يعنى شربل داغر بتاريخ القصيدة المنثورة، يتوقف ملياً عند أمين الريحاني وجبران خليل جبران لكنه يتوغل في هذا التاريخ ويقع على أسماء مغمورة في غير بلد عربي، هذا مع تفريقه بين الشعر والنثر وبسطه للعلاقة بينهما وبين النص والقصيدة
صدر للشاعر والناقد والروائي شربل داغر كتابه الأخير «الشعر العربي الحديث، القصيدة المنثورة»، عن دار منتدى المعارف، بيروت، في سلسلة من دراسات في اللغة العربية، وهو الكتاب الخامس فيها. وكان قد سبقه كتب الشعر العربي الحديث: كيان النص، والشعرية العربية الحديثة: تحليل نصّي، والعربية والتمدّن، والشعر العربي الحديث: القصيدة العصرية.
وكان الكاتب شربل داغر، قد وطأ لكتابه الجديد (2015)، بأن عيّن الغاية منه، وهي «إعادة النظر في التجديد الشعري... في القصيدة العربية» (ص 9). شأنه في كلّ الكتب التي أطلق فيها قضايا، وطرح إشكاليات وأسئلة، وأعاد تصويب بوصلة البحث في مسائل ظنّ أغلب القراء والمشتغلين في النقد الأدبي أنها انطوت أو أُشبعت درسًا وأُدرجت، بالتالي في باب البديهيات التي لا نقاش فيها.
إذاً، انطلق الباحث شربل داغر من واقعة مفادها وجود صعوبة في تتبّع «القصائد المنثورة «، وفي تدبير «عدّة مناسبة لدرس هذه القصائد» (ص11). فمضى، أولا، الى تكوين مدوّنته اللسانية، أي جمع المادّة الأدبية التي يفترض أن تكون موضوع دراسته، مع إدراكه الصعوبات الكثيرة التي تقف حجر عثرة في سبيل تحليله هذه القصائد، واستخلاص خصائصها على نحو منهجي وموضوعي.
وإذ يمضي الباحث، داغر، الى تقصّي مدوّنته وتحليلها، على ضوء منهجيته التي كان سبق له أن أرساها في كتب نقدية سالفة، يستهلّ استعراضه هذا بالكلام على قصائد الشعر المنثور لديه؛ فيتبيّن له أنّ الريحاني كان أسبقَ كتّاب النهضة، ورائد القصيدة المنثورة، بفعل ثقافته الأجنبية (الإنكليزية) واطّلاعه على الشعر الأميركي المنثور (والت ويتمان، مثلا) وترجمته القصائد نثرا، تزكّيها نزعة الى التجديد في الكتابة الشعرية لم ينِ يدعو اليها منذ العام (1900) في مقالة له نشرت على صفحة «الهلال» لصاحبها جرجي زيدان، وهي بعنوان «ذوقنا الشعري».
وبعد أن يرصد الباحث أهمّ «المقوّمات الوزنية ـ الإيقاعية، والخيالية، والشعورية والتعبيرية»(ص.25) في كتابة الريحاني، ينتقل الى رائد ثانٍ، من رواد شعراء القصيدة المنثورة، عنيتُ به جبران خليل جبران.
ومما يمكن استخلاصه من رصده هذه المقوّمات، أنّ الريحاني ظاهر الاتّكال على بدائل قواعد النّظم، من مثل تكرار القوافي الداخلية للأسطر الشعرية، واقتراب أسلوبه من السّجع، واعتماده على التراكيب الجملية المكررة والمبسّطة، في آن.
