كيف يحدث أن الأسماء المستعارة للشاعر القروي وبدوي الجبل وأدونيس وغيرهم من أعلام الثقافة العربية في القرن الجاري (العشرين) سبقت أو راجت بل حلت مكان أسماء هؤلاء الشعراء العائلية ؟ وهو سؤال لا يعفينا، بل يستدرجنا إلى طرح سؤال أبعد : أيعني إخفاء الاسم العائلي، وإعلاء الاسم "الفني" أو "الحركي"، تبديلًا لعلاقات طبيعية، وهي لزوم الاسم العلم لكل ما يصدر عن الكاتب ؟ وما يكون مقتضى العلاقات الناشئة في هذه الحالة ؟
وهو سؤال يقودنا، هو الآخر، إلى استبيان ما هو عليه فعل الكتابة، بما فيه تبعات ما يقوله الكلام وما يؤدي إليه خارجه، بين الاسم الاجتماعي، من جهة، وبين "أصوات" الكاتب نفسه، من جهة ثانية.
ولنا في هذا المجال أن نميز بين الاسم الفني وبين الاسم الحركي، بين اسم يقوم على إخفاء الاسم الحقيقي خشية الملاحقة السياسية، وهو ما نلقاه في أدبيات البعض، ومنها أن يقوم مناضل، بل "زعيم" حزب قيد الإنشاء، مثل أنطون سعاده، إلى توقيع مقالاته باسم آخر : "هاني بعل"، كما كان يكتبه. وهو تقليد وجدناه في أدبيات هذا الحزب وسلوكياته، مع الشاعر الراحل كمال خير بك، وإن لم يشتهر به، وقبله مع الشاعر علي أحمد سعيد قبل اسمه الذائع الصيت : أدونيس، في فترته الحزبية.
إلا أننا نجد، لو طلبنا المقارنة، أن غيرنا من الأدباء، وفي بلدان منشإ هذا التقليد بالأحرى، أي أوروبا، عمدوا إلى هذا الفصل طلبًا لتمييز الاسم الوظيفي - المهني عن الاسم الإبداعي، وهو ما نلقى صورته الأبرز في اسم سان-جون برس، الذي فضل اعتماد هذا الاسم لتمييز ما يقوله عما يفعله في المهنة الرسمية إذ كان كبير موظفي الخارجية الفرنسية، فيما لم يفعل ذلك "السفير" بول كلوديل، ولا صلاح ستيتيه في بلادنا بعده، ولا نزار قباني في أثناء عمله الدبلوماسي، ولا ليوبولد سيدار سنغور ولا غيرهم الكثير. وهو تقليد كان له أن يسري - لو أردنا تطبيق القاعدة - على عدد كبير من الأدباء والشعراء العرب الملتحقين بوظائف حكومية، ولو أقل شأنا و"حساسية" من العمل الدبلوماسي، إذ تقضي قوانين التوظيف الحكومية في غالب الأحوال بعدم جواز قيام الموظف بأي عمل علني من دون الإذن المسبق من إدارته، وهو ما لا يفعله الأدباء الموظفون على ما نعلم.
ولعل بعض الشعراء طلب تغيير الاسم، مثل الشاعر القروي أو بدوي الجبل أو أدونيس وغيرهم، لأسباب "فنية" خالصة، أي تعميم صورة فنية مرجوة ومستحبة عنه، تؤكد على وجه من نتاجه أو على "الصورة" التي يطلب تعميمها وترويجــها عنه. غير أن هذه الأحوال - وهي قليلة في نهاية المطاف - لم تبلغ ما عرفه الشاعر البرتغالي فرنندو بيساو الذي عمد إلى استعمال أكثر من خمـسة أسماء فنية له، بل بلغ به الأمر حدود اختلاق سِيَر شخصية لكل واحد منها.
هذه الأحوال المختلفة - على تقلبها - لا تلغي ولا تبعدنا عن طرح السؤال الذي نطلبه، وهو : أيُّ علاقة ينشئها الأديب عمومًا، بين ما يقوله فعليًّا وبين من يتحمل تبعات هذا القول ؟ أو كيف يؤثِّر نوع القول ودرجته وطبيعته على اسم من يقوله ؟ وهل يمنع تمسك الأديب باسمه الصريح من القول غير المباح ؟ وهل يخف أو يُمحى هذا التمنع إذا اتخذ الأديب اسمًا آخر له ؟ وهي أسئلة تؤدي بنا إلى الوقوف أساسًا على طبيعة العلاقات بين الاسم والأصوات التي تعتمل في الأديب إنسانًا وفي الإنسان أديبًا
ولنا في هذا السياق أن نتذكر، بداية، أن شاعرًا مثل هنري ميشو أصر طوال حياته على منع نشر صورة فوتوغرافية له، بل سارع إلى مقاضاة جريدة "ليبيراسيون" الفرنسية في أخريات حياته حين عمدت إلى نشر صورة فوتوغرافية له، وإن جانبية. وهي حالة متطرفة ربما، إلا أنها تكشف نوعًا من العلاقات طلبَها الأديب أحيانًا، وتقضي بالفصل التام بين كلام الأدب وبين الشخص، سواء احتفظ باسمه الأصلي أو بغيره؛ وهو نوع من الفصل بين قوة الكلام في مادته نفسها وبين "تسلُّم" اسمٍ محدد لحاصل مردود هذا الكلام. ذلك أن الفصل بينهما يعني فيما يعنيه "تحرير" الكاتب من إلزامات وإكراهات قد يضطر إليها - وهو يضطر إليها واقعًا - لتمرير كلامه، إذ يخشى من نسب الكلام إليه، من تحمل تبعاته الاجتماعية بالأحرى.
