصفر حين يلامس الأسود، والابيض حين يلامس البنّي. ولهذا فإنّ قوّة المحاكاة في اللوحة التي أنتجها الفنان جمال عبد الرحيم صعدت من حالة الاقتراب من النصّ الشعري، وجاءت اللوحات المعلّقة في هذه المناسبة إعلاناً خبرياً عن احتفالية التشكيل بالشعر.
ربّما لأنّ إيتيل عدنان شاعرة بالفرنسية، وكاتبة نصّ، وفنّانة حروفية، تقدّم قدسيّة النصّ المكتوب، كما تبجل صفاء اللون على ذلك "البرفان" الذي يستحيل إلى الدفتر أو اللوحة التي تتحوّل إلى ألق.
هذه الفنانة الشاعرة، وهي تتعامل مع البياض، بلغات شاعرية شتّى تبدأ باللون وتنتهي بالنصّ المكتوب بالفرشاة، إنّما تخترع لذاتها فضاءً تشكيلياً سيجد في الشعر سبباً وضرورة من ضرورات تجلّياته العليا. لذلك فإنّها حين أسهمت في معرض "تواشجات"، واحتفلت أيضاً بقصائد شربل داغر، فإنّما كرّمت ذاتها، وقدّمت أطروحتها الفنية في الوقت المناسب والمكان الملائم. ولهذا نذهب مع لوحات إيتيل عدنان في سياحة ثقافية شيّقة، حين نزور تلك العوالم التي اشتغلت عليها باللون والنصّ المكتوب بالفرشاة المخضبة بالأسود "الغواشي".
حين كنت في اللجنة التحكيمية العليا لبينالي الإسكندرية سنة 2001، لفت انتباهي وانتباه أعضاء اللجنة عملٌ تركيبي ينتمي إلى الفنون التجهيزية الوظائفية، هو عبارة عن جدار محشوّ بالكتب وقد مرّت عليه النيران وأحرقته، إشارة إلى إحراق الكتب العربية في زمن الممنوعات. ولكن من شِقّ في ذلك الجدار يخرج شريط ورقي، فيه رموز رقمية، ويسيطر على القاعة برمّتها كإشارة لميلاد الكتاب الرقمي، ومعاندة حضور النصّ على مدى العصور. وكان العمل لمحمد فتحي أبو النجا من بين الأعمال التي فازت في ذلك البينالي الدولي.
الآن، وفي معرض "تواشجات" من شعر شربل داغر، أصادف أبو النجا ثانية، لكنّه يقدّم هذه المرّة إعجازاً في الحفر عبر المواد المختلفة، وكأنّه يصوغ لوحة "المونو" اليتيمة التي لا تتكرّر.
لذلك يعمد إلى تطبيق كتابه وربطه كحزمة، كما يربط لوحته ويشدّها رغم تكسيرات الورق الكارتوني. إنّه يقدّم تلك الجدلية المجدية بين الذكر والإمحاء، أي بين أن تكون اللوحة وجوداً موحّداً، أو وجوداً يتوحّد بالضرورة. إنّها فكرة القصيدة أيضاً، وهي فكرة خلاّقة عن الشعر الذي يوجد لأنّ الضرورة أوجدته أكثر ممّا أوجده الشاعر، بل حتى لكأنّ الشاعر هنا هو ضرورة العصر.
أعمال هذا الفنان المصري الشاب ذروة في البلاغة والتقنية، ومشحاته اللونية هي كشف عن مقدرة فذّة لحفار عربي يطبع بالنجيع والروح علاقته الدموية مع النصّ.
يجهّز الفنان السعودي فيصل السمرة بالفيديو أعماله، التي حملت اسم "تحوّلات"، كاشفاً عن الدور الذي تلعبه الكاميرا والصورة المتحرّكة لإحياء التقليد الأساسي لنقاط التقاء الكاميرا بالفرشاة بالقلم. وبمعنى آخر فإنّ ما يُحله هذا الفنان في هذا التجهيز الفيديوي ليس الكشف عن التحوّلات، بل ربطها ربطاً فردياً بالحالة الشعرية التي اشتغل من أجلها وبسببها مقدّماً عدداً لا يحصى من الصدمات الكهربائية للمتلقّي.
