(صدرت هذه الدراسة في كتاب : "التقليد والحداثة وما بعد الحداثة في المجال العربي"، لمجموعة باحثين، من إعداد : مشير باسيل عون، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2017، ويشتمل على دراسات المؤتم الفلسفي الأول بين 4 و5 تشرين الثاني-نوفمبر من سنة 2016؛ وتقع الدراسة : صص 113-181).

 

تنطلق هذه الدراسة من "لحظة" تعريف وسجال، خاصة بالشعر العربي في العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين، وتجتمع حول مقالات لـ : يوسف الخال، ونازك الملائكة، وأدونيس وغيرهم، استبينت ما هي عليه حال الشعر العربي، وما يمكن أن تكون عليه القصيدة المجدَّدة. هذا ما تبلور في ما أسميه : "الخطاب الموازي"، أي في خطاب رسم للشعر أفقاً جديداً له، بل أبعد من الشعر نفسه؛ وهو ما جعل هذا الخطاب متعالقاً مع خطابات العلوم الإنسانية، ومنها الخطاب الفلسفي تحديداً، ما يعني أن في إمكان الدارس استبيان التمثل الفلسفي في الخطاب المرتبط بالشعر... فكيف إن كان هذا التمثل بالذات هو من التجليات والتعبيرات الأولى في تعيين : الحداثة في الخطاب العربي.

 

 

يوسف الخال : "خطة" شعرية

يمكن القول، ابتداءً، إن الشعر المتأخر قام، في جديده، على بناء علاقة باتت واجبة بين الشعر والمعنى، بل مع ما هو أبعد من المعنى، إذ عنى في الغالب معنى فلسفياً، لا تقنياً أو بلاغياً أو "فنياً". ولقد وجدتُ مناسباً التوقف عند ما يتعدى الاسم، ويبلغ الخطاب نفسه، أي المقالات التي اعتنت بالقصيدة التجديدية، أي بتعريفها وعرضها وتعيين مفاهيمها، فضلاً عن نقد القصيدة التقليدية.

وجدتُ مناسباً التوقف عند مجموعة مقالات للشاعر يوسف الخال [1]، بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات من القرن العشرين، بعد أن تحققتُ، في ما كتبه، وفي ما قام به، من وجود "خطة" قلما عرفَها الشعر العربي في تاريخه، وهي أن يضطلع شاعر، بل أن يتنطح إلى إنشاء "حركة" شعرية (وفق تعبيره)؛ وهو ما بدأ به مع تأسيس مجلة "شعر"، وما أحدثتْه في ما يتعدى الشعر اللبناني نفسه. يؤكد الخال في العام 1962 : "طبيعي أن مجلة "شعر" تقود حركة شعرية (...). مجلة "شعر" حركة، لكنها حركة جوهرها البحث والتطلع والكشف – خارج كل قيد، خارج كل انضواء، خارج كل إيديولوجيا" [2]. وإذ يتمُّ الحديث عن "خطة"، يراد من ذلك الحديث عن خطاب-موقف يقرن الشعر برسم معنى، أو بتوخيه، في راهن التجربة الشعرية. فتأسيس مجلة، ودار نشر، وندوة نقاش، وانتظام علاقات ومراسلات وكتابات بين أعضائها [3]، يرسم منظومة أقرب إلى الرابطة أو الجماعة، وإن لم تبلغ العضوية، وتتيح لأفرادها الكثير من الحركة أو الخروج عليها [4].

لعلنا نجد في "محاضرة" ليوسف الخال استهلالاً لازماً لهذه الخطة، إذ ترافقت مع صدور المجلة نفسها. يوسف الخال لا يشير، في عنوان محاضرته، إلى "الشعر الحديث" [5]، غير أن هذه الصفة تستحوذ على أطراف الكلام في المحاضرة : يتتبعُ الخال شيئاً من تاريخ الشعر في لبنان قبل القرن العشرين، فيلاحظ بعض علامات التطور، ولا سيما في العقود الأولى منه، ما يشير إلى أن الأدب اللبناني "أشرفَ (...) على مرحلة جديدة، ولا أقول حديثة، في تاريخ تطوره" (م. ن.، ص 369). وهو قولٌ جلي في تقسيمه الزمن الشعري، حيث إن "الحديث"، بوصفه صفة، هو علامة القيمة التطورية الحاسمة والمبرمة في حسابه.

هذه الصفة لاحقة ولاصقة بالمعنى النحوي والشعري والفلسفي، إلا أنها لا تناسب، بعدُ، حال الشعر اللبناني، في حساب الخال، ما دام أنه يتبع المذهب الرومانسي، و"يطبعُه" بطابعه، من دون أن يكون أكيداً في تجربته. ذلك أن تجليات هذا المذهب لم تصدر عن تجربة خلاقة، وإنما عن علاقة قراءة وتأثر بشعر هذا المذهب ليس إلا. فهي رومانسية "ملونة بأكثر من لون"، و"مرقَّعة بأكثر من رقعة"... وهو ما يقوله كذلك في مذهب آخر، المذهب الرمزي، الذي نشأ من الرومانسية وتفرع منها، وأتى بمثابة ردِّ عليها. وما ينتقده الخال في تجليات هذين المذهبَين، هو أنهما لم يصدرا – كما في فرنسا - "تلبيةً لحاجة إنسانية، في وضع روحي-اجتماعي معين"، وإنما تلبية لتأثرات ناشئة من القراءة نفسها.

هذا ما يقود الخال إلى جعل الصفة، "الحديث"، مَعْلماً للتمييز بين شعر وشعر، وبين مذهب وآخر : هناك ما هو "غير حديث"، وهناك ما هو "حديث". هكذا يكون "الحديث" دلالة على الزمن المعاصر، ما يجعل الشعر اللبناني "حديثاً" بهذا المعنى وحده، من دون أن تلتقي فيه دلالات "الحديث" الأخرى.

لـ"الحديث" دلالات عدة في "محاضرة" الخال : "الحديث" صفة مناقضة للتقليدية؛ و"الحديث" صفة محايثة للزمن المعاصر؛ و"الحديث" صفة مناقضة لـ"التخلف". هذا ما يجتمع في الخلاصات التالية : الشعر الحاضر في لبنان "لم يخرج في شكله ومضمونه على الشعر العربي التقليدي" (ص 372)؛ والشعر الحاضر في لبنان "لا يزال متخلفاً عن روح العصر" (ص 375)... كما تبرز، في نهاية المحاضرة، دلالات أخرى لـ "الحديث"، مزيدة، وهي : "الطليعي" و"التجريبي" كذلك...

إلا أن هناك دلالة أخرى محددة لـ"الحديث"، وهي دلالة إيجابية في هذه الحالة. فما هي ؟ هذا ما يبدأ الخال بالجواب عليه ابتداء من السؤال التالي  : "ما هي روح العصر الحديث ؟"، وهو ما يتبعه بسؤال أشد تحديداً : "ما هي هذه الروح التي تخلَّفَ عنها العقل في لبنان فتخلفت عنها الحياة اللبنانية، فتخلفَ عنها الشعرُ الذي يعكس هذه الحياة ؟" (ص 375). هذا يرسم مسار "التخلف"، أو الابتعاد عن "الحديث" : تخلفُ الروح >   تخلفُ الحياة اللبنانية > تخلفُ الشعر بالتالي.

مع ذلك، ينتبه الخال إلى أن "مظاهر العصر الحديث" قد "غزت" الحياة اللبنانية (في إشارة إلى دخول السيارة والطائرة والمكنسة والغسالة الكهربائيتَين وغيرها من المستحدثات)، ومع ذلك فإن "روح" العصر الحديث "بقيت على هامش حياتنا القديمة المهترئة، وظلَّ أثرُها عاجزاً حتى الآن عن تغيير حياتنا، وبعثِ روح الجدة والابتكار في نفوسنا وعقولنا" (ص 376). هذا ما يرسم معالم دلالة جديدة وإضافية لـ"الحديث" : "روح الجدة والابتكار".

هكذا نستخلص عدة دلالات لـ"الحديث"، هي التالية :

- صفة مناقضة للتقليدية؛

- صفة محايثة للزمن المعاصر؛

- صفة مناقضة لـ"التخلف"؛

- صفة دالة على الطليعي والتجريبي؛

- صفة دالة على الجدة والابتكار.

بات "الحديث" صفة أكيدة، بل اسماً جامعاً مكثفاً ومركباً لما هو أبعد من الشعر من دون شك، إذ تجمعُ الدلالات المختلفة بين الشعري الخالص، والتاريخي-الاجتماعي-السياسي، والفلسفي، والجمالي، في خطابٍ موازٍ قلما تلتقي أطرافُه وأسبابُ علاقته على هذه الهيئة من التشكل والبلورة.

إلا أن ما يتضح، في كلام الخال، هو أنه لا "يصف" بقدر ما "يقترح"، ولا "يعاين" إلا لكي يقوى على رسم معالم "خطة". فـ"الحديث" موجود بوصفه لحظة الحاضر ليس إلا، فيما تفتقر علامات الحاضر الأخرى لهذه الصفة. هذا ما يعاينه الخال بوقوفه عند "روح العصر"، بوصفه مولِّد "الحديث"، إذا جاز القول. وأولُ صفة يجدها الخال في هذه "الروح"، هي "العلم"، لا بمعناه التقني أبداً، وإنما "الذي غيَّرَ (منذ عصر "النهضة" الأوروبي) نظرة الإنسان إلى الوجود، وإلى مكانه هو في الوجود"، ما يفصله كما يلي :

- "لم يعد الوجود نظاماً ثابتاً جامداً، بل نظام دائم التطور بحسب تطور مفاهيم العقل، على ضوء ما يكتشفه العقل من معارف عن طريق العلم وأساليبه المتزايدة في الدقة"؛

- "لم يعد الإنسان ينظر إلى مكانه في الوجود نظرة الخضوع والتسليم، بل نظرة التسلط والخلق والثقة بالنفس" (ص 376).

هذا ما يجعل الخال يبني "نظرته" كما يلي (وفقاَ للمعادلة المذكورة سابقاً عن التخلف) : "روح العصر الحديث هي، إذن، روح العلم وما تخلقه من حياة حديثة، وبالتالي من شعر حديث" (ص 377). إذ إن روح العلم تُمكِّن الإنسان من بناء عالم حديث، ما يتعدى المستحدثات الجديدة، ليشمل تغييرات حاسمة تصيب المعتقدات والأنظمة الاجتماعية، وبما يولد قيماً ناشئة، مثل : الحرية، والسلم، والكرامة الإنسانية، والبحبوحة، والأخوة البشرية (حسبما يعددها الخال).

 

"الحديث" : في "تجربة" الشاعر

يتضح أن الخال يبسط كلاماً غير مألوف كفاية في درس الشعر، بل في تعريفه، وإن تكلمَ عن حاضر الشعر في لبنان؛ أي يتناول علاقة الشعر بما هو خارج نطاقه، وخارج الشعراء أنفسهم. ويحتاج المحاضر، في ذلك، إلى "نظرة"، تُمكِّنه من معرفة ما هو أبعد من ظاهر الشعر، أي ما يبنيه ويحدده. فالكلام عن "روح العصر" يبتعد كذلك عن مقومات خطاب آخر – دارج في تلك الفترة – وهو الخطاب السياسي و"التعبوي" و"الدعاوي"، القومي كما اليساري، بعد "تأميم" قناة السويس و"العدوان الثلاثي" على مصر...

"نظرة" مختلفة عن خطابَين ساريَين في زمن المحاضرة، وتستقي مصدرها من خطاب فلسفي، يبتدىء مما بدأ به خطاب ديكارت نفسه عن "تحكم" الإنسان بالعالم بواسطة العلم؛ وهو الخطاب المبني كذلك على نظرة الخطاب الغربي لما فعلته "النهضة" ثم "الحداثة" الأوروبيتان في مجتمعاتها وتاريخها. إلا أن خطاب الخال متداخل، متشابك، بغرض الدعوة إلى إنشاء شعر ذي صفة "حديثة"، قائم على "التجربة"، التي يرفقها بالصفة التالية : "التجربة الكيانية". فماذا عن "التجربة" هذه ؟

كان لمنظور الخال أن يتوقف أمام مصاعب قبول لبنان (وغيره في العالم العربي) لشروط ومتطلبات "روح العصر"؛ وهي شروط ومتطلبات تتعدى الشاعر نفسه، أو مجموعة شعراء متحلقين حول مجلة : "شعر"؛ إلا أنه لا يأبه بها (وإن يذكرها)، إذ يجعل "روح العصر" ممكنة في حدود الشاعر نفسه، في حدود "تجربته" الخاصة. كان في إمكان الخال أن ينحو بكلامه صوب وجهات ومواقف أكثر تحديداً ونقداً لمعوقات "العصر" في حاضر لبنان، إلا أنه لا يتناولها جاعلاً التخطي ممكناً في تجربة الشاعر نفسها، ما يُخرج الشاعر من نطاق العصر، ومما حدده المحاضر بنفسه. في هذا يلتقي الخال بمصادر نزعة "إرادوية عبقرية" : تبتعد عن التنبؤ (الجبراني) الدال على موقف خاص من الوجود والإنسان، وتبتعد عن "الموقف" الماثل في كتابات أنطون سعادة [6]، لكي تنصرف إلى تحديد "بؤرة" جديدة لتولد هذه النزعة وهي : خوض غمار التجربة. فالشاعر – إن تسلح بالعلم والنظرة والإرادة – قادر في حدود "تجربته الكيانية" على توليد "الحديث" - في شعره على الأقل.

هذا ما يفسر كيف أن الخال جعل لمحاضرته هدفاً هو الحديث عن "مستقبل" الشعر في لبنان؛ وهو جواب "عسير"، ويصعب "التكهن" بما سيكون عليه هذا المستقبل. هذه المشكلة تخف ما دام أن الخال "يقترح" بدل أن "يتوقع"؛ ويرسم "خطة" (إذا جاز القول) بدل أن يستبين ما يمكن أن تؤول إليه تجارب الشعر في لبنان. هكذا تنتهي "المعوقات" الحائلة دون بلوغ "روح العصر" إلى مهام ملقاة على الشاعر نفسه، فلا يقوى على القيام بها سوى شعراء "يكرسون أنفسهم وحياتهم" لها؛ سوى شعراء أخذوا الشعر "بجدية"، وأخلصوا له، لا لأغراض نفعية وغيرها قد يحصِّلونها بواسطته؛ سوى شعراء منفتحين على التجارب الشعرية في العالم. وهو ما لا يكتمل كذلك – عند الشعراء الللبنانيين – إن لم يطلعوا ويتفاعلوا مع "تجارب حديثة" في العراق وسورية وغيرها.

يؤكد الخال : "الشعر كلام (...)، يعبر عن خبرة كيانية شخصية فريدة صادقة تعكس قضايا الإنسان الأزلية، فتتعدى حدود المكان والزمان" (ص 368). وهو ما يرسمه في عدة "أسس" يحتاجها الشاعر لكي يصبح "حديثاً". هذه الأسس تنبني وفق محددات ذات سند فلسفي أكيد، ما يتعين خصوصاً في "التعبير عن التجربة الحياتية، على حقيقتها، كما يعيها الشاعر بجميع كيانه، أي بعقله وقلبه". وهذا التعبير، الذي ينشده الشاعر "الحديث"، يستند، في جوانبه الفنية، إلى أكثر من سند فلسفي بدوره : استخدام "الصور الحية"، في القصيدة، لا يسلم، في حساب الخال، إلا بصور متعينة "في التاريخ" كما "في الحياة"؛ وهو ما يطلبُه كذلك في المفردات والتعابير، حيث يريدها "مستمدة"، هي بدورها، "من صميم التجربة ومن حياة الشعب"؛ وهو ما يريده من بناء القصيدة كذلك، إذ يطلب البناء وفق "وحدة التجربة نفسها" و"الجو العاطفي العام". وإذا كان الخال يشدد على "الانفتاح" و"التفاعل" مع تجارب الشعر "الحديثة" في العالم، فإنه يشدد خصوصاً على "الإنسان"، لأنه "الموضوع الأول والأخير" في الشعر، وعلى "روح الشعب" ما يبلغ المجموعة الإنسانية و"الحضارية".

قد يجد البعض في كلام الخال عن "الشعب" و"روح الشعب" (التي تلتقي بـ"روح العصر" من جهة أخرى)، أثراً بيناً لمنظوره الحزبي السابق، في فكر سعادة، وهو أمر صحيح، من دون شك [7]، إلا أنه يستمد هذا الكلام أيضاً من موقف تي. أس. إيليوت الشعري، الذي طلب الانصهار بين الماضي والراهن، وبين اللغة و"الشعب"، ما يتعين في "التجربة" التي يستجمع الشاعرُ أطرافها المتباعدة والعميقة كما الظاهرة أيضاً.

 

"الإرادوية" بين الصفة والمفهوم

قد يجد البعض، في التمييز الذي أُجريه بين "الحديث" كصفة، وبين "الحداثة" كمفهوم، تمييزاً غير ناجز، أو قد يجد فيه تسهيلاً لرسم مسار مفهومي-فلسفي في خطاب يوسف الخال عن الشعر العربي المتأخر. إلا أنني وجدتُ أن في هذا التمييز، وفي التحقق من وجود نقلة بينهما في خطاب الخال، ما يوافق "تطور" الكتابة والموقف لديه، ما لا يكون فهماً قسرياً له بأي حال. وهو ما يوضحه الخال بنفسه في كتابه [8]، ولا سيما في أولى مقالاته، وهي : "مدخل : نحن والعالم الحديث"؛ ففيها يُطلق صفة "الحديث" على ثلاثة مكونات لافتة : العالم والمجتمع والقارىء، قبل أن يستجمع مجموع "الصعوبات" (التي تعيق بلوغ التطور)، في فقدان "الحداثة" (م. ن.، ص 6).

انتقل الخطاب من لفظ الصفة إلى لفظ المصدر، أي إلى مفهوم جامع له أن يستجمع غيره ويُجمله في لفظ ناظم بالتالي. وقد بات السؤال الكبير، حسب الخال : "كيف ننشىء مجتمعاً حديثاً في عالم حديث ؟"، إذ ينطلق مؤسسُ مجلة "شعر" من مفارقة، من "تناقض" (حسب لفظه)، بين كوننا "شكلاً" في العالم الحديث وبين كوننا "جوهراً" في خارجه.

يتحقق الدارس، إلى هذا الانتقال البادي من لفظ إلى آخر، من حدوث انتقالَين آخرَين جديرَين بالالتفات : الأول هو حديث الخال عن "العالم العربي" و"الوطن العربي" و"الأمة العربية"، فيما لا يذكرها أبداً في محاضرته. كما ينتقل، في تشخيصه لـ"الصعوبات"، إلى معاينات جديدة هي أقرب إلى المعاينات التاريخية-السياسية، إذ يتحدث عن "صعوبة" دينية لم يكن يشير إليها في السابق، طالباً "العلمانية" إلى جانب "العلم" في بلوغ "الحداثة". كما يضيف إليها صعوبة أخرى وهي "الطغيان السياسي في بعض مجتمعاتنا العربية"... ما يستوقف بين المحاضرة والمجلة واقعٌ، من دون شك، في تبدل النظر إلى الجمهور المخاطَب : بين جمهور لبناني صرف في "الندوة اللبنانية"، وبين جمهور عربي واسع يتوجه إليه حكماً مع انتشار المجلة. وترافقَ مثل هذا التوجه، على الأرجح، مع تغير في النظرة نفسها، حيث بات الشاعر ورئيس التحرير معنياً، مضطلعاً، بموجبات التطور التي باتت تجمع –  فوق صفحات المجلة - المجتمعات العربية بعضها ببعض.

