لو طلبتُ الدخول إلى العربية في يوم عيدها لوجدت أبوابها بين مفتوحة وموصدة، مستدركاً أن بوابات الخروج هي بوابات الدخول أيضاً. هذا يشير إلى حالة بينية أكيدة، إذ يصف حالاً بقدر ما يحدد نزاعاً فيها. ولو انطلقتُ من هذا، لقلتُ بأن العربية تقع في بينية أخرى : بين نموها التلقائي، وبين نموها النسقي. فما المقصود من ذلك؟

من المؤكد أن العربية تنمو، ويزيد عدد الناطقين بها، إذ بلغوا ما يقرب من النصف مليار، في إحصاء أخير لمنظمة اليونسكو. ولو طلبتُ التوسع في معاينة هذا النمو، لأمكنني التنبه إلى أن ما يقارب المليار ونصف المليار يحتاجون إلى العربية دينياً، عدا أن عدداً من اللغات يحتاج إلى العربية في أبجديات الكتابة، فضلاً عن دخول الآلاف من ألفاظها في أكثر من لغة في العالم.

مع ذلك يمكن القول إن هذا النمو يركن إلى الإرث القديم، الإسلامي أو العثماني، فهو "نمو البقايا"، إذا جاز القول؛ أي لا ينتسب إلى مقومات انتشار تقع في الاحتياج إلى العربية : في المحادثة، في التواصل، في الدبلوماسية، في البحث العلمي، في الإشعاع الثقافي أو الأدبي وغيرها. هو ما يمكن تسميته بالنمو التلقائي، إذاً، الديموغرافي، أكاد أقول؛ وقد يتباهى به البعض على أنه دلالة قوة، بل ينجز الغلبة. يكفي للدلالة على ما أقول ملاحظة التباين بل الهوة بين متكلمي العربية وبين صيغة من صيغ حضور العربية، وهي معدلات الإقبال على الكتاب بالعربية. وماذا عن النمو الآخر، "النسقي"، كما أطلق عليه؟

يتوقف دارسون ودارسون عند وجوه وشروط مختلفة لها أن تنمي العربية، سواء في المدرسة، أو في درس الخطاب، أو في الإملاء أو القواعد وغيرها من وجوه مثول العربية. وهي وقفات مفيدة في الفحص من دون شك، ولا يعنيني التوقف عندها في هذه الكلمة المقتضبة. ما أريد التوقف عنده هو : سياسات العربية، التي لها أن توفر لها نمواً نسقياً، كما أطمع في القول.

يعاني طالب العربية من مشاكل جمة في تعلمها، منها ما يتصل بإملائها، بقواعدها، بعدم توافر كتب دراسية صالحة لها. يتبرم طلبة اليوم من العربية، إذ ليست جاذبة لهم، عدا أنها لا تواكب اندراجهم في عالم التواصل المعولم، بل تكاد أن تصبح اليوم اللغة الموصوفة لخطباء العنف الديني-السياسي. فيما يعجز حتى أساتذة العربية عن التعليم بها، بل تُربكُهم الكثير من الأسئلة من طلابهم عن عدم وجود كتب تعليمية للعربية مشابهة لما هو موجود في تعليم الإنكليزية أو الفرنسية وغيرها. فكيف لا يزداد عدد الخارجين من بوابات العربية، فيما هم مقيدون فيها (بأكثر من معنى) اسماً وعدداً!

مع ذلك أتساءل : ما الذي يضمن - لو توافرت حلول ومقترحات صالحة لهذه المشاكل – حسن بلوغها إلى العربي، وإلى نمو العربية بالتالي؟ وهو سؤال يعني صراحة الوقوف عند سياسات العربية. فماذا عنها؟

في إمكان الدارس أن يلحظ افتقار العربية إلى مؤسسات تتعهد نموها وتتكفل به؛ وهي مؤسسات لها أن تنعم بشرعية تؤهلها للبت في سياسات اللغة. هذا ما يقوم به "المجمع اللغوي" عادة من دون أن يقوم به عربياً؛ وهو ما تقوم به عملياً لجان اختصاصية في وزارات التربية والتعليم، ودور نشر الكتاب المدرسي أحياناً، من دون أن يرتكز عملها، حتى في داخل البلد العربي الواحد، إلى شرعية لغوية مقرة ومتفق عليها. نتحدث عن العربية عموماً، لكننا لا نقترب عملياً من ميادين إنتاجها ورواجها واستعمالها في البلد العربي الواحد. وهو ما أستجمعه في الكلام عن شرطين في هذه السياسات :

الشرط الأول تقعيدي، وهو يتناول نصاب العربية اليوم، ما لا قيام له من دون الإقرار من قبل الحكومات العربية بلزوم وجود هيئة ناظمة للعربية تتعهد قيام إصلاحات فيها لرواج عصري مطلوب للعربية؛ ولهذه الهيئة أن تتناول مشكلات في إملاء العربية، وإعرابها، وقواعدها، أي في نظام اشتغالها؛

أما الشرط الثاني، فهو تنظيمي، يتناول وضع السياسات لإيصال هذه العربية العصرية إلى الأطر والقنوات التعلمية والإعلامية، من خلال المعاجم خصوصاً، وعبر سياسات النشر ولا سيما للكتب المدرسية.