يقول شربل داغر:
"لباب يفضي ولا يفضي
تدخل منه
وتخرج منه أيضاً
عنواني يسبقني
فيما اتهجّى حركاتي
إلى ضيوف يستقبلونني
في ما هو بيتي
ورقة غافلة
شكل مبني على المجهول
لمقيم افتراضي
في جلاء الرسم"
هذا النصّ الشعري سوف يضعنا فوراً أمام كشوفات لقارات من الأسئلة المحرجة واللاغية. إنّها محرجة لأنّها سوف تتجاوز الحالة الشعرية لتصل إلى المصير الاستقطابي لثقافة عصر برمّته. وهي لاغية لأنّها لا تتقيّد مطلقاً بما اصطلح على تسميته سابقاً بنقد الشعر. فنحن سوف ننقد بمعنى نتناقش تفاعلياً مع أفكار. هل الشعر عند شربل داغر هو ومضة فكرية؟ ثم من هو المخاطب بهذا الشعر؟
إذا بحثنا عن جواب للإشكال الأول، فإنّنا سوف نجد أنّ هذا الشاعر كشف لنا أمراً جديداً لا يعتمد مطلقاً على نظرية "الشرقطة" أو التماس الكهربائي، حيث الجملة التي تنفجر بتناقض كلماتها، بل ذهب إلى بداهة الصياغة، من ضمن قسرية الاستنتاجات. "عنواني يسبقني فيما أتهجّى حركاتي": جملة تكاد تكون تقريرية، لكنّها ليست كذلك لأنّها تكشف عن علاقة وثنية بين الإنسان وعالمه، عن هذا التدمير المتبادل بين الخارج والأنا. لذلك سوف نذهب او نلتفّ من الباب الخلفي باحثين عن هذا الصوت الثالث السرّي الذي يقف بيننا وبين الشاعر. "هذه الكرسي خالية/ لجالس لا يتوانى عن القدوم/ من دون أن يصل": إنّه يقترب كثيراً من "غودو" الذي ينتظره اثنان بلا طائل؛ والكرسي هو مفردة من كراسي "يوجين يونسكو"، التي تنتظر الرواد أيضاً. لذلك سيبدو الصوت الغائب الحاضر الذي يشير إليه بالإصبع الحادية عشرة شربل داغر هو السبب المنطقي لتجليات الاستغاثة الدفينة في قصيدة هذا الشاعر المثقف.
شربل داغر يقرّر مسبقاً وبإحصاء ذكيّ خسارات الإنسان المدرك لإحباطات عالمه الذي يعيشه مجبراً. لذلك فهو جزء من بنية الانكسارات السائدة في وطن لا يملك غير طواعية اللغة، وعليه أن يتعامل معها باقتصاد ذكي كي لا تنضب وتضمحلّ وتصير مجرّد أصوات تتردّد بلا معنى.
هناك كتابات كثيرة عن الشعر وفي الشعر، والشعر مكتوباً، لكن مع الزمن باتت تلك الكتابات مجرّد لغة مركّبة لصور تتساقط لكثرة ما فقدت من "خامات" التصاقها، وصارت تقرأ لكي تنسى سريعاً. لكن قصائد شربل داغر ستبدو من النوع الذي يذهب معك إلى أبعد زوايا صمتك ووحدتك، فلا تعرف لماذا تردّد مع نفسك قائلاً: "أعاين ما يطالعني/ يأتي قبلي ويبقى بعدي/ لكي أتدبّر خلاءً موحشاً/ لا يلبث أن يلتمّ على سره/ أرى فأكتب، فلا تسرع الألفاظ أمامي". هنا القصيدة لا تشرح حالة فردانية، بل هي وقع كورال جماعي، فربّما ذات يوم نحتاج أكثر لمثل هذه المرثيات الصعبة.

(جريدة "الخليج"، الشارقة، 2 شباط-فبراير 2004).