غير أن هذه الانعطافة في النظرة إلى العاملَين، الديني والسياسي، بعد الفلسفي والحضاري والشعري، لا تبدد أساس الموقف، وهو الدعوة إلى قيام "أدب عربي حي مبدع حديث" (ص 7)، منفتحٍ على آداب العالم، ومتفاعلٍ معها. إذا كان الخال يوسع نطاق مخاطبيه، ويعاين بصورة مزيدة مشاكل التقدم، التي تعيقها السياسة والدين قبل القافية والصورة والقراءة، فإنه يواجه خطاباً ظهرَ منذ القرن التاسع عشر، وهو خطاب التمييز بين "نحن" و"هم"، ما دام أنه يدعو إلى "حضارة" هي "حضارة الإنسان" (من دون تمييز)، وهي "واحدة موحدة، لا تتجزأ، وكلُّ انفصالٍ عنها موت" (ص 9). ما ينتقده الخال يراه متعيناً في ربط قديم ومتجدد بين "الأفكار الكبيرة" وبين "الجماعة"، ما يجعله يجمع في البوتقة عينها : الطور الإسلامي، والفكرة القومية، والفكرة الاشتراكية. وما ينتقده في هذه المشروعات "الكبيرة" هو أنها "مفروضة"، ولا "تنبت طبيعياً في بيئة ما" (ص 9). وهو ما يتوسع في شرحه، في المقالة عينها، إذ يجد أن "الفرض" شكلٌ من بين أشكال أخرى، "تنقلُ" فيها الجماعة بدل أن تُبدع : "فما دام الماء لا ينبع من أعماق أرضنا، عبثاً نأمن ويلات القحط والجوع. علينا أن نفضَّ السر بعقولنا لا بعقول سوانا (...). علينا أن نكون لكي يتاح لنا، في نهاية الأمر، أن نصير" (ص 10).

"أن نكون" : هذه النزعة المشكِّكَة بهوية الكائن تجد أحد ارتكازاتها في كتابات أنطون سعادة، هو الذي طلبَ "إحياء الروح السورية" (حسب لفظه) من سباتها، ما دام أنه وجد مرتَكَزاً لدعوته السياسية في الآثار المتبقية، وفي الأساطير القديمة. ويوازي التشكيكُ في الهوية الدعوةَ إلى "إرادوية" (أو "مشيئية") "عبقرية"، معلَنة وتوكيدية، كما في قول سعيد عقل :

"شأْ تزلزل دنيا، وشأْ تبنِ دنيا" [9].

وفي قوله الآخر : "ونبني - أنّى نشأ – لبنانا" (م. ن.، ص 172).

أو في قول أدونيس :

"تركز، أنّى تشأ، بعلبك

وترفع، أنّى تشأ، تدمرا" [10].

أو في قوله الآخر :

"إن أشأ أفرغ الوجود لهم لهواً

وإن شئتُ، شئتُه عرزالا" [11].

وهي نزعة، أي "الإرادوية"، تعوِّض "غربة" الإنسان السوري عن أرضه القديمة. فكيف لهذه "الأمة" أن تقوم، وفق "متَّحَدِها" الطبيعي (ولكن القديم بحكم قيام "دول" ومجتمعات" مختلفة فوق أرض "سوريا الطبيعية")، إن لم يخرج "إنسانها" من رقاده، من "غربته" عنها، من صمته البعيد. هذا ما يتيحه الشعر قبل أي شيء آخر، ما دام أنه يبعث الحياة في الأساطير كما في الأحجار، ويوفر بالتالي لهذه "الأمة" شيئاً من كيانها، بل الأبقى فيها، وهو "روح الشعب الحية" ولكن الكامنة فيه.

هكذا انتقل الخال إلى مفهوم "الحداثة" بعد مفهوم "النهضة" (حسب سعادة)، التي "تفتح عهداً وتاريخاً جديدين، وتجلو نظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة" (م. ن.، ص 27). وهناك انتقالة أخرى : يشدد سعادة على لزوم الخروج من عهد المحاكاة-الاقتباس-الترجمة إلى عهدِ فكرٍ جديد، محلي، عصري، منفتح على "الأدب الأنترسيوني" (حسب لفظ سعادة)، أي بين الأمم، فيما نجد الخال يتحدث عن لزوم الانتقال من عهد "النقل" إلى عهد "الابتكار". وكما يتحدث سعادة عن "نظرة" جديدة إلى الكون والإنسان و"الأمة" كذلك يتحدث الخال عن "نظرة" مختلفة، متجددة [12].

 

من المفهوم إلى "كيان" القصيدة

لم يبالغ الخال إذ جعلَ لمجموع مقالاته عنواناً عاماً وجد في "الحداثة" مآلَها الطبيعي؛ وهو ما يتحقق منه الدارس في متن المقالات، ولا سيما في مقالته : "الحداثة نظرة حديثة إلى الوجود" (م. ن.، ص ص 13-16). وإذا كان خطاب "الحديث" تعين في : عالم، ومجتمع، وقارىء، وأدب، فإن خطاب "الحداثة" طلب خصوصاً بناء "حركة شعرية"، ما يشير إليه الخال، في متن المقالات، إشارات عديدة، ولا سيما "الحركة" التي أطلقها حول "شعر". وهو ما يتبناه ويعلنه في نوع من الريادة القيادية، بين ما "تعلَّمَه" وما بات "يُعلِّمُه" بنفسه، "بالقول والفعل" (ص 13)، ما يرسم دوراً جديداً للخطاب ولفعاليته. فما يدعو إليه، وما يدافع عنه، وما يساجل ويناقش بخصوصه [13]، ما عاد يتعين في "عالم"، أو في سياق خارجي، وإنما في ما تنتجه المجلة وتقدمُه للقارىء، وفي ما يرسمه صاحبها ورئيس تحريرها، بين ما ينشره وما يكتبه، شعراً ونقداً.

هذا ما يعطي كلامه طابع الإعلان التوكيدي عما جرى عمله، وهو ما يثبتُه عنوان الكتاب : "الحداثة في الشعر". فالحداثة لم تعد نظرة، أو دعوى، بل باتت "منجَزاً" حاصلاً، وقيد التطوير. وهو ما يعينه الخال كما يلي : "في السنوات العشرين الأخيرة طرأ على الشعر العربي تطور جذري لا عهد له بمثله، كان نتيجة مفهوم جديد للشعر، تعلمناه بالمعرفة والخبرة، وعلَّمناه بالقول والفعل" (م. ن.، ص 13)، ما يشير إلى انطلاق حركة التجديد الشعري في العراق، في منتصف أربعينيات القرن العشرين، وإلى استكماله مع نشأة مجلة "شعر" بالتالي.

لم تعد هناك من "مصاعب" تحول دون بلوغ الحداثة، بل بات بمقدور "المفهوم الجديد" أن يقلب الأمر رأساً على عقب، ما "يجعل الحد الحاسم الفاصل بين المفهومَين، القديم والجديد، حداً حاسماً وفاصلاً حقاً" (الصفحة نفسها). أَبَلَغْنا الحداثة أخيراً ؟ هذا ممكن ما دام الخال بات يقرن "الحداثة" بحدوثات شعرية من دون غيرها : "الحداثة في الشعر إبداع وخروج به على ما سلف، وهي لا ترتبط بزمن" (م. ن.، ص 15)؛ ومردُّ ذلك يعود تحديداً إلى "أن جديداً ما طرأ على نظرتنا إلى الأشياء فانعكس في تغيير غير مألوف" (م. ن.، ص 15). هكذا لا يتوقف الخطاب أمام معوقات الحداثة أو "مصاعبها"، المتعينة سابقاً في الدين والسياسة، وإنما بات يتوقف في نطاق الشعر، فيعالج النظرة إليه، ما بات ممكناً "بفضل عقلية" مختلفة، وما بات موكولاً بالشاعر نفسه، ومن دون غيره. إلا أن ليس كل شاعر كفيلاً بإنجاز الحداثة، وإنما تحتاج العملية – وهذا تعريف الحداثة الثاني عند الخال – إلى "شخصية شعرية جديدة ذات تجربة حديثة معاصرة" (الصفحة نفسها).

يكتب الخال : "إن صيرورة الأشياء بمقام كينونتها" (ص 16)، ما يعني، في حسابه، أن ما هو ممكن الحدوث هو ما يمكن أن يصنعه الشاعر الفريد، أي في لغة القصيدة، ما يجعل الحداثة ممكنة في "صيرورتها"، إذ تصبح إذذاك "ممكنة" بالتالي، وتصبح صيرورتُها علامة "كينونتها". هكذا لا تعود التجربة الشعرية، قبل مجلة "شعر" ومعها خصوصاً، تجربة وإنتاجات إلى جانب غيرها، قبلها ومعها، وإنما تصبح عنواناً لما هو أبعد من المذهب أو التيار، ولتصبح – إن جاز الاختصار – "خلاصة مكثفة" للتغير الحضاري.

هذا التعين المحصور في نطاق الشعر هو الذي يُعلي من قيمة القصيدة في الحداثة، بل يجعلها – بدل غيرها من عينات الوجود والإنسان والفكر – "كيان" الحداثة الأكيد. وهي النقلة الثالثة التي يمكن التحقق منها في خطاب يوسف الخال، ما بات يجتمع – وفق عنوان إحدى مقالات هذا الكتاب – في : "مفهوم القصيدة الحديث" (ص ص 18-31).

والعودة إلى القصيدة، لا إلى العالم ولا إلى الشعر، تماشي، من دون شك، عناية نقدية، متزايدة في تلك السنوات بدرس بناء القصيدة، خصوصاً وأن حقيقة الحداثة الناجزة تتمثل فيها، ما دام أن الشاعر، حسب الخال، قد "يُخبرنا بشيء" عن قصيدته وعن الشعر، بينما "ما أخبرتنا به القصيدة شيءٌ آخر" (ص 19). يزيد من قوة هذا الكلام قناعة الخال المعلنة بأن "تجربة" الشاعر (مرتكَز الخال في "محاضرته")، أي معنى القصيدة (المرتكِز إلى مفهوم الشعر)، هو "فعلُ إنشاء القصيدة" (ص 22). هكذا ترابطت فقرات خطابه على مدى سنوات مختلفة، وخَلُصت إلى أن منتهى الحداثة أو مآلها يتعين في "إنشاء" القصيدة، أي في "نظامها الشكلي". وهو ما يجعل الخال ينصرف في صورة مزيدة إلى درس أبنية اللغة، ما دام أن الشعر هو "ماء حياة اللغة" (ص 22).

هذا الموقف "البنائي" من القصيدة يتأتى، ليس من فحص القصيدة وحسب، وإنما من فحص العلم والفلسفة، ما دام أنهما يعتنيان بالكليات، لا بـ"عالم الخبرة المحسوس"، الذي توفره القصيدة. وهو ما يبلغ بالخال حدود إعلان نظرية عالية التطلع : "الشعر يساوي الحياة مع "شيء آخر" " (ص 25)؛ وهو ما يجمعه في لفظ-مفهوم جديد : "الرؤيا" [14]، الذي يصبح بالتالي تحققاً فريداً وفردياً للحداثة.

إذا كان هذا الموقف الجديد يُخفف من خطاب العلم والفلسفة، جاعلاً من القصيدة بديلاً عنهما، بمعنى من المعاني، فإن هذا التبدل يقود يوسف الخال إلى تعميق أساس القصيدة الجمالي، أي النظر إليها بوصفها "خليقة جمالية". هذا ما يقوده إلى معالجة المواقف الجمالية المختلفة من الشعر ابتداء من أفلاطون، ومن "طردِه" الشعراء من "الجمهورية الفاضلة". وهو ما يجمعه في أربعة مواقف، هي التالية :

- يزعم هذا الموقف (وهو موقف أفلاطون المذكور) بأن الشاعر "كاذب" في علاقته بالحقائق الكلية؛

- يوافق هذا الموقف رأي أفلاطون، لكنه يرى أن "مهمة الشعر يجب أن تكون المعرفة"، ما يعني أن الشعر هو أفضل من التاريخ والفلسفة (حسب أرسطو)؛

- يوافق موقف أفلاطون، لكنه يعتقد بوجوب تجنيب الشعر معالجة ما للعلم والفلسفة أن تعالجاه، ما يعني أن للشعر مهمة "جمالية" وحسب؛

- يوافق موقف أفلاطون، ولا سيما الموقف الثالث، أي السابق، على أن الشعر يتكفل بالحقائق بفضل قوى الحدس والمخيلة (ص 26-27).

يضيف الخال، إلى هذه المواقف الجمالية الأربعة، موقفاً خامساً، يأتي في سياق ما بات يوليه عنايته في الحداثة، أي لغة القصيدة؛ وهو موقف يعتني بقوى المخيلة الخلاقة، ولكن بعد إقراره "بدور اللغة في عملية الخلق" : "بذلك تصبح القصيدة وليدة مخيلة خلاقة لا تعمل عملَها إلا بواسطة اللغة" (ص 30-31).

تحدثَ كثيرون، مع يوسف الخال وبعده، عن "جدار اللغة"، في إشارة إلى البون الفاصل بين "لغة الحديث"، أي العامية، وبين لغة الكتابة، أي العربية الفصحى، وهو ما يتخلل خطابه في "المحاضرة" أو في المقالات التالية. أهذا ما جعل الشاعر يتوجه بنفسه إلى... الصمت، وإلى إيقاف مجلة "شعر" عن الصدور ؟ فبعد أن انتهى موقفه إلى جعل اللغة ميدان اختبار الحداثة وتحققها وإنجازها، وصلَ الخال، لا إلى "طريق الحداثة" (وفق عنوان فرعي في إحدى مقالاته)، وإنما إلى التوقف والانقطاع عنها [15]، ما دام أنه كان يَعِدُ نفسه، قبل غيره، "باللقاء العظيم المنشود بين لغة الكتابة ولغة الكلام" (ص 81). 

 

 

 

أدونيس : يكتب فيما يقرأ

يكاد لا يختلف مسار أدونيس، بين "الحديث" و"الحداثة"، عن مسار يوسف الخال المذكور، لو طلب الباحث إجراء قراءة إجمالية لفكرَيهما، مع اختلاف طاهر وهو أن الخال ابتدأ نشاطه المذكور في عمر النضج والتبلور، فضلاً عن تمتعه بثقافة وخبرة وتعليم عال، ما أتيحت لأدونيس الشاب في ذلك العهد. لهذا اتسمت كتابات أدونيس الأولى، في هذا السياق، بمتابعة تكاد أن تكون مدرسية، نقلية، لما يقوله الخطاب الموازي الفرنسي عن الشعر الحديث.

من يتتبع مقالتَي أدونيس، بين "محاولة في تعريف الشعر الحديث" ("شعر"، 1959)، و"في قصيدة النثر" ("شعر"، 1960)، قبل كتابَيه : "مقدمة للشعر العربي" (1971)، و"زمن الشعر" (1972)، يلاحظ بأنه يباشر الكتابة ابتداء من المتن الفرنسي [16]. فهو يكتب فيما يقرأ في كتب نقدية تقتصر، في مقالته الأولى المذكورة، حسب تحقيق أحد الدارسين السوريين، على كتاب فرنسي بعينه [17]، فيما عاد، في المقالة الثانية، إلى كتاب سوزان برنار الشهير في العربية منذ ذلك الوقت [18].

نجح الخال، من دون شك، في إطلاق "حركة" شعرية يُجمع الكثير من الدرس على كونها ميدانَ تأكدِ وتبلورِ النهج "الحديث" في الشعر [19]، ما جعلَها مَعْلماً لما هو قبلها ولما هو بعدها. فيما اتبع أدونيس مسار الخال نفسه، بعد سنوات، بلوغاً إلى تأسيس مجلة "مواقف" (في نهاية العام 1969) من دون أن تعرف "نجاحات" سابقتها.

لم يكن غريباً، في كتابات أدونيس الموازية الأولى، أن تتمثل مسار يوسف الخال، ولعدة أسباب متداخلة : منها أن الخال شكَلَ "قدوة" لغيره، إثر حلوله في بيروت في العام 1955، وإطلاقه مجلة "شعر" وحولها؛ بل كان أكثر من مؤسس، أشبه بأب لعدد من الشعراء في مقتبل أعمارهم، وهم قليلو العدة والخبرة بمعانيها المختلفة، مثل : أدونيس (من مواليد العام 1930)، أنسي الحاج (1937-2014)، شوقي أبي شقرا (من مواليد العام 1935)، عصام محفوظ (1939-2006) وغيرهم [20]. ومن هذه الأسباب أيضاً تمرس أدونيس مثل الخال "العقيدي" في مدرسة أنطون سعادة الحزبية، على الرغم من خروج الخال منها قبل تأسيس "شعر" (وإن لم يخرج من أفكارها العديدة، ومن "سحر" صورة "الزعيم" المتمادية عليه، أو انطباقها على صورة الشاعر "الحديث")، وخروج أدونيس من الحزب في مطلع الستينيات.

لهذا يمكن درس كتابات هؤلاء الشعراء، ولا سيما أدونيس، المتقدم بينهم، سواء لجهة صلته بخطاب الخال حول حداثة الشعر وغيره، أو لجهة تميزه أو انفصاله عنه وعن غيره. كما يمكن الوقوف عند عدد من الكتابات النقدية لعدد من هؤلاء الشعراء ولغيرهم أيضاً، فوق صفحات المجلة، ما يساعد في استكمال فحص الخطاب الموازي عن الشعر. إلا أن توقفنا عند مقالَي أدونيس يتعين في أسباب أخرى، ما يمكن تعريفها بـ"تملك" أدونيس الشديد لما يقرأه؛ وهو تملكٌ يعيد صياغة ما يَقبل به وفق ممكنات "استقبال" فكرية، متأتية من ثقافة أدونيس المزدوجة، بين إسلامية مع والده (على ما هو معروف من سيرته)، ومع أنطون سعادة، مؤسس و"زعيم" الحزب الذي انتمى إليه لعدة سنوات [21]

قد يكون الوقوف عند ما كتبه أدونيس، في مقالته النقدية الأولى (حسب ما هو معروف من كتاباته)، "محاولة في تعريف الشعر الحديث" [22]، مناسباً لاستبيان هذه الأسس أو الشواغل الفلسفية والفكرية الناشطة في ثنايا النظرة إلى الشعر والقصيدة والشاعر. ويشير أدونيس، في هامش أول في المقالة، إلى دراستَين "هامتَين" (وفق لفظه) : أولى للخال، وهي "المحاضرة" التي جرى درسها أعلاه، والدراسة الثانية لنازك الملائكة : "الجذور الاجتماعية للشعر الحر"، المنشورة في مجلة "الآداب"، ببيروت، في أيلول-سبتمبر من سنة 1958. إذا كان أدونيس عوَّلَ، في مقالته، على شواهد نقدية تعود إلى شعراء فرنسيين (من أمثال : بودلير ورامبو ورينيه شار وغيرهم)، وعلى أحد الكتب الفرنسية (كما جرى ذكره)، فإن ما يستوقف الدارس في هذه الكتابات الأولى (كما اللاحقة) هو هذا التلهف الشديد إلى "التملك" : إذا كان أدونيس ذكرَ، في مقالته "في قصيدة النثر"، كتاب سوزان برنار، فإنه أسقط في مقالته الأولى كونه عول على كتاب فرنسي في الأدب الفرنسي الحديث (ما عاد وصححه، بعد سنوات، عند نشر المقالة في كتاب "زمن الشعر" ذاكراً تعويله على أكثر من كتاب). وإذا كان أدونيس يكتب فيما يقرأ في خطاب فرنسي موازٍ (كما سبق القول)، فإن ما تبدو عليه كتابته، منذ محاولتها الأولى، هو سرعتها في التقبل، وفي التملك واقعاً. وهو، في ذلك، يختلف عن الخال، سواء في الموقف أو في السلوك المرافق له.

 

الشعر "الحديث" بوصفه "رؤيا"

يبدأ أدونيس مقالته الأولى كما لو أنه يستأنفها واقعاً، إذ يكتب في جملتها الأولى : "إذا أضفنا، إلى كلمة "رؤيا"، بعداً فكرياً إنسانياً، بالإضافة إلى بعدها الروحي، يمكننا حينذاك أن نعرِّف الشعر الحديث بأنه رؤيا" (م. ن. ص 97). يبدأ، إذاً، بأن ينتقل إلى ما هو – في نظره، ابتداءً مما قرأ – "تعريف" الشعر الحديث، كما يسميه. وهو تعريف ينبني سلفاً على اجتماع الصفة، "الحديث"، بالمرجع الفرنسي [23]. ولا يكفي التثبت من حصول الاجتماع هذا، وإنما التنبه إلى استهدافات الكتابة النقدية نفسها. فما يكتبه أدونيس لا يعاين أبداً أي تجربة، أي قصيدة، أي مجموعة شعرية، في لبنان أو غيره، وإنما يستند إلى تجربة مضمرة، هي التجربة الفرنسية، بوصفها الأكيدة في حداثتها. لا يخامر أدونيس أي شك بأن وجهة الشعر هي الوجهة "الحديثة"، مثلما قالها الخال في "محاضرته"، وهو ما يمكن التأكد منه في استناد مقالة أدونيس إلى غير مستند موجود في المحاضرة المذكورة، فضلاً عن اتكالهما معاً على فكر أنطون سعادة : الكلام عن "الموقف" و"النظرة" و"النهضة" وغيرها مما لا حاجة لاستعادته [24]؛ ومثلما دعا سعادة إلى "أدب الحياة" دعا أدونيس إلى "القصيدة-الحياة" (ص 90)، فيما دعا الخال إلى "أدب حي" (كما سبق القول).