أسماء مغيبة
ولئن تبيّن للباحث داغر أنّ جبران تأثّر بالريحاني، بحكم أسبقيّته مجالا، فإن الأخير بدا له أكثر احتفالا بالنثر، وأكثر تنويعًا في مقوّماته أو مظاهره ـ بحسب هلمسليف وياكوبسون ـ من سلفه؛ بدليل محاكاة جبران بنية النشيد، كما تمثّل له في التوراة (نشيد الأناشيد)، معتمدا على أسلوب المناداة ـ نزيد إليه الأمر- ومنوّعا فيه الإيقاعات الداخلية القائمة على تكرار الصيغ وتشابهها، في مواضع كثيرة، ونسميها نحن على ما يدعوه دارسو الأسلوب الغربيون (Parallellismes) المتوازيات. والحال أنّ الباحث - سعى الى تبيان المقوّمات التي تفوّق فيها جبران على الريحاني في شعرية النثر، من مثل محاكاته خطاب الإنجيل، واعتماده بنية النشيد ذي المقاطع المتعددة، وتكوينه بنيان قصائده المنثورة على أساس أسطر شعرية وتراكيب جمليّة متواترة ذات بنية قائمة على أساليب (إنشائية) متكررة (النداء، الأمر، التعجّب)، تضفي عليها الصور البيانية المبتكرة المزيد من الجمالية، فتكسبها جدّة وعمقا وقوة، جديرة بموازاتها بكتابة «نيتشه»، على حد قول نعيمة (ص 67). وكان ذلك ماثلا في العديد من القصائد المنثورة، من مثل: حياة الحب، ومناجاة أرواح، وأيتها الريح. وقد اختار الباحث القصيدة المنثورة الأولى (حياة الحب) نموذجا لتحليله واستخلاص خصائص القصيدة المنثورة الجبرانية منها.
ولكنّ الجديد في دراسة داغر، والذي استغرق ثلثي الدراسة، كان أسماء شعراء القصيدة المنثورة، من مثل: حبيب سلامة (1922)، مي زيادة (1941)، توفيق مفرّج (1932)، مصطفى لطفي المنفلوطي (1907)... بيد أنّ نوع القصيدة المنثورة لم يكن مقصورا على هؤلاء الشعراء ـ الكتّاب الذين تسنّى لهم أن يصنّفوا نصوصهم في كتب أو مجموعات شعرية بعينها، وإنما تعدّاهم ليشمل الكثير ممن كتبوا قصائد منثورة في الدوريّات الأدبية، من مثل: راجي الراعي (1924)، والياس زخريا (1930)، الذي اعتبره أنسي الحاج «أقرب الى قصيدة النثر» (ص 134)، وفؤاد سليمان و«غنائية القرية» لديه، ولا سيما في «درب القمر» وغيرها. كما نجد في مجلة «الأديب»، لصاحبها ألبير أديب، العديد من القصائد المنثورة، التي عاد وضمها في مجموعة شعرية يتيمة بعنوان «لمن؟» (1954). ونجد أيضا شاعرا عراقيا آخر، يدعى مراد رحمين ميخائيل (1906-1986)، وحسين عفيف، ومحمد حسن عواد، وإدريس الجاي ومحمد الصبّاغ وثريا ملحس، وخير الدين الأسدي، وحسين مردان وتوفيق صايغ، وجبرا ابراهيم جبرا، وغيرهم.
على أنّ الباحث داغر لا يغفل، إذ يورد أسماء هؤلاء الشعراء المكتشفين، عن ربطهم باتّجاهاتهم الشعرية وميادين كتاباتهم، والخلفيات الفكرية والثقافية التي نهلوا منها قصائدهم المنثورة. كما لا ينسى أن يبيّن الفارق بين النثر والشعر ـ في ختام العمل ـ في حين كنّا فضّلنا لو باشر ذلك في مطلع الدراسة، تبيينًا
لعدّته المنهجية ولموضوع دراسته وما يرتبط به، عنيتُ به «القصيدة المنثورة»، والمفارقة المتمثّلة في العلاقة بين الشعر/والنثر، وبين النص والقصيدة، وغير ذلك.
ومهما يكن من أمر، فإنّ كتاب الدكتور شربل داغر يضيف جديدا الى المكتبة العربية، ما دام يكشف عن نتاج الشعر المنثور والقصيدة المنثورة، الذي كان لا يزال طيّ الكتمان أو الاختزال من قبل النقد الأدبي الرسمي المشغول بنماذجه المسبقة والسريعة بغير توصيف ولا تحليل. فعسى يستضاء به للفصل بين أنواع الشعر العربي الحديث، ولحسن تأريخه وتحليله.
(جريدة "السفير"، بيروت، 20 تشرين الثاني-نوفمبر 2015).