وهو ما لنا أن نتعقبه في سؤال آخر : هل يكتب الكاتب بمقتضى ما تمليه عليه اعتمالات نفسه، وتفكيره المجرد من قيود وإكراهات، أم بمقتضي ما تمليه عليه صورته الرائجة ؟ وهو ما نتبعه بسؤال أصعب في حالتنا العربية : ألا يكتب الأديب العربي في أحوال عدة بمقتضى ما يمليه عليه اسمه، ومكانته، بل رتبته المتأكِّدة في الحساب الاعتباري، وتأكيدًا لها ؟ وهو سؤال يدفعنا إلى تناول "اجتماعية الأدب"، إذا جاز القول، في هذه العلاقات، إذ إن الأديب - بعد طول إلحاق بديوان السلطة، قبل تداول السوق وشروطه، وبعد طول وقوف خلف الفقيه والمفسر - يسعى منذ أواسط القرن الماضي (العشرين) إلى تأكيد سلطة، وموقع، ما كانا له، وإن طلبَهما في غير وقت وعهد.
وهو سعيٌ نجده في تنطح الأديب العربي المتزايد لاستلام موقع، لحيازة رتبة، يكون فيها "ناطقًا" باسم المجتمع، باسم أكثريته أو بعض فئاته "الراجحة"، على أن فعل التصدر، لا الإبلاغ ولا البوح، هو المطلوب في هذه العمليات. ولا يتحقق السعي هذا إلا في الكتابة، في استحواذ الكلام، في نسب الكلام إلى قائله في صورة مبرمة ليكون فيها الاسم العلم محطَّ القيمة وعلامتها، وليكون "عائد" الكلام ومردوده متراكمًا في الاسم قبل الأدب نفسه. هكذا يحدث لنا، في عملية عفوية ولكن دالة، أن نتذكر بعض الأسماء اللامعة في العربية من دون أن نتذكر أيًا من كتبِها أو من نصوصها، فيما نتذكر لبعض الغربيين أعمالهم الأدبية من دون أسمائهم أحيانًا
وهو كلام يقودنا إلى الوقوف في صورة مقربة على إمكان تحول، أو عدم تحول الإنسان إلى كاتب، باستقلال عن محدداته التي تقيده في عائلة أو في بيئة بعــينها. ذلك أننا نقع في كتـابات غير كاتب عربي على ما يفيدنا بأن الكاتب يمتنع عن قول الحميمي البحت اتقاءً لصدم الجمهور، وهو ما لم ينجح فيه هذا الكاتب إذا هاجمه أهل قريته، مثلما حصل في مصر، لأنه قال في هذه القرية ما لم يقبل به الأهالي، غير مميزين بين التخييل والتصريح. وهو ما يمتنع عنه الأدباء كذلك بعد أن يكونوا قد بلغوا رتبة ما، أو شهرة ما، في أوساط أهلهم أو بلدهم، فتراهم يكتبون بمقتضى ما تمليه هذه الشهرة، وحفاظًا وتعزيزًا لها.
وهي أحوال ترينا انصراف الأديب إلى ما يحدد كتابته من خارجها، من مردودها، من اجتماعيتها، لا إلى ما يقيم الكتابة في شروطها، في الأمانة لما يجب أن تقوله، وما تقتضيه تقلبات المعاني والأحوال.
وهي أحوال لنا أن نميز فيها كذلك بين كون الأديب "ناطقًا" أو "منشدًا"، إذ يدعونا في أدبه إلى أن نكون في قاعة عمومية، على أننا متشابهون ومتلاصقون، وبين كون الأديب "صوتًا"، بل أصواتًا في الحنجرة الواحدة، يدعونا إلى السماع، بل إلى الإنصات الشديد، وإلا لفاتنا ما يقوله متقطعًا أو خافتًا.
وهو ما نتحقق منه في نقد الأدب كذلك، إذ إن النقاد - والصحافيين في مقدمتهم - يميلون إلى تناول هذا الأديب أو ذاك، وإلى تخصيص مكانة له، نقدية ودراسية، لا لما تناولوه فيه وتحققوا منه، بل لما انتهى إليه هذا الأديب من سمعة وصيت ورتبة. إلا أن لهذا حديثًا آخر...
(جريدة "الحياة"، ملجحق "آفاق"، لندن، 12-4-1999).