هذا الاستمداد لا يخفي، مع ذلك، أن أدونيس ينحو، في "تعريفه"، وجهة تجعل من الشعر بديلاً عن العلم، عن الفلسفة وغيرها، فيما جعل الخال من هذين ومن العلوم الإنسانية علوماً ضرورية لبلوغ الحداثة. يكتب أدونيس : "الشعر الحديث نوع من المعرفة، التي لها قوانينها الخاصة، في معزل عن قوانين العلم (...). الشعر الحديث، من هذه الوجهة، هو ميتافيزياء الكيان الإنساني" (ص 80). وهو لذلك ينصرف إلى استبيان ما يمكن أن يكون عليه الشعر الحديث، أو "مهمته"، فلا يحصي سوى أسباب واقعة في نطاق الشعر نفسه، ما يجمعه في "تخلي" الشعر عن : الحادثة، والوقائع، والجزئية، والرؤية الأفقية، والتفكك البنائي.

لا يجد أدونيس، إذاً، في الوجود ما يستوقفه، بل في الماوراء وحده، وهو ما يتحصل عليه في الشعر نفسه، كما لو أن الرسم، الذي تبيناه في فكر الخال، ينقلب تماماً مع أدونيس : كان الرسم ينتقل من تخلف الروح إلى تخلف الحياة ما يؤدي إلى تخلف الشعر بالتالي، وبات الرسم، مع أدونيس، يرى بأن الشعر الحديث، بوصفه "رؤيا"، قابلٌ لأن يُعيِّن ما وراء الكيان الإنساني، وهو الكيان الذي له أن يُعيِّن الوجود نفسه. انقلب الرسم من خطة تاريخية-اجتماعية-حداثية، عند الخال، إلى خطة تجعل من الشعر خلاصة الوجود، بل تعبيره العميق. هذا ما يُسقط الفلسفة بمعنى من المعاني لصالح "رؤيا" قريبة من "الإشراقات"، التي تجد في النبوءة سندَها البعيد والمضمر ربما، وفي بعض الفكر الإلماني الرومانسي بعض تجلياتها (الشعر معرفة)، وفي "رؤيوية" رامبو سندَها الشعري الأكيد : "ليس الأثر الشعري انعكاساً، بل فتح. وليس الشعر رسماً، بل خلق" (ص 81). وإذا كان هذا القول ينقد، من جهة، "نظرية الانعكاس" في فكر "الواقعية الاشتراكية"، فإنه يحيل، من جهة ثانية، على فكر إسلامي مضمَر ("الفتح") بدلالات ناشئة، ومنها بل أقواها : الشعر "خلق"، وهو ما لم تكن تقبله أو تدعو إليه الاجتهادات الإسلامية القديمة، إذ كانت تربط فكرة "الخلق" و"الإبداع" بالمعبودات الوثنية.

 

استمداد و"تطبيع"

هذا التباعد بين الخال وأدونيس بينٌ كذلك في دعوة أدونيس إلى "الشعر العظيم"، مثلما يسميه في أكثر من مرة في مقالته، فيما تحدث الخال عن "مستقبله" وحسب. فليس للشعر، حسب أدونيس، أن يتمهل أمام الأحداث والوقائع والجزئيات، بل أن "يتناول من مظاهر العصر أكثرها ثباتاً وديمومة"، أي "المظاهر التي لا تفقد دلالتها في المستقبل، ذلك أن الشعر العظيم يتجه نحو المستقبل" (ص 80). وهو ما يؤكده في فقرة أخرى : "لا يمكن الشعر أن يكون عظيماً إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم" (ص 81)... كما لو أن المطلوب ليس "الحديث"، ولا "الرؤيا"، وإنما "عظمة" الشعر وحدها، بحيث تَعمل "الرؤيا" و"الحديث" على توفير هذه "العظمة" المتوخاة. هذا ما يفسر – في ما يفسر – كراهية أدونيس لـ"الواقعية" خصوصاً، التي يتَّبِعُها (حسب قوله) "بعض شعرائنا المعاصرين" (لا "الحديثين"، في لفظه)، إذ هي تتلهى بما هو عابر وزائل، وغير "عظيم" بالتالي.

من الأجدى، في هذا السياق، التوقف كذلك عند ما طلبَه أدونيس من "الرؤيا"، إذ وجدها التعبير الأمثل عن كون الشعر "حديثاً"، فهي – عنده - أقرب إلى النبوءة، كما سبق القول، منها إلى جمالية جديدة تمثلت في تجارب الحداثة الفرنسية مع بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه، ثم مع السورياليين بعد عدة عقود. فما قام به بودلير ودعا إليه لم ينبنِ فقط على "مدينية" القصيدة (بدل لجوئها الرومنسي إلى الطبيعة والعاطفة والغنائية)، وإنما على "استخراج التاريخي من الموضة"، ما أبقى صلة مطلوبة بين "العابر" و"التاريخي" (بخلاف فهم أدونيس لها). كما أن موقف رامبو من "الإشراقات" (وهو عنوان أحد كتبه الشعرية) فُهمَ فهماً مغلوطاً، إذ إن البعض ربطوا بين إحدى دلالات هذا اللفظ الفرنسي (أي "الإشراقات" بالمعنى الديني)، بـ"الإشراقات" بالمعنى الإسلامي الصوفي، فيما أراد رامبو، من اللفظ، الإشارةَ إلى ما كان يعنيه اللفظ في زمنه، أي الكتب المزينة بصور، أي بمحفورات طباعية (على ما دققت سوزان برنار في كتابها المذكور). وإذا كان شعراء فرنسيون، خلف خطى بودلير، طلبوا تجديداً لموضوعات الشعر الفرنسي، ولتجديد "النظرة" خصوصاً إلى الكون والإنسان، فإن ما تحدثوا عنه لم يكن قريباً، بل "معادياً" (لو شئنا التأويل) لكل ما هو ديني [25]؛ وإذا كان البعض منهم بحثَ عن عالم "مخبوء"، فهو ما بحثوا عنه، عبر المسكرات والمخدرات، في نطاق الحلم، وفي عالم "الهلوسة" و"قلب الحواس"، كما أسماها رامبو. وما وقع عليه بودلير ورامبو من صورة، أو من كناية عن الشاعر، وجداها في "المشّاء"، و"المتمرد"، و"الهامشي"، لا في الشاعر "العظيم"، الذي كلَّف نفسه بالخالد. وما يقوله رينيه شار ("الكشف عن عالم يظل أبداً في حاجة إلى الكشف")، ويستعيده أدونيس منه، عن "الكشف"، لا يعني الكشف الرباني أو الصوفي، وإنما التعرف العميق والمزيد للوجود وللإنسان فيه [26]. كما أن البحث عن "الغريب"، و"غير الواعي"، و"الغرائبي"، والاكتشاف (لا "الكشف") المزيد لموضوعات ونظرات ومواقف منها، يتحول عند أدونيس إلى "عالم مجهول لم يُعرف بعد" (ص 87). واللافت أن ما بحثَ عنه بودلير في "الموضة"، ورامبو في ما تقوله اللغة في "جحيمها"، يتحول عند أدونيس إلى ما هو قرين بالخالد، أي "الخارق" و"الفائق" في أحد تعريفاته للشعر الحديث (ص 88) : فما هو "اكتشاف" يتحول إلى "كشف"، وما هو "ابتكار" يتحول إلى "خلق" [27] وغيرها من عمليات التملك التي تتم وفق محددات ثقافة الشاعر الواعية وغير الواعية... وما بلغ عند شعراء، مثل بودلير ورامبو ولوتريامون، حدود التخلي عن الشعر أو العزلة أو الشعور بالعجز عن "تغيير العالم"، يتحول عند أدونيس وغيره إلى إعلان "أنوية" متضخمة، فعالة وشمولية : "لغم الحضارة : هذا هو اسمي" [28].

استمداد، وتملك، وتحويلات جارية في متن الخطاب، في القراءة، لا في التجربة نفسها : "لا يستطيع الشاعر أن يبني مفهوماً شعرياً جديداً إلا إذا عانى أولاً، في داخله، انهيار المفاهيم السابقة" (م. ن.، ص 184). هكذا يمكن القول إن يوسف الخال طلب الاندراج – من دون مواربة – في خطاب فلسفي وشعري، للمجتمعات والمجموعات أن تنحو صوبه، وتتبناه؛ وهو فكرٌ – وإن استقى بعض مرجعياته وقيمه من فكر أنطون سعادة [29] – منسجمٌ ومنضبط وفق سوية خطاب غربي، قانع بأرجحيةِ وصوابيةِ ما تقوم عليه "حضارته"، وهو خطاب الحداثة، بوصفه المفسِّر لتفوقها ونجاحات مجتمعاتها وفنونها وآدابها. بينما ينحو أدونيس صوب علاقة تمثُّلٍ بالمعنى التقني للكلمة، أي إعادة تملك ما يراه "متفوقاً" في شعر الغير، بل في الشعر الفرنسي المتأخر؛ إلا أن ما قام به لم يقع في التقيد الواعي بإنجازات الآخر وأسبابه (كما عند الخال)، وإنما في موقف استيعابي، استعمالي، يضمر مثلما يصرح بمكنوناته الدينية، من جهة، و"العظيمة"، أي القومية (بمعنى من المعاني)، من جهة ثانية.

تبينا في موقفَي الخال وأدونيس طريقتَين في "تعريف" الحديث والحداثة، غير متباعدتَين، وإن مختلفتَين في بعض جوانبهما، فتقترب عند الخال من التسليم المسبق بجدوى الخطاب الغربي وصحته، ما يتعين في المعاينة والنقد والتفلسف، بينما تقترب عند أدونيس من التسليم بكون الشعر الفرنسي هو "المثال"، ما يتعين في نوع من "التملك" له بواسطة التبشير و"النبوءة" و"العظمة". وهما مسعيان يقترحان ويرسمان خططاً، أكثر مما يبنيان نقداً شعرياً وفلسفياً للقصيدة والشاعر والشعرية. فكيف لو طلبنا منهما استبيان "تعبيرات" فلسفية في ذلك العهد : إذا كان الأمر ممكناً في جوانب منه عند الخال، فإن ما يرسمه أدونيس يتعين في "فنية" القصيدة المتوخاة، على أنه يلامس، في "فنيتها" هذه، جوانب فلسفية ودينية وتصوفية كذلك. أما ما قامت به الشاعرة نازك الملائكة، في السنوات عينها [30]، فلم يقم به الشاعران، ولا أضرابهما، وهو إيجاد "قواعد" للشعر الجديد، وفق قواعد الشعرية العربية، وإن قصرتْها على أوزان الخليل وحدها، غير آبهة بل منددة بما كان يختلف مع قواعدها التي قررتها بنفسها.

 

نازك الملائكة : تأسيس مقيَّد

تواجه دارس الخطاب الموازي مشاكل متأتية من زمنية ما يدرسه، إذ يُسقط كاتب الخطاب أحياناً تواريخ النشر الفعلية لما كتب بعد أن يستعيده في كتاب؛ أو يعدل صياغاته، ما يجعل الدارس "محقق" نصوص على الرغم منه، إن طلب الأمانة في ما يبحث فيه. فأدونيس يُقدِم، في الطبعة الثانية من "زمن الشعر" (1978)، التي استعاد فيها نشر مقالته : "محاولة في تعريف الشعر الحديث"، على إجراء تعديلات صياغية عليها محافظاً على ذكر السنة (1959) التي نشر فيها مقالته. ومن يعد إلى بعض هذه التعديلات الصياغية يتحقق من أن أدونيس حذف لفظ "الحديث" الملازم للشعر والقصيدة في مقالته، في نشرها الأول، واستبدله بلفظ "الجديد" : "الشعر الجديد". وهو أكثر من تعديل صياغي، كما يمكن التحقيق، إذ يطاول اللفظ-الأساس الذي بنى عليه مقالته الأولى ابتداء من عنوانها، الذي غيَّرَه بدوره. ما الداعي إلى هذا التعديل بعد ما يقرب على عشرين سنة ؟ لماذا التخفيف من حمولة اللفظ الاصطلاحي السابق ("الحديث")، لصالح لفظ أقل حمولة فلسفية وشعرية ("الجديد") ؟

هذا التبديل لا يقتصر على هذه المقالة، وإنما على محاضرة تالية عليها، "الشعر العربي ومشكلة التجديد" (1961)، المذكورة سابقاً، إذ أجرى أدونيس تعديلات واسعة عليها، فأسقط وزاد وأعاد كتابة جملٍ وفقرات، ما لا نجد حاجة لذكره ومراجعته. إلا أن ما استوقفنا خصوصاً في هذه التعديلات هو أنه استبدل فيها مفهوم "الحديث" بمفهوم "الجديد" أينما كان في المحاضرة : "الحركة الحديثة" تتحول إلى "الحركة الجديدة" (في الصفحات التالية في النص الأصلي : 176، 182، 7 مرات في الصفحة 187 وغيرها)؛ و"الشعر الحديث" يتحول إلى "الشعر الجديد" (في الصفحات التالية في نص المحاضرة الأصلي : 177، 178، مرتان في الصفحة 179، 182، 183 وغيرها).

هذه ليست "تصحيحات"، وإنما تنتسب إلى إعادة الصياغة وفق ما انتهت إليه مواقف الكاتب في لحظة تالية، ووفق استهدافات يريدها لنفسه ولكتابته [31]. فالتنكب عن "الحديث"، و"إسقاطه"، لا يعدو كونه إعادة صياغة لموقف أدونيس من "الحديث" و"الحداثة"؛ وهو ما يمكن معاينته في مواقف تالية له تمثلت في نقد "أوهام الحداثة"، إذ انتهى موقفه منها إلى القول بأنها معدومة الوجود في التجارب العربية [32]. فكيف له أن يَظهر بموقع "الداعية" لها في وقت سابق، وفي مقالات ماضية ؟!

لا تواجه الدارس هذه المشكلة مع الشاعرة نازك الملائكة (1923-2007)، إذ يفحص كتابها المذكور، "قضايا الشعر المعاصر" [33]، فهي تُرفق النشرَ الأول للكتاب بتواريخ نشر مقالاتها المدرجة فيه، تبعاً لأمكنة صدورها الأول وتواريخ ذلك. لذلك بدت العودة "آمنة" إلى الكتاب والمقالات بالتالي، عدا أن العودة تساعد الدارس في إدراج المقالات في زمنها التأليفي، والسجالي كذلك. هكذا طلب الدارس العودة إلى مجموعة مقالات سابقة على "محاضرة" الخال ومقالاته التالية، وعلى مقالة أدونيس في "تعريف" الشعر الحديث؛ وهي مقالات ترسم –  لو شئنا التحديد – طريقةَ نظرِ الملائكة إلى ما بدأت به شعراً، بل ترسم حاجتها – بدورها - إلى بناء خطاب موازٍ للشعر. فماذا عما ترسمه ؟

ما يستوقف خصوصاً في مقالات الملائكة هو ما كتبته بين العام 1954 والعام 1957، وهو ما نشرته في مجلة "الأديب" اللبنانية (كانون الأول-يناير من سنة 1954) : "بداية الشعر الحر وظروفه" (ص ص 21-36 في الكتاب)، وما نشرته في "الآداب" اللبنانية (آب-أغسطس من سنة 1957) : "الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر" (ص ص 37-50 في الكتاب). ففي هاتين المقالتَين موقف مختلف عما وجدناه عند الخال وأدونيس، بل هما سابقتان لهما زمنياً على الأقل. فماذا فيهما ؟

تجمع الملائكة، في مقالتها الأولى، بين موقف المؤرخ والدارس الشعري وبين موقف المنظِّر لحركة شعرية جديدة، هي "الشعر الحر". وهي، بقدر ما توضح بعض معالم هذه البدايات، تسعى إلى رسم الحدود، بل إلى الفصل بين ما تكتبه (وتدعو إليه) شعراً، وبين ما يكتبه غيرها ممن يشاركونها (حتى لا نقول : يتبعونها) في التجربة الشعرية عينها، في العراق خصوصاً.

يبدأ حديثها عن "الشعر الحر" بذكر قصيدتها "الكوليرا" (المنظومة، حسب كتابها، في 27-10-1947، ونشرت في مجلة "العروبة" البيروتية في أول كانون الأول-يناير من السنة عينها)، بوصفها "أول" هذه التجربة الشعرية الجديدة، ثم تسرد بعدها عدداً من القصائد والمجموعات الشعرية لشعراء عراقيين (بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وشاذل طاقة)، ما يؤكد "أوليتها"، من جهة، و"اتباع" غيرها لها، من جهة ثانية. واللافت في هذا الأمر هو أن الملائكة تُقدِّم "شهادتها"، أكثر مما تدرس هذه البدايات، ما دام أنها لا تُظهر (في الطبعة الأولى) محاولات أخرى، عربية مختلفة، في توليد قصيدة مختلفة من عروض الشعر العربي [34]. بل يمكن القول، في صورة مزيدة، إن الملائكة سعت إلى ما هو أبعد من الشهادة، وهو البحث والبناء، ما يوفر "عمقاً" عروضياً وتراثياً لتجربتها. ذلك أنها – وإن تعود في أكثر من مرة إلى الخليل ومسعاه في بناء الأوزان – تؤكد منظورها فيما تنتقد غيرها، أكثر مما "تستخرج" من جاري الشعر أوزانَه أو صيغه العروضية الجديدة. فما فعله الخليل أتى بعد وقت، بعد قرون بالأحرى، فيما تكتب الملائكة، وتصحح، وتتبين "الأخطاء"، في حمى التجربة، إذا جاز القول، ما يجعل من كتابتها البحثية سنداً دفاعياً لتجربتها الشعرية الجديدة. ولكن ماذا عن "الشعر الحر" ؟

 

"اجتماعية" الشعر

يشغل التنسيب العروضي مجهودات الملائكة، أي إنزال القصيدة المستحدَثة في مساقط العروض، ما يحتل قسماً واسعاً من مجموع مقالاتها؛ وهي، في ذلك، قامت بمساع في الدرس قلما نجدها في تلك السنوات عند أحد من أقرانها، سواء في معرفتها الوافية بالعروض أو بأساليب الكتابة بالعربية. إلا أن هذا يُظهر معالم مرتبِكة في خطتها، إذ تدعو، من جهة، إلى الحرية، فيما تقوم مساهماتها، من جهة ثانية، على مقادير عالية من التقعيد والتقنين؛ وهذا يُظهرها – من حيث لا تقصد – متراجعة سلفاً، أو متنكرة لما تدعو إليه وتباشر به. هذا ما يتبينه الدارس، منذ ذلك الوقت، في كلام زوجها، د. عبد الهادي محبوبة، إذ يكتب في تقديم كتابها : "وجهُ المفارقة في هذا الاصطلاح (أي "الشعر الحر")، أنه ينطوي على تجديد في الشعر، ولكننا إذا أمعنا النظر فيه نجده لم يزل يحتفظ بتعريفه عند نقاد الأدب منذ عهد قدامة بن جعفر، بأنه القول الموزون المقفى الذي يدل على معنى"؛ ويتابع محبوبة إظهار المفارقة، وهي أن الشعر "تجديد نحو الحرية في الشعر"، "لكننا إذا استقرأنا ما نُظم فيه نراه لم يخرج على عمود الشعر" (م. ن.، ص 17). فأين نظرة الملائكة إلى الشعر بين كونها "تجديداً"، وبين كونها "محافَظة" ؟

ترى الملائكة أن لهذا "الشعر الحر" "جذوراً اجتماعية" (وفق عنوان مقالتها الثانية)، في نظرة قلما نقع عليها في تلك السنوات، حيث يبدو الشعر "مخلوق نفسه"، إذا جاز القول، وتتولد القصيدة من غيرها، محلية أو أجنبية. وإذا كان الشعراء "المهجريون"، مثل "جماعة الديوان"، تحدثوا عن "مؤثرات" خارجية ذات فعلٍ أكيد في القصيدة العربية، فإن هذا الحديث اتجه مع الملائكة صوب وجهة جديدة، قوامها القول بأن للشعر قوى تحركه ويستجيب لها. وما هو لافت، في مقالاتها المختلفة، هو هذا التعويل الظاهر على ألفاظ مستجِدة في الخطاب الشعري، مثل : "الجماهير"، و"الثورة"، و"الأمة"، و"الوطن العربي" وغيرها، ما يحفل به الخطاب السياسي العربي، بين يساري وقومي (متعدد الحدود والدعاوى) في ذلك العقد [35]

تتحدث الملائكة، قبل الخال وأدونيس، عن أن ما أطلقتْه وتدعو إليه هو "حركة"، وهو ما يتعين في عنوان الباب الأول في كتابها : "الشعر الحر باعتباره حركة" (ص 21)؛ وهو ما تكرره في العنوان الثاني في كتابها : "الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر" (ص 37). هذا يُظهر تعالقاً بيناً بين ما تقوله عن الشعر وما كان قد تشكل، في "الحزب" و"التيار" و"النقابة" وغيرها من أشكال الاجتماع، في مجتمعات خرجت من كونها "رعية" إلى كونها قابلة لاجتماعات متشكلة سياسةً أو مصلحة؛ وهي تدير مصالحها وأمور تمثيلها، فلا توكلها، برضاها أو رغماً عنها، إلى من يتسيَّد عليها. هذا ما يدعو إليه الخطاب الموازي للشعر، وهذا ما يحدث في تحلقات الشعراء في مجموعات [36]، ما يشكل احتذاء لما سبق تشكُّلُه في الأحزاب العربية خصوصاً  (أو في تشكلات حزبية في عدة جيوش عربية). وهو ما يرسم، وإن بخطوط خفيفة، ملامح "قيادية" للشاعر قريبة من ملامح "زعيم" الحزب أو "أمينه العام".