ما أقترحه أقوله من باب الأمانة، إلا أنني أشك في إمكان دخوله في النقاش حول أحوال العربية. ذلك أن ما يعيق تقدم العربية هو هذه الخشية المتعاظمة من أي فحص لها، من أي إصلاح مقترح لها، ما دام أن هذه الخشية تنبع من كون الإصلاح يهدد الدين الإسلامي حكماً. قد لا يجروء الحاكم العربي اليوم على طرح السؤال اللازم عن العلاقة بين الدين والسياسة، وبين الدين واللغة، إذ إن في طرحها ما يثير أساس الشرعية. فهذه المشاكل تتعدى رسم السياسات نفسها، إذ تصيب أساس السياسة في هذه البلاد. وهو ما أصوغه في عدة أسئلة : إن الأساس القومي هو من جملة شروط نمو اللغة، أي استنادها إلى صلة متقادمة بين الهوية واللغة في محيط جغرافي بعينه، هل يمكن القول إن مثل هذه الشروط متوافرة في عالم العربية؟ هل تشكل العربية لغة قومية فعلاً، أم أن محددها الديني هو الحافظ لنموها (في اعتقادات بعض أهلها)، وهو المعيق لها في الوقت عينه (في حسابات غيرهم)؟ وماذا عن العرب أنفسهم؟ أهم يشكلون قومية أم أن محددات المذهب والجماعة والقبيلة هي التي تملي شروطها على اعتقاداتهم وسياساتهم؟

لهذا تبدو العربية لغة محكومة بالماضي، لا بنداءات الأفق؛ بل يبدو مستقبلها محجوزاً بمعنى من المعاني. ولا تكون العربية في هذه الحال في خدمة مستعمليها وكاتبيها، وإنما في خدمة نص بعينه على أنه اللغة واقعاً. القرآن نص ديني، فيما العربية تاريخية، ولها أن تلبي حاجات أهلها، وأن تكون لغة حياة، أي لغة وجودهم؛ وإلا وجدتَ العربي يعايش أزمنة مختلفة في الوقت عينه، ما يولد تناقضات عصية على الفهم، وعلى الحل خصوصاً. هذه الهالة التي يُحيط بها البعض القرآن، تصل عند غيرهم إلى حدود استعمال القرآن وتوظيفه : يريدون من هذا الاستعمال التحكم بالرقاب، لا بلفظ القرآن وإملائه.

تكاد أن تكون العربية، اليوم، لغة عشوائية في تراكمها، في انتظام أحوالها، هنا وهناك، بل هي مكروهة من قسم واسع من أهلها، ولا سيما من الشباب فيهم، وتقتصر في جانب كبير من حضورها على المحادثة والأغنية والفيلم والمسرحية، فيما تتراجع معدلات الإقبال على أدبها، وعلى درسها الاختصاصي. فمن دون إصلاح العربية، ومن دون وسائط لتعميمه، ستؤول العربية إلى حال من التباين المتعاظم بين كتابها (وهم يقبلون على تطويرها وتحسينها) وبين أهلها، ستؤول إلى نوع من الأمية الكتابية، التي تعززها وسائل الاتصال الإلكتروني، ولا تخفف منها أبداً.

ذلك أن الدارس لا يغفل عن وجود فاعلين نشطين يعملون على تنمية العربية في لغاتها السارية، بين الشاعر والروائي والمترجم والصحفي - لو شئت الاختصار -، أو في خطاب العلوم الإنسانية، ولكن ما الذي يكفل أن مثل هذه الإسهامات قابلة للتعميم، سواء في البلد العربي الواحد أو في جميعها؟

كتب ابراهيم اليازجي في العام 1900 في مقال شهير بعنوان : "اللغة والعصر"، يقول فيه : "وإذ اللغة بأهلها"، وهو ما أحيله عليكم، لنسأل المعنيين بالعربية عن عربيتهم، لا العكس.

 

 

ملخص :

تتوقف الكلمة عند حاجات إصلاح العربية، ولا سيما في التعليم، ملاحظة أن العربية تنمو نمواً ديموغرافياً، ولكن من دون أن يكون نسقياً، ولا ترعاه سياسات ذات أساس شرعي، ولا تتعهده وسائط فاعلة وجذابة لإيصاله وقيامه. وتتساءل الورقة عن إمكان الإصلاح في العربية طالما أن الخشية الدينية تعطل المبادرات، فضلاً عن أن بعض أسس الإصلاح قد يكون مهدداً هو الآخر : لا يزال المحدِّد الديني هو الغالب في النظر إلى العربية، ولا تزال المحدِّدات (المذهبية والقبلية وغيرها) هي الغالبة في النظر إلى قومية اللغة.