كما تتحدث الملائكة، قبل الخال وأدونيس، عن أن الدافع إلى تجديد الشعر "حاجة روحية"، وهي "تبهظُ  كيانَهم وتناديهم إلى سدِّ الفراغ الذي يحسونه. ولا ينشأ هذا الفراغ إلا من وقوع تصدع خطير في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه الأمة" (ص 41-42). هكذا تتحدث عن "محتِّمات" اجتماعية، وعن أن هذه الحركة "مَقُودَة بضرورة اجتماعية محضة"، ما يجعلها مثل المدِّ الذي لا يُرد، أو "الاندفاع المحتوم"، حسب لفظها. وهي تعدد بعض أسباب "الاجتماعية" هذه في السمات التالية :

- "النزوع إلى الواقع"، ما يعني التخلص شعرياً من الرومانسية؛

- "الحنين إلى الاستقلال"، ما يعني "اختطاط" الشاعر سبيلاً جديداً له بما يؤكد "فرديته" و"شخصيته"؛

- "النفور من النموذج"، سواء في الفن أو في الحياة؛

- "إيثار المضمون"، ما يعني إيلاء المضامين أولوية على الأشكال، ولا سيما القديمة والمفروضة والمتكررة.

هذه السمات تنحو إلى التجديد، وإلى إيلاء الاندفاعات الفردية و"الشبابية" أولوية في تعيين الأدب والفن، لكنها تُحذِّر، في الوقت عينه، من عواقب هذا الخطاب الاجتماعي. هذا ما لا تقوله الملائكة صراحة، ولا سيما في مقالتها "الشعر والمجتمع"، لكنها تعنيه بوضوح، إذ ترى أن "اجتماعية الشعر" (حسب لفظها) "تؤمن بالشعر إيماناً متحمساً يجعلها تنتظر منه أن يحقق المعجزات في سبيل إنقاذ الأمة، التي تَعْبُر اليوم مرحلة متأزمة من حياتها. على أن سلامة النية لا تملك أن تعصم من الاندفاع العاطفي الذي نلمس آثاره في هذه الدعوة؛ ولذلك بات على الشعر المعاصر أن يواجه الموقف، ويتخذ إزاءه قراراً" (ص 261). فما أوجهُ نقدِها لهذه الاجتماعية في الشعر ؟

ما تنتقده، بداية، هو أن هذه الدعوة "تتحدث عن كل شيء آخر غير الشعر، مع أنها موجهة إلى الشعراء" (ص 263) : أتعني "الاجتماعية" هذه موضوعات الشعر من دون غيرها في بناء القصيدة، مثل المسائل الفنية ؟ فهذه الدعوة تحتمل "نقداً شديداً" لها، من جهاتها كلها : فنياً وإنسانياً ووطنياً وجمالياً (وفق لفظها وترتيبها)، عدا أنها لا ترتكز "إلى أسس فنية، شعرية، ولم يحاول كاتب واحد بعد أن يحددها من وجهتها النظرية". وأول ما تنتقده الملائكة، في هذه الدعوة، هو أنها تُؤْثر "الموضوع" على غيره من عناصر القصيدة؛ وأنها تختار للموضوع مجالاً بعينه من دون غيره، وهو ما يتعلق بـ"الوطنية"... وهذا يعني، واقعاً، نقداً "خَفِراً"، إذا جاز القول، لدعاوى سارية في زمنها، تطلب "توظيف" السياسة والإيديولوجية في القصيدة، عند أكثر من تيار، يساري وقومي... هي مخلصة لـ"الأمة"، وللعروض، ولكنها لا تماشي "حزبيةَ" ودعاوى المجموعات الحاكمة أو الطامحة للحكم.

هكذا تحتاج مواقف الملائكة، أو "نظرتها"، إلى فحص وتدقيق مزيدين، ما دام أنها تدافع عن "الأمة"، من دون أن تحيل، في خطابها، على حمولات إيديولوجية أو سياسية، وإنما تكتفي بماضيها الأدبي والشعري، ما يجعلها حريصة عليه، وأمينة له، ومشاركة في صيانة "التماسك والأصالة في شخصية الأمة". وهي نظرة حضارية بهذا المعنى، لا تسترشد بنظرة فلسفية، ولا تدعو إليها، مكتفية وحسب بالاتكال على مواقف وآراء اجتماعية الطابع. هذا يفسر، في الأفراد كما في الجماعات، اندفاعاتها أو تبرمَها أو انحيازَها إلى سلوكات أو مواقف بعينها، ما يعكس جانباً خفيفاً من درس الملائكة، إلى جانب تحصيلها للأدب أو للموسيقى في الجامعة العراقية، في أربعينيات القرن العشرين، أو للأدب المقارن في إحدى الجامعات بالولايات المتحدة الأميركية، في الخمسينيات منه.

 

"الشعر في معركة الوجود"

للخطاب الموازي صلات بينة، أكيدة، بالخطاب الفلسفي، سواء في ما يعلنه أو في ما يتضمنه. وهي صلات تتشابك فيها معاينة الشعراء لحاصل التجارب الشعرية، ولخبراتهم فيها، مع اطلاعهم على الخطاب الموازي الغربي في جوانب منه، ولا سيما الجانب الفرنسي. ولا يسع الدارس التكلم عن إسهام شعراء عرب في فلسفة القصيدة (على ما جرى التبين والفحص والدرس)، أو أبعد منها، وإنما يقوى على ملاحظة شاغل فلسفي صريح مرتبط بالقصيدة العربية مع غيرهم، مع ما كتبه بعض المشتغلين في الفلسفة، ما ظهر خصوصاً في "شعر" في أعداد مختلفة منها. فماذا عنها ؟

إذا كانت أعداد هذه المجلة تجمع متابعات نقدية عديدة لشعرائها بوصفهم نقاداً، فإن نقاداً يتوكلون فيها بهذه المهمة أيضاً، ولا سيما خزامى صبري (قبل أن تنشر باقي مقالاتها تحت اسمها : خالدة سعيد)، وغيرها مثل كميل سعادة [37]. إلا أن أحد المشتغلين بالفلسفة، د. رينه حبشي (اللبناني)، يستوقف في مقالة أساسية له : "الشعر في معركة الوجود" [38]، المنشورة في العدد الأول من "ِشعر" [39]، وفي مقالة ثانية : "في الشعر : نظرات لرينه حبشي" [40]. وتلتقي بهاتين المقالتين مقالة ثالثة للدكتور ماجد فخري، أستاذ الفلسفة في بيروت : "مادة الشعر" [41].

لا يغفل الدارس، وهو يتناول هذه المقالات الثلاث بالمعالجة [42]، عن التعالقات البينة بين ما تقوله هذه وبين ما تشتمله مقالة أدونيس تخصيصاً في "تعريف" الشعر العربي الحديث. إذ إن بعض ما يكتبه أدونيس يستعيد الكثير مما تقوله مقالة حبشي الأولى، ولا سيما صلة الشعر بالمعرفة. يكتب حبشي : "يجب أن نؤكد قيمة الشعر كمعرفة قد تكون أعلى من معرفة الظواهر ومن ميتافيزياء الكينونة. ذلك أنها تُبصر ما لا يبصره العلم، وتُدرك ما تحاول الفلسفة إدراكه ولا تبلغه، مع الأسف، إلا نادراً" (ص 88)... وهو ما يردده حبشي في مقالته الثانية، إذ يشدد على أن "الإرادة الميتافيزيائية للشعراء الحقيقيين هي ذاتها إرادة الفلاسفة الحقيقيين" (ص 91). وهو ما يرد عند يوسف الخال، ولا سيما عند أدونيس الذي "يتملك" كلام حبشي بقوة، بل "يحوله"، كاتباً : "الشعر الحديث نوع من المعرفة، التي لها قوانينها الخاصة، في معزل عن قوانين العلم (...). الشعر الحديث، من هذه الوجهة، هو ميتافيزياء الكيان الإنساني" (ص 80). وهو المعنى عينه الذي نلقاه في مقالة فخري، وإن يبدو، هنا، أقرب إلى فهم مدرسي، متداول، عن الشعر والمعرفة، إذ يكتب في نهاية مقالته المذكورة : "إن الشعر، كالفلسفة، إن هو في جوهره إلا البحث السقراطي عن معرفة الذات" (ص 90).

ويمكن التحقق من تعالق آخر، نلتمسه في مقالة حبشي الأولى بين الظاهر والخفي، بين المرئي واللامرئي، إذ يكتب : "يَعقل العلم بإدراكه العلاقات الخفية للظاهر. وتَعقل الفلسفة باكتشافها العلائق الوجودية اللامرئية. ويريد الشعر أن يعقل بأن يعنى بالمرئي واللامرئي، في آن معاً، مستخرجاً اللامرئي في شبكة المرئي" (ص 90). ويكتب أدونيس في "تعريف" الشعر الحديث : "يمكننا القول إن الشعر الحديث (...) دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد، موضع البحث والشك. وهو، لذلك، يصدر عن حساسية ميتافيزيائية، تحس الأشياء إحساساً عفوياً، ليس وفق العلائق المنطقية، بل وفق جوهرها وصميمها اللذين يدركان التصور" (ص 80)؛ كما يكتب أدونيس : "الشعر الحديث محاولة للنفاذ إلى أعماق الواقع، وراء المظاهر والسطوح – وصوب الخارق والفائق" (ص 88).

هذا ما يصح أيضاً في كلام حبشي عن "الغموض" الملازم لطبيعة الشعر الحديث، إذ يكتب : "لهذا فهو (الشعر) لا يصل أبداً إلى إدراكٍ نيِّرٍ يمكن إثباته، ولكن إلى إدراكٍ غني، غامض" (ص 90)؛ وهي القضية التي يفرد لها أدونيس فقرة بكاملها في "تعريفه" : "قضية الغموض" (ص ص 86-90)؛ وهو ما يستعيده في أكثر من قول في "التعريف" : "خلا (معظمُ الشعر القديم والمعاصر) من السحر الغامض – جوهر الشعر" (ص 81)، و"إن الشعر الحديث، باعتباره كشفاً ورؤيا، غامض" (ص 82)...

لا يسع الدارس الاستمرار في التتبع، أو في تفقد التعالقات [43]، إذ إن له – لو طلب الاستمرار في هذا المسعى – أن يتفقد الخطاب الموازي الغربي أساساً، لا الصياغات المحلية المتفرعة منه وحسب. ولقد وجدت مناسباً، بالتالي، التوقف عند تعبيرات هذا الخطاب الفلسفي – المحض، إن جاز القول. فما فيها ؟

ينطلق فخري من تمييز دراسي معروف، لكنه يجتهد في تدقيقه، وهو أن البحوث الفلسفية في الشعر تنصرف إلى معالجة "طبيعة الشعر"، فيما تنحو الأبحاث الأدبية والنقدية إلى درس "شكل الشعر"، ولا سيما "القواعد الفنية" فيه. كما يقترب من تناول الفلسفة والشعر تناولاً فيه "تقريبٌ" أو "شبهٌ" (حسب لفظه) بينهما، إذ يرى "أن الفلسفة، كالشعر، تعرض لجميع أشكال الوجود ومراتبه دون استثناء"؛ ثم لا يلبث أن يدقق في "الشبه" فيكتب : "ولكن فعلَ الفلسفة النظرُ في هذا الوجود نظراً تجريدياً، بينما فعلُ الشعر شيء غير النظر التجريدي" (ص 86). فما يكون ؟

هذا ما يتضح بقوةٍ أشد في مقالتَي حبشي، أو في كتابات أخرى له، إذ توقف عند تقاطعات بين الخطاب الفلسفي المحض وبين خطاب الحداثة الشعري (الفرنسي)، بتجلياته الجمالية أو الفلسفية، ما يَظهر في عنايته البينة بدرس المذهب الرمزي في الشعر الفرنسي، بل يُخبر قارىءَ مجلة "شعر" كذلك عن عمله على كتاب يتناول تشابكات "الحداثة" في الثقافة الفرنسية، بين شعرها وفلسفتها. من الجلي، في كتابة حبشي، معرفته القريبة من التفلسف الفرنسي (وغيره)، ولا سيما الجمالي، وقيامه بتوليد لغة فلسفية وفق مقادير عالية من التبلور والتميز. وهو ما يجعل قارىء مقالاته شديد الوثوق بما يقرأ ويفهم، فلا تحتاج قراءة لغة (ومفاهيم) هذه المقالات إلى أبجديتّي قراءة : فرنسية وعربية، متباينتَين ومتداخلتَين.

ولقد وجدت مناسباً التوقف عند العلاقة الشديدة التي بنى عليها الخال مثل أدونيس، وحبشي كما فخري، علاقة الشعر بالفلسفة، بل الشعر بالمعرفة. فإذا كانت نظرة فخري لهما (كما ذكرناها أعلاه) معهودة، إذ تربط بين الشعر والنظر السقراطي إلى معرفة النفس، فإن نظرات الثلاثة الآخرين تنطلق وتتعين في المنظور الفرنسي، الفلسفي والجمالي، لعلاقة الشعر بالمعرفة.

 

الشعر والفلسفة بوصفهما معرفة

يمكن التدقيق في كون الأربعة (حبشي، فخري، الخال، أدونيس) يتخذون مواقف متباينة ومتشابكة في المسألة المطروحة : إذا كان كلام فخري يبدو، في جانب منه، مدرسي المصدر، فإن ما يقوله من تمييزات في الشعر، بين قديمه وجديده، من وجهة نظر فلسفية، يحمل جديداً بيناً. فهو يميز، في مقالته، بين شعر وآخر، بل يرسم "تطلعاً" للشعراء المعنيين باللحاق "بركب الحضارة" (حسب لفظه) : "إذا أراد شعراؤنا اليوم أن ينخرطوا في سلك الشعراء العالميين، ويلحقوا بركب الحضارة، وجب عليهم أن يتجاوزوا أدب الوصف والرصف والوقوف على الأطلال (...)، ووجب أن يُقبلوا على مشاكل هذا المخلوق الغريب، القريب منهم قربَ حبل الوريد، البعيدِ عنهم بعدَ الجوزاء – أي الإنسان، ويغوصوا على معاني حياته، وما فيها من أفراح ومآسي وأحزان وأحلام وحاجة إلى الشفقة والعزاء والصبر على مكاره الحدثان والجرأة على مجابهة الموت – بل على مجابهة الحياة أيضاً – برباطة جأش، وهي بعض موضوعات الشعر الحق. وحينذاك يولد عندنا شعر جديد يكون بمثابة البلسم لجراح البؤساء، والكحل الذي تكتحل به عيون السعداء" (ص 89-90). فحداثة الشعر، في حساب فخري، تعني "إنسانيته"، ويكون بذلك الشعرَ "الحق"، ما له تشابكات دلالية بينة مع الديني والفلسفي في آن. وهو، في ذلك، ينحِّي بعض الشعر القديم (الوصف، الوقوف على الأطلال...) من دائرة الشعر لحسابات فلسفية، ما دام هذا الشعر القديم يبتعد عن "المخلوق" الإنساني، وعن كيانه الانفعالي، إذا جاز القول، أي الشق الجمالي من النظر الفلسفي إلى الحداثة، ابتداء من كانط على الأقل.

هكذا يقيم فخري ربطاً بين الشعر والانفعال، ما له ترجيعات قديمة في كتابات الفارابي وابن سينا على السواء، مع قوى "النفس"، ومع قيام الشعر على "المحاكاة". إلا أنه يُبقي الشعرَ – في هذه النظرة – مشدوداً إلى الغنائي، ابتداء من الحياة نفسها، ما يجعله "جديداً" عن سابقه، في منظور لا يتخطى النظرة الفلسفية القديمة، التي رافقت تجليات النظر الفلسفي في منظومة "الفنون الجميلة" (منذ أواسط القرن الثامن عشر)، لا بعدها. أما نظرة حبشي فتبدو شديدة القرب من خطاب فلسفي متأخر، ومتفاعل مع الخطاب الجمالي في الفرنسية ابتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولا سيما مع المذهب الرمزي. وهو ما يتعين خصوصاً في كون الشعر "معرفة" بدوره : النقلة أكيدة، في الخطاب الفرنسي، بعد الرومنسية، في أن للشعر "رؤيا" (رامبو)، وهي غير المنظور الفلسفي وإن تتعالق معه؛ وأن للشعر ما يقوله أبعد من الفلسفة والعلم. وهي ثلاثية (الشعر، العلم، الفلسفة) باتت تتجاذب منظور "الحداثة" في الخطاب الموازي، مع "شعر" تخصيصاً. ولقد كان لحبشي إسهام أساس في صياغة هذا المنظور، ما يتجلى في كثير من أفكاره، التي لا نلبث أن نجدها في خطاب "شعر" عموماً، وعند عدد من كاتبيها. فكميل سعادة يتحدث، في مقالته المذكورة أعلاه، عن "الشاعر السطحي"، وينقل ما كتبه حبشي... من دون إحالة: "إذ يبقى العالم بالنسبة إلى شعره كمَنْظر وراء نافذة مغلقة" (ص 92)، فيما كان حبشي قد كتب قبل سنوات في المجلة عينها : "إذا كان الشاعر سطحياً، يبقى العالم خارج شعره كمَنْظر وراء نافذة مغلقة" (ص 89-90).

يمكن أن نتبين، في ما كتبه حبشي، قيام علاقات بين التجريدي (أو العلوي، أو الشامل، أو المجرد...) وبين الأرضي (أو السفلي، أو الجزئي، أو الحسي...)، أي العلاقات المختلفة بين عالم الوجود وعالم الماوراء : "إن كشفَ وحدة العالم بوحدة الوعي الإنساني ليس هدف الشعر وحده، بل هدف كل معرفة. حتى العلم، بطريقته، يسعى وراء هذا الهدف، باقياً على سطح الظاهر، لكن كثرتها تعرفه (...). إلا أن الشعر يذهب إلى أبعد من ذلك. الحساسية النابعة من الانطباعات عن العالم، ومن الانفعالات، تصوِّرُ الشاعر يطوف هذا كله لكي يكتشف العلائق بين الأشياء (...). هذه الإرادة الميتافيزيائية للشعراء الحقيقيين هي ذاتها إرادة الفلاسفة الحقيقيين" (عدد 4، ص 91).

يقيم حبشي الربط الشديد، بالتالي، بين الشعر والفلسفة، بل يجعل الشعر "بدلاً" عن الفلسفة نفسها، عن الماوراء خصوصاً : "الشعر الأصفى هو الميتافيزياء" (عدد 4، ص 90). ويمحض الشاعر وظيفة تكاد أن تكون "تكوينية" : "الشاعر يد للتكوين" (ص 91). ينطلق حبشي، في ذلك، من كون المدرسة الرمزية ليست تياراً أدبياً فقط، "بل كذلك محاولة فلسفية في الشعر" (ص 91)، ما يربط بين الشعر والمعرفة. إلا أن حبشي يجد أن قيمة الشعر، كمعرفة، قد تكون أعلى من معرفة الظواهر ومن ميتافيزياء الوجود، "ذلك أنها تُبصر ما لا يبصره العلم، وتُدرك ما تحاول الفلسفة إدراكه، ولا تبلغه مع الأسف إلا نادراً" (عدد 1، ص 88).

هذه الثنائية (بين الشعر والمعرفة، بين الوجود والماوراء) نتحقق منها، في صيغ ومنظورات مختلفة، عند الكتاب المذكورين : يميز ماجد فخري بين النظر "التجريدي"، الذي هو أساس الفلسفة، وبين الشعر بوصفه "يساهم في فعل الخلق المتواصل" (ص 87)؛ و"الشاعر لا يخلق شيئاً بل ينفذ ببصيرته الحادة إلى ما تخبئه المرئيات وراءها من معاني وأشكال، فيقتنصها ويكشف نقاب الحس عنها (...). وهكذا يكون الشعر الأصيل ضرباً من الرؤية الثاقبة، أو، إذا شئت، ضرباً من الرؤيا" (ص 87). وهو ما يجعل فخري يميز بين "الرؤية" و"الرؤيا"؛ إلا أن الرؤى، عنده، تبقى فلسفية، كلاسيكية، مرتبطة بالمشاعر والأخلاق و"الحق"، وبإسهام الشاعر في "التنبيه إليها"، وهو، بالتالي، ليس خالقاً، أو "صاحب نبوءة" أو "كاشفاً".

أما يوسف الخال فيجد، إذ ينتقد الشعر العربي التقليدي، أن تخلفَه يعود إلى أنه يتمثل نسق الفلسفة، إن جاز القول، ما دام أنه يتكل على ما "يهبط" عليه من منظور الفلسفة والعقل، أي "الكلي" و"الشامل"، بينما للشعر الحديث أن ينطلق، في حساب الخال، من الجزئي والخاص، ما هو شأن المخيلة الفنية والشعرية : "الشاعر العربي، حتى هذا التاريخ، ورغم نشوء نهضة تدعو إلى المفهوم الحديث للشعر، ما يزال يهبط من فوق، من الكلي والشامل، وهذا من شأن العقل الفلسفي والعلمي، إلى الجزئي والخاص، وهما من شأن المخيلة الفنية والشعرية" (ص 24). وهذا يعني، عند الخال، أن الشعر "يجابه" الحياة، ما يمكِّنُه من تحصيل معرفة، "يعجز" عنها العلم كما الفلسفة : "يجابه الشعر الحياة بكامل وجودها، وبذلك يعطينا نوعاً من المعرفة يعجز عنه العلم أو الفلسفة – أعني تلك المعرفة التي تتعالى ولا تتجرد عن عالم الخبرة المحسوس (...). فالعلم والفلسفة يُجرِّدان الخبرة في نظريات كلية مستندة إلى منطق العقل. وهما، حين يُعبِّران عن هذه النظريات بالكلمة، إنما يتوسلانها كأداة. أما الشعر فلا يجرِّد الخبرة بل ينظمها في دفقها وانسيابها الأول استناداً لا إلى منطق العقل، بل إلى عفوية الكلمة الحية المتعددة الوجوه، فيعطيها شكلاً ويرفعها إلى مصاف الرؤيا" (ص 25).

هكذا يفرق الخال بين المعرفة الشعرية والمعرفة الفلسفية أو العلمية من ناحية التجسيد والتجريد : فالشعر، في منظوره، "يصفِّي خبرتنا ويبلورها، ويجعل متشابكاتها أكثر معنى في الشعر منها في الحياة، حتى ليمكن القول إن الشعر يساوي الحياة مع شيء آخر. هذا الشيء الآخر ينفرد الشعر بإعطائه، وهو جزء صار بالكملة كلياً وحلَّ بيننا" [44].

إلا أن الخال يعود، في مكان آخر في كتابه، إلى موقف من الشعر، تقليدي ومعهود، وهو تعيينه في منظومة "الفنون الجميلة"، إذ يكتب أن الشعر "فن جميل" : "ففي هذا العصر تنازلَ الشعر عن دعواه في حمل المعرفة، أو تقييم الأشياء، أو التعليم والوعظ والإرشاد، واكتفى بأن يكون فناً جميلاً (...) بل رأس الفنون الجميلة" (ص 91-96-97). وهو ما يعززه أكثر في هذا القول : "إن الشعر فن، والفن لا غاية له إلا التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا" (ص 14)؛ وهو ما لا يتوانى عن تأكيده : الشعر "خليقة فنية جمالية" (ص 19).

تأكدنا، إذاً، من أن الخال يربط أعلاه، أو لا يفصل بالأحرى، في المعرفة، بين العلم والشعر، ما دام أن الأول منهما يحقق معارف وإنجازات، لازمة في منظور الحداثة، فيما يتكفل الثاني منهما (أي الشعر) بـ"الحياة" نفسها، وبتجديدها "الروحي" خصوصاً. وهو ربطٌ يبتعد عنه أدونيس، إذ يرى، في الشعر، "معرفة" و"قوانين خاصة" هي غير "قوانين" العلم : "إن الشعر الحديث نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم" (ص 80). وهو بدوره يتحدث (كما حبشي وفخري والخال) عن "الرؤيا" الشعرية، إلا أنها تتخذ عنده وجهة أخرى، إذ لا تبقى متعالقة بمعنى ما بفلسفة الوجود، بل تتعين في ماورائية تنبوئية-صوفية، أو حدسية في أدنى الأحوال : "لا يمكن الشعر أن يكون عظيماً إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم" (ص 81). وإذا كانت "الرؤيا" عند الخال تُعيِّنُ مفهوماً "حضارياً"، ما يساوي النظرة-الموقف، فإن حبشي يميز، بعد أن يقيم الربط، بين "الرؤية" و"الرؤيا"، على أن الثانية منهما تبقى عالقة في الحسي والخفي من الموجودات. وهو ما يجاريه به الخال، إذ يكتب : "مهمته (الشعر) التلقائية الفريدة هي النفاذ فيما وراء الظواهر المتناقضة، المشوشة، المبهمة، ليكشف بالحدس والرؤيا أسرار الوجود الحقيقي، المليء بالانسجام والنظام والمعنى" (ص 14). أما أدونيس فينحو وجهة أخرى لا تربط منظور الشعر الحديث بعمق تنبؤي-صوفي وحسب، إنما تقرنه (مع رامبو) بالسحر : "إن الشعر الحديث نوع من السحر لأنه يهدف إلى أن يجعل ما يفلت من الإدراك العقلي مدركاً" (ص 86).

 

 

 

بين العيش والاطلاع

إذا كان الخطاب الفلسفي، بأثر واضح من حبشي (ومن خلفه المتن الفلسفي، الرمزي، في الخطاب الفرنسي)، قد مكَّنَ الخطاب الموازي من أن "يسوغ" القصيدة العربية الحديثة، و"يبررها"، و"يشرِّعها"، فإن هذا الخطاب قد "يُجَمِّلُ" القصيدة أيضاً من دون أن "يقوِّي" فاعلية الخطاب الفلسفي بالضرورة، خصوصاً وأن مواقف الخطاب الموازي ومفاهيمه وقيمه وألفاظه الاصطلاحية سادت وانتشرت أبعد من هؤلاء الكتاب، ومن المجلة نفسها [45]. لهذا أمكن القول إن "تمثُّل" مفهومَي "الحديث" و"الحداثة" (فيما تتحدث الملائكة عن "المعاصر" و"الحر") في المجال الشعري مغرٍ وجذاب ومضلل في الوقت عينه. فمثل هذه الألفاظ الاصطلاحية والنظرات الفلسفية والتعبيرات الفكرية تستقطب حمولات، وتشير إلى معان ودلالات، جديدة في الخطاب العربي، ما لا يقوى الدارس على تتبعه خارج الخطاب الموازي للشعر في تلك العقود. ويبدو ذلك صادراً عن كون هؤلاء الشعراء نقاد ومنظِّرون وأصحاب مشروعات ودارسون أكاديميون للشعر، ما يظهر في أعداد كبيرة منهم، من أمثال : نازك الملائكة، وأدونيس، وخليل حاوي، ونذير العظمة، وتوفيق صايغ وغيرهم. وإذا كان الخال قد درس الفلسفة، وكذلك أدونيس، بعد الثانوية، فإن غيرهما انصرف بعدها إلى درس الأدب العربي، أو الإنكليزي، من دون غيره، محصلين فوق مقاعد الدراسة دروساً متنوعة ومتعددة من خطابات العلوم الإنسانية، ما لا يبتعد عن التلخيص والتعريف والتبسيط. وقد يكون الجمع، في حيوات بعضهم وسلوكاتهم ومواقفهم، بين الدرس والانخراط الحزبي، قد وفَّرَ لهم مرتكَزاً نظرياً وفكرياً، له أسانيد فلسفية متداخلة في الغالب. فالدارس لا يجد صعوبة في تبين هذه المرجعيات الحزبية، في "القومية السورية" عند كثيرين من شعراء لبنان وسوريا، بين أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ولا سيما في مجلة "شعر"، وفي الشيوعية، عند شعراء عراقيين مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، أو في القومية العربية عند السياب (في فترة تالية) وشاذل طاقة وغيرهما، فيما كانت تنشط التروتسكية، بصيغتها السوريالية، في أوساط مثقفة قاهرية، بورجوازية وفرنكوفونية...

إلا أن هذه الانشدادات الحزبية تبقى واهية، عرضة لتقلبات شديدة، يمكن تبينها في مواقف الكثيرين من هؤلاء الشعراء وتبدلاتهم، ما يجعلهم "رفاق درب" في أفضل الأحوال [46]. هذا يفسر أيضاً - في ما يفسر – النزعة القيادية عند عدد منهم، ممن طلبوا تأسيس "حركات" شعرية، وتأسيس مجلات تأميناً ونشراً لهذه الوجهة القيادية، بين "شعر" يوسف الخال و"مواقف" أدونيس، مروراً بمجلات السورياليين في القاهرة وغيرها. إلا أن ما يعنينا التوقف عنده هو التمثل الفلسفي في هذا الخطاب الموازي للشعر. فماذا فيه وعنه ؟

لو عاد الدارس إلى شعراء مختلفين، فرنسيين وإنكليز وأميركيين وغيرهم، ممن "تمثَّلَهم" هولاء الشعراء العرب، لوجد أن مساراتهم مختلفة، إذ إنهم كانوا بعيدين، في الغالب، عن هذا "الخلط" و"التعدد" و"التداخل" في مهنهم وانشغالاتهم. فما كان الشاعر منهم ينصرف في الغالب إلى غير ما يشغله في الشعر؛ وهو إن تنطح لقول فلسفي أو نقدي أو فني في الشعر ما صدر في ذلك عن نزعة "حزبية" أو متمثلة لها، وإنما عن مسعى في بناء معنى، موازٍ للقصيدة، لقصيدته كما لقصيدة غيره [47]. ولو توسع الدارس في التعرف على كتابات هؤلاء الشعراء الغربيين الموازية، لوجد أنهم يسعون أحياناً إلى صياغة تعريفات "الحديث" و"الحداثة" : هذا ما يَظهر بقوة وجلاء عند شارل بودلير، حتى إن كتاباته في النقد الفني عموماً، بين تشكيل وموسيقى وغيرها، تتعدى مئات الصفحات، فضلاً عن أنه صاغ، بل اقترح أول تعريف – معروف في الخطاب الغربي – عن "الفنان الحديث"، ما يعود إليه واقعاً الفلاسفة الغربيون أنفسهم في تفكيرهم الفلسفي حول "الحداثة". ومن يعد إلى كثير من كتابات الفلاسفة الأوروبيين، ولا سيما في القرن التاسع عشر، يتحقق من اشتمال الخطاب الفلسفي على أكثر من شريحة شعرية فيه، إذ يتفكر في "الحديث" و"الحداثة" من هيغل إلى نيتشه.

ما يمكن التنبه إليه خصوصاً في هذا المسار الغربي هو أن الشاعر منهم – قبل السورياليين تحديداً - جعلَ من تجربته في الشعر، في الحياة، محلَّ تفكر وجودي وفلسفي، له أن يقرن الخطاب الفلسفي بمواد ومواقف ونظرات تسعفه في فهم جوانب يضيء عليها الشعر وحده، ولا سيما عند شعراء – خصوصاً الألمان منهم – ممن نظروا إلى الشعر بوصفه "معرفة" إضافية ومكملة للفلسفة نفسها [48].

هذا فيما لا يجد الدارس في مسار الشعراء العرب غير نهج تعلمي، تثاقفي في أحسن الأحوال، ينتج عن القراءة، وعن الانتخاب فيها، وعن "التملك" الشديد أو المتراخي لها. فقد ظلت نازك الملائكة – على الرغم من دراساتها العالية في جامعة أميركية – لصيقة الثقافة الأدبية البغدادية، ولا سيما في طبقة متوسطة باتت تنهل وتنتخب ما تشاء من قيم تعلمتْها في الكتب، وربما عرفتها عن قرب في مدن غربية، بحكم السفر والدراسة والاختلاط؛ وهي قيم تشدد على "فردية" التجربة الشعرية وتعبيراتها الغنائية والشعورية، المبنية على قيمة الحرية خصوصاً. وما يستوقف، في هذه التجربة تحديداً، هو هذا الجمع بين هذه "الفردية" وبين المسؤولية "الحضارية"، إذ تجد الملائكة نفسها معنية وحريصة على تراث "الأمة"، فلا تبدده في حمى "التحرر". وهو ما قال به الخال أيضاً، وأدونيس خصوصاً، الذي اعتبر، بعد سنوات قليلة، أن على الشاعر "أن يُبدع شعراً في مستوى اللحظة الحضارية التي يعيشها" [49].

إنه التلازم بين هويتين : فردية، من جهة، وحضارية، من جهة ثانية، ما يولِّد القيادية التي يتمُّ الكلام عليها في هذا الخطاب الموازي؛ ويمكن التحقق منها بجلاء عند الشعراء الثلاثة : قيادية تتوسم بناء "حركة" عند الخال والملائكة، فيما تتخذ عند أدونيس - الأصغر بينهما – صفات "الخالق"، و"النبي"، في الشاعر[50].

تقدمت الملائكة بحرية صوب تشكلات جديدة للقصيدة العربية، من دون أن تعبث أبداً بمرتكَزها : عروض الخليل؛ بينما تقدَّمَ الخال تبعاً لمثال يسبقه، وعرفَه في حياة الغرب كما في فكره وشعره، وهو مثال "التقدم الحضاري الحديث" بمعنى من المعاني؛ أما أدونيس فتقدم "للكشف عن عالم"، خارج العادة والتقليد، ما يستطيعه : النبي الكاشف. نظرتْ الملائكة إلى الحركة الجديدة بوصفها "اندفاعة اجتماعية"، بل "حتمية"، غير مدللة أو متنبهة إلى أسباب التغيرات هذه. فما حدث لم يصدر عن التغيرات الاجتماعية والسياسية والجمالية، وإنما نشأ بفعل التثاقف، في أوساط متعلمة، جامعية، احتكت، بفعل القراءة، بمنتجات ونماذج أخرى للأدب، ولا سيما للشعر. هذا ما قاد إلى أن هذا الشاعر أو ذاك تطلع إلى دور "القيادي"، أو "الطليعي" (في تعابير ذلك العهد)، ما ماشى تعبيرات سارية في أكثر من حزب عربي، في تلك العقود، عن "الزعيم" و"القائد" و"المُلهِم" وغيرها، فيما سَرت عن الشعراء الغربيين، الذين تمثلوهم، تعابير مختلفة : "الظريف" (dandy)، و"الهامشي"، و"الغريب"، و"الملعون" وغيرها، ما جعل الحداثة تنهل عند هؤلاء من المادون لا من الماوراء، ومن خفيِّ العلاقات الاجتماعية ومستورِها لا من بريق ظاهرِها و"مكاناتها".

 

الوظيفة بين القصيدة والخطاب

هذا يُظهر تبايناً بين وظيفة القصيدة الحديثة وبين وظيفة الخطاب الموازي لها. فإذا كانت القصيدة العربية اتجهت نحو مقادير من الحرية في التشكل، بعيدة عن نماذجها المتبعة والسابقة، فإن الخطاب الموازي لها لم يكن "رفيقَ رحلةِ" المغامرة في الشعر، وإنما كان أقرب إلى خطاب يعمل على التعيين الشديد والتسيد وعلى "تسويق" القصيدة والتجربة المقترحة. فما تتيحه مغامرة الشعر الناشىء من تجوال خيالي في مدارات غير معهودة، ومن بناء تراكيب غير مسبوقة، قد لا تتيحه كتابة الخطاب الموازي، إذ يُسرع فيه الشاعر إلى كتبٍ في مكتبته، وإلى ملخصات دراسية في ما تعلَّمَه، لكي يبني بها "موقعاً" و"أداةَ سلطةٍ"، بما يؤكد "المكانة"، وينشر "الشخصية".

أما التضمينات الفلسفية، التي يمكن العثور عليها في الخطاب الموازي، فهي مما قرأه الشاعر في كتب، ومما سمعه في محاضرات، حزبية وغيرها؛ وهي خصوصاً مما "تملكَه" من خطاب غيره، وليست مما أعملَ الشاعرُ فيه التفكير ابتداءً من شاغل شعري، أو جمالي، أو فلسفي، أو وجودي، في تجربته، أو في المجال الشعري والثقافي. هذا ما يُظهر جانباً "استعمالياً" في الخطاب، إذ يستعيد ما هو موجود عند غيره بوصفه "مثال التقدم" و"مثال التحرر"، لا لكونه صاحب هذه التجربة الشعرية أو تلك. هذا مدعاة إلى قراءة حاذقة، لها أن تتبين التداخل في نسيج هذا الخطاب الموازي، بين ما يتمُ الاحتفاظ به من خطاب الغير، وبين كيفية تملكه والاحتياج إليه واقعاً، ما يعني "تحويله" في غالب الأحيان. لهذا ما يكون، عند بعض الشعراء في الشعر الغربي، معاينةً للوجود، وتعبيراً عن العيش فيه، وللتعبير عنه، وما يحمل بطبيعته هذه شاغلاً فلسفياً بالضرورة، وشريكاً (وفق هذه الصفة) في استبيان المعنى وبنائه، قد يتحول – عدا الاندفاعة الغامضة التي ينطلق منها – إلى تملك "تقني"، بلاغي بمعنى ما، لحاصل القصيدة الغربية الحديثة، في بناء جُملها وتركيبِ استعاراتها وتخيُّلِ مداراتها و"مناخاتها". فلو عاد الدارس إلى حمولات قصائد عديدة لكثير من هؤلاء الشعراء العرب لتحققَ من أن "عدة" القصيدة بالمعنى البلاغي تتباين مع حمولاتها ومضامينها، فهي قصيدة "حديثة" (إذا أمكن القول) من ناحية تراكيبها وأشكال اجتماعها الأسلوبي والبنائي، إلا أنها تنبني على أسانيد غير فردية، بل حضارية واجتماعية وجماعية؛ فلا يكون المتكلم فيها سوى منشد جماعي (أي يتطلع إلى قبول الجماعة به) في أحوال كثيرة، ولا يبلغ ما كتبه شاعر عراقي في مطالع السبعينيات : "أن أفحص أشيائي، فذلك المتعة الشخصية" [51].

هو، إذاً، خطاب "عن" الحداثة، لا "فيها" [52]، ويجد في الخطاب الموازي بعض تجلياته الكتابية الأولى، ما دام أن الخطاب "عن" الفلسفة كان لا يزال، في ذلك الوقت، خطاباً تعريفياً، تلخيصياً، يبلغ أحياناً حدود "التملك" في مساع للخصام والتسيد، ولا سيما في أجهزة الثقافة والمثقفين. فلا يختلف هذا الخطاب عن سابقه، في "عصر النهضة"، إذ كان يتمُّ الكلام فيه عن "التمدن" و"العصرية" و"الهيئة الاجتماعية" وغيرها، مما حملَه خطاب "النهضة" من تبشير ووعظ قبل "التجنيد" الذي نلقاه في الخطاب اللاحق عليه، أو "إيديولوجية الكفاح"، كما أسماها محمد أركون في كتابه : "الفكر العربي" [53]. وما يمكن للدارس ملاحظته، هو أن التشكل الجديد، الناشىء، للمثقف ولأجهزة المثقفين (من جرائد ومجلات وجماعات ودعاوى وغيرها)، على أنقاض جماعات الأدباء والعلماء في العهود الإسلامية المتعاقبة، كان يتطلع إلى أداء "دور"، على أنه "نافع" و"ناصح" و"مفيد" لمجموع الأمة، التي لم تكن متشكلة في ذلك الوقت إلا في الخطاب. فما سبقت كتابته من "مشروعات" أحزاب ومن "نهوضٍ" و"تقدمٍ" لدى مثقفين-زعماء، من أمثال عبد الرحمن الكواكبي أو جمال الدين الأفغاني أو يوسف السودا أو أنطون سعادة أو زكي الأرسوزي وغيرهم، كانت تسمي وتعين "مشروعات" أو "مقترحات" لدول وأوطان وأمم وغيرها، مما كان يتشكل واقعاً في أحضان الجماعات الأهلية وبين "متقدميها"، وفي تخطيطات مشروعات الاستعمار نفسه. وهو تقابلٌ لازمٌ يحتاجه أي درس لفهم أسباب الخطاب الموازي للشعر، الذي يجد بعض مرتكزاته الأكيدة في خطاب "القادة-الزعماء" المؤسسين لخطاب "الأمة"، سواء أكانت عربية أم سورية أم لبنانية وغيرها.

هكذا وجد الخطاب الموازي في إطار "الأمة" (وقرينتها : "الحضارة") سنده وإطاره المرجعي المأخوذ من الأدبيات السياسية العربية في العقود الأولى من القرن العشرين، فالشاعر "حديث" بالقدر الذي يتكفل به باللحظة الحضارية، وبالتقدم الحضاري [54]. هذا ما نجده عند شعراء مختلفي النزعة الحزبية والإيديولوجية، ما أعرضه في عدد من المواقف : يجيب خليل حاوي على أسئلة "شعر"، قبل عودته، في صيف 1957، إلى جامعته كمبردج : "مستقبل الشعر العربي رهين بمستقبل الحياة والحضارة في العالم العربي. فإذا لم تتفتح الحياة من جديد بحيث تنشأ لنا نظرة أصيلة في الوجود تصلح لأن تكون أساساً لبناء ثقافة جديدة، فلن يتمكن الشاعر من الخلق المستمر الذي ينتهي إلى بلوغ مستوى سواه من شعراء الحضارة" [55]. ويعتقد جبرا إبراهيم جبرا، في نهاية رسالته من بغداد، في العدد نفسه، أن تقدم الشعر الحر "محتوم"، ويضيف : "إذا شئنا استمرار الحضارة. فالحضارة تستمر بالفعل ورد الفعل، بالهجوم والتراجع. وقد آن للأشكال القديمة أن تتراجع !" (ص 114).

كما تقول سلمى الخضراء الجيوسي، في حوار صحفي : "إن قلة منهم (الأدباء المعاصرين) استطاعت أن تتخطى مرحلة التجربة الخارجية من حياتنا العربية المعاصرة، وأن تنصهر في الروح العامة، بينما انصرفت الأغلبية إلى التعبير عن اتجاهات صغيرة ما زالت موجودة في مجتمعنا. ولكي يتوصل الفنان العربي المعاصر إلى التعبير الشامل عن روح عصره بإبداع، فإن عليه أن يكون قد تخطى مرحلة التعبير الشخصي والتجربة الخارجية لمشكلات العصر إلى التجربة الجماعية حيث تنصهر عواطفنا في روح التجربة العامة" [56]. وهو ما لن ينقطع عنه أدونيس بعد وقت على ذلك، في العام 1989، في حوار مع جريدة "الحياة" : "كل كتابة لا تنطلق من هذا الهاجس الحضاري الشامل لا تكون أكثر من تزيينات لغوية. قلْ لي ما همك الحضاري والإنساني والفني، أقلْ لك ما هو شعرك" [57].

هكذا شارك هذا الخطاب الموازي، أو استكمل، أو استند إلى خطاب "الأمة" على اختلافاتها وحمولاتها وحدودها، ما يبعد به عن الشاغل الماثل في التجربة "الحديثة" غربياً، بوصفها "شريكة" وصنيعة المنظور "الحديث"؛ وهو المنظور الذي يجد أسانيده ومرتجياته : في الإنسان، لا في "الشعب"؛ في الاختلاف، لا في الاجتماع؛ في "التذرر"، لا في "التحشيد".

هكذا أتى الخطاب الموازي نافعاً (على الأرجح) في درس الشعر المتأخر، من دون أن يفيد – في التفلسف - إلا في إظهار "أطياف" الحداثة، التي تبدو، في تقاطيعها، هيئاتٍ ملتبسة ومتداخلة : هيئات من يبتغي التقدم فيما يراجع خطاه دوماً؛ أو يبتغي التقدم فـ"يستعير" خطاباً من غيره ويعمل وفق محركات ودوافع ليست من طبيعة هذا الخطاب بل تناقضُه؛ أو يبتغي التقدم من دون أن يجد له مرتكزاتٍ وأسباباً في احتياجاته الخاصة... لهذا هي "أطياف"، يرى إليها الناظر من أكثر من جهة، على أن فيها بعضاً من حضوره ومن خفائه، من حقيقته ومن تمثله، من ظاهر كلامه وباطن أفعاله.

 

الإجهاز على الشعر القديم

جرى التمييز أعلاه بين "الحديث" و"الحداثة" في خطابٍ انشغل خصوصاً في التفكير ابتداء من خطاب آخر، وفي ما يمكن أن يكون عليه خطابه الخصوصي. وما سعى إليه كُتّاب هذا الخطاب الموازي تعين سلفاً في طلبهم الاندراج في منظور الآخر الغربي عن "التقدم"، حتى عند شاعرة، مثل نازك الملائكة، التي تختلط فيها تقاطيع المحافظة المجدَّدة بتقاطيع المغايرة المتحفِّظة. إلا أن هذا الاندراج تعين واقعاً في التثاقف الانتقائي، من جهة، وفي الاستثمار الفكري ابتداء منه، من جهة ثانية. هذا ما قاد إلى التمييز بين خطاب "في" الحداثة، وبين خطاب آخر (الخطاب المحلي) "عن" الحداثة، ما يقع في أصناف وأساليب من التلخيص والشرح، ومن التبشير والحض والوعظ. هذا ما يقع في التبني، في الاتكال، في اختيار ما هو مكفول وحصين وحامل لقيمته سلفاً، ما يمنع الخطاب المحلي من التبين والمناقشة والمساءلة والمحاججة. خطاب إبعادي، إقصائي لغيره، فلا يساجله أو ينقضه، بل يرذله وينأى بنفسه عنه. خطاب "يرسم" خطة، فيتدبر كاتبُه مهمة "الدليل" [58]، الذي يستبق مراحل الخطة وخطواتها، فيعرِّف بها، وبأهدافها ومأمولاتها.

وهو ما يجد في التباين الزمني أساسه المادي، وسياقه الطبيعي : فهذه المقالات والمحاضرات في الخطاب الموازي تأتي بعد عقود وعقود على صدور الخطاب – المصدر، ما يعزز سمات الاطلاع والقراءة وغيرها من عمليات الدرس اللاحق، ما لا يقوم، بالتالي، على عمليات تفكير محايثة للتجربة التاريخية نفسها.

إلا أن القراءة، هنا، ليست عملية نظامية، وإنما هي عملية استنسابية، أقرب إلى إلقاء نظرة، أو القيام بـ"جولة"، ما يضفي عليها صفات التقطع والانتقاء والتدبير... فالقراءة تكون حكماً غير أمينة، تطلب الاندراج مدركةً أن ما تقوم به يحصل بعد وقت، ما يستوجب اللحاق به، والتزيي بزيه، ما يناسب العبارة العربية : "اللحاق بالركب السوي". وما يميز هذه القراءة، قبل أي شيء آخر، هو أنها عوّالة على غيرها، وتحويلية، وانتفاعية، ما يجعل الدروس المستخلَصة من القراءة دروساً عملية، تقنية، "برانية" بطبيعة الحال [59].

لهذا فإن القراءة النقدية لهذا الخطاب الموازي قراءة صعبة، مأزقية، لا يمكن الركون فيها إلى طبيعة العلاقة بين لحظة الخطاب ولحظة التاريخ، إذ إنها ليست مباشرة أو تواصلية أو نقدية إلا بدرجات، ووفق كيفيات. أمكن، أعلاه، التنبه إلى أن مؤدى العمليات الخطابية يرمي إلى إنشاء موقع، و"حركة" في أبعد الأحوال، ما يُجنِّد الفكر، قراءة وبناء وتوظيفاً، في اصطفاف تأثيري، نشاطي، يدعو إلى التأليب والتحشيد في الاندفاعة عينها. وهو ما يتوافق بين بناء الموقع وبين تجيير الخطاب، بما يفيد عمليات البناء نفسها. وهو أكثر من تجيير إذ يعني، واقعاً، استقبال مقومات الخطاب الآخر، والانتقاء فيه، والإنشاء ابتداء منه وفق ممكنات وقابليات محلية.  

إذا كانت الملائكة سعت إلى "إنزال" التجربة العروضية المتجدِّدة في "مساقط" (عروضية) قديمة، فإن مسعاها – بعيداً عن نجاحاته أو إخفاقاته – تعين في تقعيدٍ لم بناسب تماماً لحظة التفلت من نظام النظم نفسه. مسعى الخال اختلف بقوة مع ما قامت به الملائكة، إذ وجد أن للقصيدة العربية الحديثة أن تندرج في ما هو "عالمي" و"حديث" : "ما جرى في تاريخ آداب الشعوب الأخرى، يصح أن يجري في تاريخ أدبنا. فلا شيء في أدبنا يتميز أو يختلف، إن خيراً أو شراً، عن سائر الآداب. أما الشيء الذي يتناوله التميز والاختلاف، فهو القدرة على التطور الخلاق المبدع" [60]. أما ما قام به أدونيس فقد أسهم، أكثر من مقالات الشاعرين الآخرين، في ربطِ ما قرأ  بما حصَّلَ من ثقافة، إذ كان لافتاً، في "تعريفه"، أنه لم يكن بالتعريف، بل اتسم بطابع "التقديم" لما يراه "حداثة" الشعر أو "جدته". وإذا كنا قد انتبهنا أعلاه إلى أن أدونيس قد "حوَّل" الكثير من مفهومات الشعر الحديث في المنظور الفرنسي، و"تملكها" تملكاً غيَّرَ غالباً طبيعتها وتركيبها، فإن عملية التحويل هذه رسمت طلبَ التصدر لدى الشاعر والتأثير في زمنه الشعري.

هكذا طلبَ الخال "قيادة" حركة وتوجيهها، فيما طلبت الملائكة أن تكون خليفة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وطلب أدونيس أن يكون "الوسيط" بين "التراث" و"الحداثة" الأوروبية. ثلاثتهم جعلوا من الخطاب الأوروبي (في الحداثة والتقدم والتحرر من النظم...) كتلة، وجعلوا من الخطاب المحلي (الانحطاط، العروض، الثقافة التقليدية...) كتلة مواجهة لها، فيما وقفوا بين الكتلتين طالبين نقلها، أو حلَّ معضلاتها، في ما يشبه المشروع "الزعامي"، أي في صيغة محدَثة لنبي الزمن الحاضر. فلا يكون الشاعر "الحديث" معهم صاحب تجربة فريدة في العيش كما في الخطاب، وفي مساءلة التعبير في الوجود وابتداء منه. هكذا وجدتُ في خلفيات مقالاتهم المختلفة ترسيمة "الأمة" (مشروع النهوض والبناء)، كما رسمَها واضعو هذه المشروعات : تقدَّمَ هؤلاء الشعراء وفق مثالِ قادة "الأمة" أو "مُلهميها"، واقترحوا بدورهم مشروعات تحرر، ما عَيِّن واقعاً تطلعَ فئة في طبقة وسطى قيد التشكل، وتريد الإجهاز التام على جهاز الفقهاء والعلماء والأدباء القديم.

هكذا بدت الصفة ("الحديث" أو "الحر" وغيرهما) ملازمة لتجديدات فنية وبنائية في القصيدة، قد تجد في الكلام القديم عن الشعراء "المحدثين" سابقة لها في الشعر العربي، بينما بدت "الحداثة" مفهوماً يشمل القصيدة ويتعداها في الوقت عينه : مفهوم "حضاري" الهيئة والتطلع، ويتكفل بصياغته، في المقام الأول، شاعر أو "حركة" شعرية، ما يجعل "الحداثة" تسترشد وتستقوي بمقومات من خارجها (من الفلسفة والمجتمع والسياسة وغيرها)، لكي تعود من جديد وتعزز دينامية "الحديث" نفسه. فالتضمينات أو النظرات أو المواقف الفلسفية، المعلَنة أو المبثوثة في ثنايا هذا الخطاب الموازي، تجعل من القصيدة صنيعاً ثقافياً، له توقيعات فلسفية متناثرة فيه.

 

إسقاط الثنائيات الضدية

هذا ما يتعين في "التمثل" (كما تقول ورقة المؤتمر)، ويعني، واقعاً، سلسلة من السمات الدالة في هذه العملية المتمادية :

  • التشوف إلى خطاب الآخر، وجعله مثالاً، لا تجربة أو نصاً؛
  • التفاعل مع خطاب الأخر بعد وقت، بعد قيامه، ما يجعل العلاقة به، من جهة مناصريه، انتفاعية، انتقائية، استعمالية، وما يجعل هذا الخطاب، عند خصومه، موصوماً بالتنكر للذات، بل بالتنكر للثقافة الخاصة ومرجعياتها.

هذا ما يُنتج خطاباً "عن" الحديث، لا خطاباً "فيه"؛ أي لا ينشىء خطاباً يقوم على المعاينة، والتفكر، والبلورة، وإنما ينشىء خطاباً يقوم على عملية مركبة من : الاطلاع والقراءة، من الحذف والضم، من التحويل والاستبدال وغيرها. ذلك أن مدبجي هذا الخطاب الموازي يكتبون فيما يطالعون، يؤلفون فيما يترجمون، يُسقطون ويدمجون ويحورون ويغفلون وغيرها من العمليات الخفية في ثنايا الخطاب.

هذا الخطاب "رفيق درب" بمعنى من المعاني، على أن الماشي لا يستلحق من سبقوه، وإنما يستعيد الخطى فوق دروب مطروقة. مسار محصَّن، مطلوب و"مضمون" بمعنى من المعاني. عيش بالوكالة، لا الشراكة في استجلاء المعنى في الزمن الجاري.

هي علاقة اتباعية، مهزوزة بالضرورة، قابلة لمراجعات وارتدادات، ما دام أن "قوة" الخطاب "الحديث" متأتية من خارجه، من خطاب يدور الرهان حوله في سياق آخر. مع ذلك، لا يعني التمثلُ أو الاتباعُ النسخَ أو الببغائيةَ الثقافية، ذلك أن كاتب الخطاب الموازي تحركه دوافع، وتنشطه مأمولات، متأتية من السجال المحلي، ومن تنافس المواقع المحلية أيضاً. فالتعويل على خطاب الآخر لا يعدو كونه اتكالاً عليه، استجلاب قوة مزيدة في حراك دائر في جهاز الثقافة والمثقفين في المقام الأول.

خطاب مفتت، مجزأ، مثل نسيج "مرتق"، ما يحتاج، في درسه، إلى إخضاعه إلى قراءة مزدوجة ومركبة : تستبين ما في هذا الخطاب من تقميش ورتق، من جهة، وما فيه من مساعٍ  في التموقع والتسيد المحليين، من جهة ثانية.

لهذا لا يكفي التنقل خلف خطى "بوسيه الصعير"، والتقاط الحصى والتعرف عليها – هي التي بقيت مطروحة فوق الدروب المطروقة؛ ولا يكفي القول أو المناداة بأن هذا الموقف "حديث"، وأن هذه الفكرة أو النظرة "فوضوية" أو "ثورية"، وإنما التنبه إلى أن هذه العلاقة استعمالية، توظيفية ليس إلا، ولا تنتج عن قدح حجر التفلسف بحجر المعاينة الوجودية.

مع ذلك، أمكن التحقق من أن لهذا الخطاب الموازي بناء مخصوصاً، وينتهي إلى إقامة سجال وتنافس حول عدته المفهومية وقيمها، ما يُدرج الخطاب الموازي في سياق صراعي وتنافسي أوسع منه. وهو سياق "تعلَّمَ" فيه كتبة الخطاب الموازي أبجدية لغتهم الخاصة في بيئة وحزب ومدرسة وتقاليد ومشروعات تطلعٍ وتموقع محلية.

من دون درس هذه السياقات، وتمفصلِ الخطاب المحلي على الخطاب الغربي، من جهة، وتمفصل الخطاب الموازي مع خطاب محلي أشمل منه، من جهة ثانية، لا يقوى الدرس على إيفاء شروطه البحثية. ذلك أن العائد إلى المدونة النقدية السارية عن الخطاب الموازي في الآداب العربية، يقرأ فيها كما لو أن الشاعر العربي "الحديث" شريك رامبو في صنيعه، وغير ذلك من اختلاق السيرة والصنيع والمنظور.

مدبجو هذا الخطاب الموازي لم يقرأوا فقط ما قال به هيغل أو نيتشه أو بودلير أو إيليوت، وإنما قرأوا كذلك ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ويوسف السودا وزكي الأرسوزي، وتتلمذوا فوق كراسي الخلايا الحزبية لأنطون سعادة... ومدبجو هذا الخطاب المحلي اطلعوا على الألفاظ الاصطلاحية والمفهومية لـ : "الغريب"، و"الغامض"، و"الهدم"، و"الفوضى" وعيرها، وإنما فهموها وفق مدركات استقبالهم المحلي، أو حولوها بما يناسب توجهاتهم وتطلعاتهم. فالدارس يقوى – لو شاء – الوقوف عند عمليات الاستقراض والتحويل والإسقاط وإعادة الصياغة وغيرها.

المشهد طريف وبالغ الدلالة لو طلب الدارس تجميع الشعراء "الحديثين"، بين غربيين وعرب، في لقطة تذكارية لوجد أن الهامشي فيها يلتقي بالدكتور الجامعي، والمتمرد بمؤسس "حركة" شعرية، و"الغرائبي" بصاحب المشروعات الحضارية. ولو شاء الدارس تجميع المفاهيم والألفاظ الاصطلاحية الخاصة بخطاب "الحديث" لوجد أنها تتطابق من دون أن تعني المعاني والدلالات عينها، ما دام أن عملية الترجمة قد تنقل عمداً أو عفواً حمولات غير متناسبة : المعنى غير المسبوق، أو الغرائبي، يتحول بل يجعل الشاعر أشبه بالعراف، أو النبي... وما هو نتاج ثقافة مدينية، وجمهورية بالضرورة، يتزيا بلباسات إسلامية، أو "حضارية"... وبدل أن يكون الشاعر لساناً عن هشّاشة الشرط الإنساني يصبح منشد "المواكب" و"الأمة" و"الجماهير"... وبدل أن يكون هامشياً يصبح "لغم الحضارة"، حسب عبارة أدونيس... وهو ما بفسر أن الحديث عن : "الحلم" و"الهلوسة" و"الكوابيس" و"الفوضى" أُسقط تماماً من الخطاب الموازي...

لهذا فإن الاسترشاد بالخطاب الموازي – على الرغم من كونه باكراً بالقياس مع خطابات أخرى موازية للتجربة التاريخية - يبقى محدود القيمة، ما دام أن هذا الخطاب تشغلُه السياسة في المقام الأول، ما يجعله خطاباً ذرائعياً واستعمالياً بهذا المعنى، وما يخفف من إمكان الركون إليه في ملاحظة التفلسف في تجلياته الباكرة أو المتعثرة والمرتبكة أو المشوشة.

 

بين التحديث والحداثة

في الوقت الذي يروج فيه لفظ "الحديث" في الخطاب الموازي، كان لفظ آخر يروج في أوروبا، وهو "التحديث" (modernisation)، ما عنى افتراقاً في لحظة التلاقي. وهو أكثر من لقاء زمني، إذ يشير إلى التباعد في لحظتي إنتاج المفهوم أو استقباله، ما هو مدعاة لمزيد من التبين والاستجلاء. فقد عنى مفهوم "التحديث" لحظة فصلٍ، أو توقفٍ، في مسار "الحداثة" الظافر منذ هيغل على الأقل. فما كان أقرب إلى مثال ذي شروط "عقلانية" ناجزة، بات، مع "التحديث"، يحتاج إلى تاريخ تتابعي، متقطع، من دون كفالة أكيدة بحصول المرجو السامي من "الحداثة". هذا ما عنى توقفاً، أو إرجاء، في مسار "الحداثة"، من جهة، وعنى، من جهة أخرى، مزيداً من التبين للمكونات "المادية"، إذا جاز القول، لإمكان إنجاز "الحداثة".

إلا أن تبلور مفهوم "التحديث" - وإن لم يُعنَ به الكثيرون في حينها (بين الأوروبيين والغربيين) - عنى، ولا سيما مع جورج بالندييه، إمكان بزوغ الحداثة عبر "التحديث" في مجتمعات وسياقات غير أوروبية وغربية...

لم يرد لفظ "التحديث" في لغة كاتبي الخطاب الموازي، كما لم يرد في كتابات لاحقيهم، إلى أن سلط محمد أركون الضوء عليه في مسعى له أن يساعد الدارس في استبيان حصول "الحداثة" في مجتمعات عالمثالثية، في الوقت الذي تستعمل وربما تنتج أحياناً بعض مقومات وشروط "التحديث" نفسه. كاتبو الخطاب الموازي ومن لحق بهم لم يعنوا بالكلام عن "التحديث"، وإنما أعلوا، بعد الكلام عن "الحديث"، من قيمة عليا هي المآل في هذا المسار وهي : "الحداثة"، وذلك في الوقت الذي باتت تظهر فيها معالم نقد الحداثة الجذري وبروز "ما بعد الحداثة". ولا يعدو كلام أدونيس عن "أوهام الحداثة" سوى استلحاق منه بما آل إليه هذا اللفظ-القيمة في المدونة الغربية.

لهذا يصعب الركون إلى الخطاب الموازي لناحية كونه خطاب المعاينة للزمن الجاري، مثلما آل إليه خطاب الحداثة الأوروبي مع هيغل، حسب تفسير يورغان هابرماس [61]؛ ولهذا على الدارس أن يعالجه بوصفه خطاباً مستلحَقاً بأكثر من معنى ودلالة. ومن يطلب فحص هذا الخطاب يمكنه العثور فيه على مقومات و"متبقيات" من خطاب الحداثة الأوروبي، أكثر من ارتباطه بالمعاينة لما هو موجود، واتكاله على علوم إنسانية قادرة على رصد المسار التاريخي، لجهة تبلور العقلانية، من جهة، أو تبلور انتظام الدولة، من جهة ثانية. أيكون الخطاب الموازي، بالتالي، "مجرد تظاهرٍ لما يشبه" [62]، حسب قول د. موسى وهبة في حديثه عن الخطاب الفلسفي العربي المحض ؟

فلقد أسقط الخطاب الموازي الكثير من مفاهيم التجليات الحديثة في الآداب الأوروبية، مثل التعايش النزاعي بين الهدم والبناء، بين الفوضى والنظام، بين الهامشية والريادة، بين الحلم والوعي وغيرها من ثنائيات متفاعلة تواصلاً وتنابذاً ضمن العملية ذاتها. فما استبقى منها سوى القيم "الإيجابية"، إن جاز القول، بما يجعلها "مفيدة" و"راشدة" و"قابلة لتسلم المسؤولية". وهو ما يتعين في معادلة أوسع وأشمل، وهي المقابلة بين "الحداثة" و"الحضارة"، إذ التقيا في الخطاب الموازي، فيما كانا قد تباعدا في الخطاب الغربي تماماً. وقد يكون مفيداً إيراد بعض الكلام عن لفظ "الحضارة"، الذي أتى في الخطاب العربي لاحقاً على لفظ آخر، هو "التمدن"، والذي جرى استعماله منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مقابلاً للفظ الفرنسي : (civilisation). حتى إن فيلسوفاً، مثل رينه حبشي، وجد ضرورة بدوره لـ"إنزال" الحداثة في مساقط "الحضارة"، إذ كتب في "نظراته" : "أن نجد معنى الإنسان، اليوم، هو قبل كل شيء، أن نعيد للشعر مكانه في الحضارة" (عدد 4، ص 92).

"الحضارة"، إذاً، بعد "التمدن"، باتت إطاراً مفهومياً جامعاً، سواء للدعوة "العصرية" في التاسع عشر العربي، أو لدعوى "الحداثة" بعد قرن؛ وهما في كلتا الحالتين لا يتلاقيان بمرجعهما الأول والمحرِّض. فخطاب "الحداثة" الأوروبية عنى، بعد قيام الدولة-الأمة، مثالاً جامعاً لما يتعدى الدولة والفرد فيها، ولما يشدهما إلى ممكنات العقل في التصور والبناء وانتظام الحركة. أما خطاب "الحداثة" العربي فقد عنى استكمال "النهوض"، وتحديد "الهوية"، وانتصاب "الأمة" (وإن باختلافات)، ما جعل الشاعر "الحديث" يتزيا بما هو سياسي الدور والتطلع، ما يتمثل في : "الطليعي" و"الرائد" وغيرها من الاصطلاحات العسكرية في خدمة الخطاب السياسي كما الأدبي. هكذا انتهى خطاب "الحداثة" إلى أن يكون خطاباً سياسياً في دوافعه ومرمياته، وفي "تموقع" المثقفين عموماً بين "أجهزة" المجتمع الأخرى. وهو الربط الذي أقامه أنطون سعادة بجلاء بين بناء "القومية" وتوسل "السياسة" لها، إذ يقول في "المحاضرة الثالثة" : "لما كان العمل القومي الشامل المتناول مسألة السيادة القومية ومعنى الأمة لا يمكن أن يكون خالياً من السياسة، رأيت أن أسير إلى السياسة باختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة" (م. س.، ص 51)..

ربطَ الخال، خلف خطى ديكارت، بين العالَم والعِلم، بين المنهج وزوال غشاوة الدين عن الدنيا، ما يندرج، من دون مجهود، من دون مسالك عويصة، في ما هو أكيد كمثال، وهو : "الحداثة". ولا يخفف من قوة الركون إلى المثال حديثه عن "مصاعب" و"معوقات"، إذ تبدو أشبه بعراقيل في مسار مرسوم ومتصاعد ومضمون الوجهة والوصول. هذا ما جعل من "الإرادوية" تعويضا مجزياً عما لا يتوافر في  المجتمع، وبين الأفراد، فتكون في تصرف، وبمتناول "طليعيين"، ممن يتقدمون حراك المجموع، فيوجهونه بل يصنعونه، وربما يقومون به بأنفسهم ومن دون غيرهم.

هذا ما يجعل "الحداثة" مرهونة بنشاطية "عباقرة"، أصحاب إرادة، وشعور بالمسؤولية العامة. وهو ما يجعلها، قبل هذا كله، حداثة جمالية، شعرية حصراً من دون ارتباط بفنون أخرى لها أن تكون معنية بها هي الأخرى. وما كان له أن يكون "المثال" انتهى إلى أن يكون إطاراً وحسب، ليس له من غرضٍ متعينٍ في بناء الدولة، أو في بناء المجتمع الحديث، أو في توليد "الانتظامات العقلانية" التي لها أن تضمن إنجاز الحداثة في البنى والسلوكات.

تنتسب هذه "الحداثة" - المعلاة من شأنها - وتنبني على إرادة الموقف، ما يضمن "تسريعاً" لما هو جامد أو مستكين، ويضمن أيضاً "استعجالاً" للمقبِل المرجو، ما يجعل "الحداثة" بيان شعراء على أنهم مثقفون، ذوو زاد وتراث، من دون هيئات اجتماعية، حتى عند نازك الملائكة نفسها، التي تحدثت عن "حتمية اجتماعية" في بلوغ التحرر الشعري.

ومن يعد إلى دعاوى زكي الأرسوزي في "القومية" و"البعث" تأسيساً على "اللسان" (بمعنى اللغة)، أي العربية، أو إلى دعوة أنطون سعادة في نشوء "أدب حي"، أو إلى دعاوى سابقة عند خليل الخوري حول "التمدن"، يتحقق من أن لهذا الخطاب دوافع ومأمولات أخرى، هي : قيام "الأمة"، ما يستطيعه الشعر "الحضاري" و"العظيم" المناسب لها، ما يمكن أن يجسده عنوان قصيدة أدونيس : "نوح الجديد" [63] :

"لو رجع الزمان من أول

وغمرت وجه الحياة المياه

وارتجف الكون وخف الإله

يقول لي، يا نوح، انقذ لنا

الأحياء، لم أحفل بقول الإله

وجئت في فلكي معي شاعر

وثائر حر

ورحنا معاً،

رحنا ولم نحفل بقول الإله·

نفتح للطوفان أعماقنا

نغوص في الوحل، نزيح الحصى

والطين عن محاجر الطائفين

نغمس في عروقهم أننا

عدنا من التيه، خرجنا من الكهف،

وغيرنا سماء السنين·

وإننا نبحر، لا ننحني رعباً

ولا نصغي لقول الإله

موعدنا موت، وشطآننا

يأس ألفناه رضينا به

بحراً جليدياً حديد المياه

نعبره نمضي إلى منتهاه

نمضي، ولا نصغي لذاك الإله

تقنا إلى رب جديد سواه!".

يتوق المتكلم، في القصيدة، إلى "رب جديد"، غير المعروف، ما لا يحدث إلا بوجود "نوح جديد" لا يأبه بدعوة الخالق المعروفة، وإنما يريد غيرها : مشهدية كونية، تكوينية، من دون حشود، غير "الطائفين" الذين لا يريدهم المتكلم، إذ إنه يكتفي منهم بـ"شاعر" و"ثائر حر" ليس إلا، ما يشير في صورة جلية إلى "النخبوية الأنيقة" التي تجد الخلق الجديد ممكناً في عصبة متفردة تجمع بين الشعر والسياسة، وتتكفل بنهوض الأمة.

 

 

 

 

[1] يوسف الخال، (1917-1987)، شاعر لبناني من أصل سوري، من مواليد بلدة عمار الحصن في وادي النصارى في سورية. عاش صباه في طرابلس، ثم انتقل إلى ببروت، حيث عمل في النشر والصحافة والكتابة والتدريس، بعد أن حصَّل فيها بكالوريوس فلسفة من الجامعة الأميركية، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث عمل في الصحافة (رئاسة تحرير مجلة "الهدى" بنيويورك)، وفي "الأمم المتحدة" (إلى جانب شارل مالك)، قبل أن يعود إلى لبنان في العام 1955 ليؤسس مجلة "شعر" في العام 1957، ثم دار نشر ومطبعة في العام 1958، وصالة عرض للفنون التشكيلية، "غاليري وان" : المجلة شهريةـ  لكنها كانت تصدر فصلية، ولقد توقفت لأول مرة عن الصدور في خريف العام 1964، ثم عاودت الصدور في ربيع العام 1967 (أي العدد 33)، قبل أن تتوقف نهائياً في خريف العام 1970 (أي العدد 44)، من دون أن تنجح محاولات إصدارها من جديد في ثمانينيات القرن المنصرم. ومن المعروف أن الخال أراد المجلة على غرار مجلة "شعر" الصادرة في شيكاغو (Poetry). كما انعقد، إلى جانب المجلة ودار النشر، "خميس مجلة شعر" (للمناقشات)، في "نادي متخرجي الجامعة الأميركية"، أو في قاعة بفندق "بلازا" في بيروت، أو في بيت الخال نفسه.

[2] "إلى القارىء"، مجلة "شعر"، العدد 22، ربيع 1962، ص 15.

[3] تحتاج مجلة "شعر" إلى درس مزيد، متعدد الأوجه؛ ما أجد ضرورة في التشديد عليه هو أن الكلام عن "حركة" في ما يخصها ليس بالكلام المبالغ فيه، ما دام المقصود من الكلام عن "الحركة" لا يتناول درس "أثر" المجلة وما أحدثته في الشعر العربي الحديث، وإنما يتناول – خصوصاً في هذا الهامش – العلاقات التي انتظمت بين أعضاء هذه المجلة و"مراسليها"، ومن شاركوا في "اجتماعاتها"، وما انعقد حول المجلة من لقاءات ومنتديات ومؤتمرات وغيرها. ذلك أن متابع المجلة، في أعدادها، في "أخبارها" خصوصاً، يتحقق من انتظام شبكات نشطة بين أعضائها : هذا يشمل مشاركات الشعراء في نقد المجموعات الشعرية الجديدة، بما فيها مجموعات أعضاء المجموعة، ويشمل نشر أعمالهم الشعرية في "دار مجلة شعر"، أو انتظام الاجتماعات في "خميس" مجلة شعر في بيروت... وهذا يشمل "مراسلات" الشعراء من بلدانهم المختلفة (مثل جبرا من بغداد، أو شكر الله من القاهرة...)، كما يتبين أن بعضهم لا يتوانى عن الإقامة الصيفية في بيروت (مثل جبرا)، أو زيارتها (مثل السياب)، أو قيام يوسف الخال نفسه بزيارة إلى لندن وباريس تشمل خصوصاً إقامة علاقات مع الشعراء المعاصرين لهم... وما يستوقف خصوصاً، في هذا الحراك، هو أن الخال نفسه عمد إلى إقامة صلة نشطة ومنتجة مع شعراء أجانب، ولا سيما الفرنسيين منهم، مثل : آلان بوسكيه، وآلان جوفروا وغيرهما، ممن "راسلوا" المجلة أو ترجمت أشعارهم فيها. كما كانت الصحافة اللبنانية تخص، بجرائدها المختلفة ("النهار"، "الجريدة"...)، أعضاء المجلة بمقابلات ومقالات، ولا تلبث المجلة أن تنقل بعض محتوياتها. فيما كانت مجلة "الآداب" (لصاحبها د. سهيل إدريس) ترسل الاتهامات ضد المجلة بدعاوى "قومية" و"معاداة الاستعمار"...

يمكن العودة أيضاً إلى كتاب خالدة سعيد : "يوتوبيا المدينة المثقفة"، دار الساقي، بيروت، 2012، إذ تذكر فيه بعض أخبار المجلة وكُتابها، وكذلك كتاب د. نذير العظمة : "أنا والحداثة ومجلة شعر"، دار نلسن، السويد-لبنان، 2012.

[4] إن شعراء مثل خليل حاوي ونازك الملائكة ومحمد الماغوط تعاملوا مع المجلة، ثم انقطعوا عنها، فيما تكتب الشاعرة والدارسة سلمى الخضراء الجيوسي فيها كما في منافستها مجلة "الآداب" البيروتية.

[5] ألقى يوسف الخال محاضرته، في 31 كانون الثاني-يناير من سنة 1957، مع صدور العدد الأول من مجلة "شعر"، في الشهر نفسه من السنة عينها.

[6] انتسب يوسف الخال إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، في طرابلس، في أواسط الثلاثينيات على الأرجح، وعاونَ أنطون سعادة، مؤسس الحزب و"زعيمه"، في العام 1937، في تحرير جريدة الحزب : "النهضة" (مع فؤاد سليمان وفريد مبارك)، ثم تركَ الحزب، على ما يذكر سعادة نفسه في "المحاضرة الأولى" (7 كانون الثاني-يناير 1948)؛ ومما يتضح، من "محاضرة" سعادة هذه، أن الخال وغسان تويني وفايز صايغ اختلفوا مع سعادة تحت مسمى "حرية الفكر" (حسب لفظ سعادة)، كما تحول هؤلاء مع غيرهم في الحزب، أثناء غياب سعادة في المهجر، إلى "لبنانويي" الدعوة : "في الواقع اللبناني، كل شيء قومي صار "لبنانياً" " (ص 20 و22) : أنطون سعادة : "المحاضرات العشر"، طبعة منقحة، بيروت، 2012.

ويمكن العودة كذلك إلى أكثر من مقال لجان داية عن جوانب أدبية مجهولة في سيرة الخال، ولا سيما الحزبية منها : في كتاب "محاكمة أنطون سعادة" (دار فجر النهضة، لندن، 2000، صص 52-53)؛ وفي مقالة عن "بدايات" الخال الأدبية في مجلة "الصياد"، بيروت، العدد 2095، 26 كانون الأول من سنة 1985؛ أو في كشف جان داية عن باكورة الخال الأدبية، وهي  رواية "قومية" (وفق منظور سعادة) بعنوان : "سلماي".

[7] يؤكد سعادة : "حيث لا فكر، ولا شعر، جديدين في الحياة لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية" : أنطون سعادة : "الصراع الفكري في الأدب السوري" (مقالات بدأ بكتابتها في العام 1935)، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بيروت، 1978، ص27. 

[8] يوسف الخال : "الحداثة في الشعر"، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1978 : يستجمع الخال، في الكتاب، مقالات سبق أن نشرها في مجلة "شعر" بين العامين 1957 و1965، مضيفاً إليها مقالاً في غياب الشاعرَين بدر شاكر السياب وتوفيق صايغ.

[9] سعيد عقل : "قدموس" (1937)، عدتُ إلى : طبعة نوبليس، المجلد الأول، بيروت، 1991، ص 122. وتؤكد مصادر عديدة على انتساب الشاعر عقل إلى هذه المدرسة الحزبية في ذلك العهد، فيما لا يذكر عقل ذلك : الأكيد هو أن سعادة تناول هذه المطولة الشعرية في "الصراع الفكري في الأدب السوري"، ووجد أنها لا تناسب تماماً ما يرمي إليه في دعوته القومية كما الشعرية. كما يرد في الجزء الثاني من مجلدات جبران جريج عن أنطون سعادة الخبر عن قصيدة سعيد عقل التي وضعها نشيداً للحزب في العام 1937، من دون أن تلحن لصعوبة تلحينها، كما يوردها جريج (صص 27-28). كما يرد ذكر النشيد في الجزء الرابع من الكتاب عينه (ص 34)، ولاسيما عدم توفق سعادة بإيجاد ملحن مناسب، ما جعله يسقطه بالتالي : جبران جريج : "مع أنطون سعادة" (أربعة أجزاء)، من دون تاريخ الطبع (يذكر تاريخ "كلمة المؤلف"، في الجزء الأول، أنها كتبت في 25 تشرين الثاني-نوفمبر من سنة 1971).

[10] أدونيس : "إذا قلتُ يا سوريا"، بيروت، 1958، ص 26.

[11] أدونيس : "قالت الأرض"، الطبعة الأولى، 1854، المطبعة الهاشمية، دمشق، ص 19.

وفي الحديث عن "العرزال" إشارة بينة إلى ما كان اختطه أنطون سعادة في ضهور الشوير (جبل لبنان)، أي بناء عرزال، أشبه بكوخ من خشب في الصيف، يلتقي فيه مع محازبيه وضيوفه.

[12] يمكن العودة بتوسع لدرس علاقة "نظرة" مؤسس الحزب ببعض خيارات الشعر العربي الحديث في كتاب شربل داغر : "القصيدة والزمن : الخروج من الواحدية التمامية"، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، راجع خصوصاً الفصل الثاني : "تواشجات الإيديولوجيا والحداثة : مبثوث الزمن"، ص ص 87-160.

[13] ولا سيما في نقده الشديد لمواقف نازك الملائكة في كتابها : "قضايا الشعر المعاصر" (في مقالته : "رواسب الجمود في حركة الشعر"، م. ن.، ص ص 32-53)، أو في تثمينه لمواقف د. محمد النويهي في كتابه "قضية الشعر الجديد" (في مقالته : "لغة جديدة لشعر عربي جديد"، م. ن.، ص ص 54-61).

 

[14] يختار يوسف الخال لفظ "الرؤيا"، بدل "الرؤية"، وهو ما يورده أدونيس في أول محاولة له في "تعريف" الشعر الحديث (مجلة "شعر"، العدد 11، صيف 1959)، ما لي عودة لاحقة إليه؛ وهو مفهوم مستقى من الأدبيات الفرنسية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، خصوصاً مع الشاعر أرتور رامبو، في "رسالة الرائي"، والتي اتخذت عنده، وعند غيره، مثل الشاعر لوتريامون، إمكان "النظر" المختلف، أحياناً الغرائبي، إلى العالم والإنسان، بفعل "قلب الحواس" أو تأثير المخدرات المختلفة على ملكات الشاعر.

[15] هذا ما لا تعوضه، من دون شك، كتاباته بالعامية اللبنانية بعد سنوات على ذلك : "الولادة الثانية"، 1981.

يمكن العودة بتوسع إلى كتاب : د. جورج طراد : "على أسوار بابل : صراع الفصحى والعامية في الشعر العربي المعاصر : تجربة يوسف الخال"، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2001.

[16]  هذا ما يلحظه الشاعر البريطاني ستيفن سبندر، بعد سنتين على المقالتين المذكورة، إثر محاضرة لأدونيس : "الشعر العربي ومشكلة التجديد"، ألقاها في "مؤتمر روما"، في العام 1961، إذ يقول سبندر في تعقيب عليها : "لا شك أن أدونيس متأثر إلى حد بعيد بالمدارس النقدية الفرنسية الحديثة" : راجع ذلك في : "الأدب العربي المعاصر"، منشورات أضواء، من دون ذكر مدينة النشر، ولا سنة النشر، الشاهد : ص 192.

[17] أجرى الكاتب السوري محمد اسماعيل مندي، في مجلة "الأسبوع الأدبي" (دمشق، العدد 89، 5 تشرين الثاني-نوفمبر من سنة 1987)، قراءة نقدية في مقالة أدونيس الأولى : "محاولة في تعريف الشعر الحديث"، في مجلة "شعر"، وتفحص أصولها النقدية. وجد مندي، في مقالته : "من المصادر الغربية في تنظير أدونيس"، أن الشاعر استند وحسب، في مقالته، إلى كتاب فرنسي بعينه : "الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين" للكاتب الفرنسي ألبيريس (الذي ما لبث أن ترجمه جورج طرابيشي، وأصدره في كتاب، في منشورات عويدات، بيروت، 1965)، والذي صدر في فرنسا في العام 1957، قبل سنتين على نشر أدونيس لمقالته. وتتبع مندي "المحاور الأساسية" في مقالة أدونيس واجداً إياها في الكتاب الفرنسي، بل وجد نوعاً من النقل الحرفي، ما يتعدى نقل المفاهيم الشعرية وحسب.

ولقد تحققت من أن الكتاب الفرنسي المقصود هو التالي :

René Manil Abérés : Bilan littéraire du 20 siècle, Aubier, Paris, 1956

[18] كانت معرفة أدونيس بالفرنسية محدودة في تلك السنوات، بعد وقوفه على مبادئها الأولى في دراسته ما قبل الجامعية بدمشق، قبل أن ينتقل إلى باريس في العام 1961، بمنحة دبرها له المستشرق الراحل جاك بيرك، حيث حسَّن من معرفته بها، قبل أن يقيم نهائياً في باريس في ثمانينيات القرن المنصرم.

[19] يكتب يوسف الخال، في نبذة عن سيرته، في العام 1982، ما ختامه : "خلاصة القول في سيرة حياتي إلى هذا اليوم، هي أني سعيد أن ألقى وجه خالقي، وفي يدي اليمنى حركة شعرية غيرت إلى الأفضل مسيرة الشعر العربي" : "خلاصة سيرة حياة"، في الموقع الإلكتروني:www.onefineart.com .

ومن الجدير قوله أن أدونيس اعترف بدوره بـ"نجاحات" الخال هذه.

[20] يصف عصام محغوظ يوسف الخال بـ"الشخصية الرسولية" : "كم يشبه بهذا أنطون سعادة (...). كان سعادة اعتبر نفسه مؤتمناً على رسالة عليه أن يبلغها، ولو دفع حياته ثمناً لها. ومع أن يوسف الخال كان قرر باكراً أن ينقل انتسابه من الحزب إلى الشعر، فإن تأثره بالزعيم الراحل ظل قوياَ" : "مختارات من الشعر الرواد في لبنان : 1900-1950"، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1998، ص 220.

[21] ورد في افتتاحية مجلة "شعر"، "إلى القارىء"، (العدد 22، من "شعر"، ربيع 1962) ما يفيد أن أدونيس ترك الحزب في العام 1958، فيما نعرف، من مقال لجان داية أنه تركه في العام 1961، ما قد يكون له علاقة بمحاولة "الانقلاب" العسكري الفاشل الذي قام به الحزب في مطلع السنة المئكورة.

[22] أدونيس : "محاولة في تعريف الشعر الحديث"، مجلة "شعر"، العدد 11، صيف 1959، بيروت، ص ص 97-90؛ ثم أعاد نشرها في كتابه : "زمن الشعر"، وبدَلَ عنوانها في الطبعة الثانية (1978)، فصار : "الكشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف"، كما غيَّرَ بعض فقراتها، وزاد عليها أنه عاد، في كتابتها، إلى عدد من الدراسات الأجنبية : عدتُ إلى الطبعة الثالثة المأخوذة عن الطبعة الثانية : دار العودة، بيروت، 1982، ص ص 7-23.

[23] يتضح، في مجمل المقالة، كما في غيرها، تأثره بالمرجع الفرنسي، وهو ما يجمعه، في مجلة "شعر"، مع شعراء ضالعين في الفرنسية (مثل أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ)، فيما اتصل يوسف الخال وشعراء آخرون (توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي)، في مجلة "شعر"، بالثقافة الأنكلو-سكسونية.

[24] يتحدث سعادة، في محاضرة، في العام 1948، عن "الصراع الفاصل بين نفسية فتية تنظر إلى الحياة والكون والفن نظرة جديدة، ونفسيات شائخة اعتادت النظر إلى شؤون الحياة والكون ضمن الحدود المغلقة التي تكونت فيها" : أنطون سعادة : "شروح في العقيدة"، بيروت، 1958، ص 151؛ كما تحدث، قبل ذلك، في مقالات "الصراع الفكري..."، المذكور سابقاً، عن أن حصول التجديد يتأتى من "حصول التجديد أو التغيير في الفكر والشعور، في الحياة وفي النظرة إلى الحياة"، ص 27.

[25] هذا ما جعل أدونيس يربط، في أحد كتبه الأخيرة، بين التصوف والسوريالية : "الصوفية والسوريالية" (دار الساقي، بيروت، 1992)، ما استدعى رداً شديداً من الشاعر عبد القادر الجنابي : "رسالة مفتوحة إلى أدونيس في الصوفية والسوريالية ومدارس أدبية أخرى" (دار الجديد، بيروت، من دون تاريخ) : هذا ما يفسر الخلط غير الواعي، في جانب منه، والمقصود، في جانب آخر منه، بين النبوءة وفتحِ القصيدة على منافذ اللاوعي، ما يفسد بالتالي الرؤية "الطبيعية" ويجعلها بالتالي "غريبة"، كما لو أنها متأتية من عالم غير مرئي.

[26] يشدد جبرا إبراهيم جبرا، في مناقشة محاضرة أدونيس في روما (1961)، المذكورة أعلاه، مع أحد المناقشين، على أن "الكشف"، في حسابهما، يعني "الحدس"، لا "الإلهام"، مثلما يَظهر في محااضرة أدونيس : م. س.، ص 208.

[27] يكتب أدونيس في محاضرة روما (1961) المذكورة : "طبيعة الشعر" هي "نبوة ورؤيا وخلق"؛ وتقوم على "استباق العالم الراهن، وتوقع المقبل"؛ كما يرى أدونيس أن للحياة اليومية مظاهر، بل هي "حدود وحجب دون الحياة الحقة" في ترجيعات صوفية صريحة، م. س.، ص 182.

[28] أدونيس : "هذا هو اسمي"، مجلة "مواقف"، بيروت، العدد 4، 1970، ص ص 90-99.

[29] يستوقف، في كتابات الخال ومواقفه، انشداده الصريح والمعلن إلى منظور "حداثي" يرى في تجربة المجتمعات الغربية تحققَها الأمثل؛ كما تستوقف أيضاً دعواه الشديدة لـ"الحرية" التي لا تتماشى مع "انضباطية" سعادة المتشددة. ومن المعروف أن "طرد" الخال من الحزب السوري القومي الاجتماعي يعود إلى كونه من أنصار "حرية الفكر"، حسب سعادة نفسه؛ ويمكن التنبه إلى خلافات ظهرت بين بعض أعضاء الحزب، المشاركين في "شعر"، وهيئات الحزب، على ما يذكر د. نذير العظمة في كتابه : "أنا والحداثة ومجلة شعر"، المذكور سابقاً، ص ص 56-59.

[30] جمعت الشاعرة هذه المقالات المختلفة، المنشورة خصوصاً في مجلة "الآداب"، وفي مجلة "الأديب"، في كتابها : "قضايا الشعر المعاصر"، مكتبة النهضة، بغداد، 1962.

[31] كان أدونيس "يراجع" ما كتب، ويستعيده، بل كان يكتبه من جديد، مثلما فعل في صياغات شعره "النهائية" (كما أطلق عليها في طبعة متأخرة لشعره). كما يتعين هذا في مراجعته للحداثة نفسها، بين الدفاع العالي عنها وبين النبذ الشديد لها (ما لي عودة لاحقة إليه).

[32] يمكن العودة إلى مواقف أدونيس المتبدلة في "الحداثة" والمتراجعة عنها في كتاب  د. شربل داغر : "القصيدة والزمن : الخروج من نظام الواحدية التمامية"، دار رؤية للنشر، القاهرة، راجع خصوصاً : ص ص 284-294 : يقول أدونيس، في حوار مع عيسى مخلوف (جريدة "الحياة"، لندن، 10 أيار-مايو من سنة 1989) : "تبدو لي الحداثة، في ضوء التجربة، أنها، على الرغم من تأصلها في اللغة العربية، لا تزال هامشية بالنسبة إلى العقل العربي والجسد العربي. (...). ستبقى الحداثة نوعاً من الاغتصاب، أي هامشياً، ولن تصبح جزءاً عضوياً من عقلنا وجسدنا (...). أولاً، كان الكلام على الحداثة مهماً لكي يتيح المجال لكتابة مختلفة، وقد أفاد هذا الكلام من هذه الناحية. ثانياً، فُهم ها الكلام خطأ، فقد فُهم على أنه نظرية : قواعد تحل محل قواعد، في حين أن الحداثة موقف وأفق متحرك باستمرار، وليس عقيدة جاهزة...". كما يقول في المقابلة عينها : "إذا أُجيزَ لي أن أشبِّه المجتمع العربي، ضمن هذا الإطار الذي أتكلم فيه، فإنني أشبهه بالحصاة الملساء، وليست الحداثة إلا رذاذاً ينزلق على هذه الحصاة، لكن من دون أن يخترقها".

[33] ترد في كتابها الحاشية التالية : "حين كَتبت هذا الفصل سنة 1954، كان الشائع في الوسط الأدبي أن (أبا القاسم) الشابي قد مات بمرض السل الرئوي. والظاهر الآن، من الدراسات الأحدث في تونس، بلدِ الشاعر، أن مرضه كان ضعف القلب، وأنه لازمَه منذ يفاعة سنه. وقد آثرت أن أترك هذا البحث كما نُشر دون تعديل، مع الاحتراز بهذه الحاشية : المؤلفة" (م. ن.، ص 276).

[34] هذا ما خففتْ منه، في الطبعة الثالثة من كتابها، إذ ذكرت – ولو باقتضاب – مسعى الشاعر اليمني علي أحمد باكثير قبلها في التخلي عن الوزن كاملاً، وفي الاكتفاء من الوزن بتفعيلاته المتفاوتة العدد بين سطر وآخر، فيما ذكر السياب المحاولات السابقة عليه بوضوح أشد.

[35] يتصدر كتاب الملائكة الإهداء التالي : "إلى السيد الرئيس جمال عبد الناصر، تقديراً لإيمانه بالأمة العربية وجهاده في سبيلها".

[36] لا تقوى مجلة "أبولو" على الخروج تماماً على "مكانة" أحمد شوقي "الرسمية"، فنراها تجعله "رئيساً" لحركتها فيما تخالفه شعراً، بينما تتحلق "الرابطة القلمية"، في اجتماعاتها وعملها وانتظامها، وفق أسباب أخرى، تقوم على انتخاب مراكز إدارية، لا "شرفية"، فيها.

[37] كميل سعادة : "اصطلاحات وتحديدات رئيسية فرضتها حركة الشعر الحديث"، مجلة "شعر"، بيروت، العدد 25، شتاء 1963، ص ص 91-114.

[38] نقرأ، منذ العدد 14 (ربيع 1960) من مجلة "شعر، مقالة نقدية لخالدة سعيد في مناسبة صدور كتاب : "الشعر في معركة الوجود"؛ ثم نقع في العدد التالي من المجلة على إعلان عنه، بوصفه "مجموعة دراسات في نقد الشعر المعاصر"، وقد اشترك في كتابتها "نخبة من المفكرين والأدباء العرب، وهي تلقي ضوءاً مهماً على السنوات العشر الأخيرة من تطور الشعر العربي" (ص 8). ويتحقق الدارس، من مقالة سعيد (إذ لم يتوفق بنسخة من الكتاب)، من أن مادة الكتاب (14 مقالة) تعود إلى ما سبق لمجلة "شعر" أن نشرته من مقالات نقدية لمجموعات شعرية جديدة، وتعود إلى : خالدة سعيد نفسها، وأنسي الحاج، ونازك الملائكة، وجورج شامي وغيرهم، وإلى دارسين للشعر، مثل : أنطوان غطاس كرم، وأسعد رزوق، فضلاً عن حبشي وفخري المذكورين.

[39] د. رينه حبشي : "الشعر في معركة الوجود"، مجلة "شعر"، بيروت، العدد 1، 1957، ص ص 88-95، ويفيد الكاتب، في نهاية مقالته، أنه كتبها في : 25-12-1956.

[40] "في الشعر : نظرات لرينه حبشي"، مجلة "شعر"، بيروت، العدد 4، 1957، ص ص 90-92.

[41] د. ماجد فخري : "مادة الشعر"، مجلة "شعر"، بيروت، عدد 3، 1957، ص ص 86-90.

[42] كما تنشر مجلة "شعر" مقالة للفيلسوف الفرنسي، ذي الأصل اليوناني، كوستاس أكسيلوس، بعنوان : "هيراقليطس هل عنده رؤيا شعرية للعالم ؟"، مستلة من كتاب جديد له حول الفيلسوف الإغريقي.

 

[43] يمكن الحديث عن تقاطعات مزيدة بين ما كتبه حبشي وما ورد عند الخال، ولا سيما عند أدونيس، ما يعكس تقديراً مزيداً لهذا الفيلسوف، الذي يُعد مع محمد عزيز الحبابي (في المغرب)، من أوائل الدعاة لفلسفة "الشخصانية" و"المتوسطية" في الخطاب الفلسفي العربي.

[44] ألا يشير هذا القول إلى عملية "تحويلية" أصابت الموقف المسيحي القائل بأن المسيح هو "الكلمة" وهو "المتجسد" أيضاً بشراً ؟

[45] تبدو مقالة كميل سعادة : "اصطلاحات وتحديدات رئيسية فرضتها حركة الشعر الحديث"، المذكورة سابقاً، مثل استعادة توكيدية لما كان يتبلور في عدة النقد، أو لما "فرضته" "حركة" الشعر: يتوقف عند الاصطلاحات التالية : التجربة المعاناة، وشمولية التجربة، الرؤيا الشعرية، والمناخ الشعري، والزخم والتكثيف والتركيز، صلة الكلمة بالمناخ الشعري، والعمود الفقري للقصيدة وغيرها.

[46] هذه العبارة راجت حينها في أوساط الماركسيين الفرنسيين (compagnons de route)، عند حديثهم عن كتاب "يرافقون" الأحزاب والمجموعات الشيوعية في مواقفهم ونضالهم، من دون أن ينخرطوا معهم في العمل الحزبي.

[47] كما يمكن أن نلقى ذلك بقوة بادية في كتابات ستيفان مالارميه في الشعر، بما فيه درسه للشعر الإنكليزي.

[48] هذا ما انصرف إليه خصوصاً الفيلسوف مارتن هايدغر، في بحثه حول الفلسفة والشعر ابتداء من اللغة، "بيت الكائن"، وفي شعر هولدرلن بالتحديد إذ اعتبره كتبَ "قصيدة القصائد".

[49] أدونيس : "الشعر العربي ومشكلة التجديد"، محاضرة في كتاب مذكور سابقاً، ص 181.

[50] لم يتوقف الدرس عند أسباب الخلاف والانفصال بين يوسف الخال وأدونيس، على الرغم من وجود بعض الرسائل بينهما في هذا الخصوص : راجع الرسالتين الموجهتين من أدونيس إلى يوسف الخال في العام 1961 وفي العام 1971، المنشورتين في "زمن الشعر"، م. س، ص ص 232-244؛ وما يمكن تبينه فيهما هو تباعد بين "لبنانوية" الخال وتبرمه من "العربية" (لغةً وسياسة)، وبين "عروبية" أدونيس وتموضعه المتعاظم في خيارات سياسية، يسارية خصوصاً في ذلك العهد (في ابتسار شديد لهذا الخلاف). إلا أن الأكيد هو أن أدونيس اتبع، منذ نهاية العام 1969، مسار الخال، فأسس مجلة "مواقف"، وحمل فيها دعاوى جديدة تربط بين الأدب، ولا سيما الشعر، والتغيير.

[51] مؤيد الراوي :  مجلة "مواقف"، بيروت، العدد 7، ص 139.

[52] أميز، في الخطاب العربي، بين ما ينشط في الكلام "عن" الحداثة، أي من خارجها، تعريفاً و"تسويقاً" لها، وما ينشط في الكلام "فيها"، أي في جعلها شاغلاً وجودياً وفلسفياً في الوقت عينه : راجع "مدخل" كتاب د. شربل داغر : "... القصيدة العصرية".  

[53] Mohammed Arkoun: la Pensée arabe, (collection: que Sais-je). P.U.F, Paris, 2eme édition, 1979, p. 113-114.

[54] يفيد "المبدأ السابع" في حزب سعادة ما يلي : "تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي"، وهو يَذْكر، في شرح المبدإ، "أبطالاً" ممثلين لهذه النفسية، مثل زينون وإفرام (السرياني) والمعري وديك الجن والكواكبي وجبران، فضلاً عن نبوخذنصر وآشور بانيبال وهنيبعل وغيرهم، ممن يشكلون "قدوة" الأمة.

[55] مجلة "شعر"، عدد 4، خريف 1957، ص 120.

[56] مع جريدة "الجريدة" البيروتية، في 6 كانون الأول-يناير من سنة 1960، تنقله مجلة "شعر" في عدد 13، شتاء 1960، ص 113.

[57] في حوار مع عيسى مخلوف في جريدة "الحياة"، مذكور سابقاً.

[58] كان يمكن أن أضع لفظ "الرائد" بدل "الدليل"، وهما لفظان يشتركان في الدلالة والوظيفة عينها : من يستبق خطى الجماعة، أو القافلة...   

[59] هذا ما يفسر "تقلبات" بعض الكتاب في اتباع هذا الموقف أو ذاك، أو هذه العقيدة أو تلك، مثل من يتخلص من "موضة" تداعى بريقها، لا من يراجع ناقداً ومتمسكاً بالضرورة بما كان عليه تفكيره في تجربته.

[60] يوسف الخال  : "شعر"، بيروت، في افتتاحية العدد 12، خريف 1959، ص 6.

[61] Jûrgen Habermas : « Le discoure philosophique de la modernité» (traduit), Gallimard, Paris, 1988, p 8.

[62] د. موسى وهبة : "إمكان القول الفلسفي بالعربية، اليوم"، في : (إشراف : د. شربل داغر) "العربية في لبنان"، منشورات جامعة البلمند، البلمند، 1998، ص 354.

[63] أدونيس : "نوح الجديد"، مجلة "شعر"، بيروت، العدد 6، ص ص 7-9.