خالد بيومي

الكاتب اللبناني يؤكد أن الشعراء يكتبون الرواية ولا ينصرفون عن الشعر، والثقافة العربية تحتاج إلى المزيد من التجدد في مناهجها ومقارباتها.
الأحد 2018/06/24
 
أجد في الرواية ما لا اجده في الشعر

يمتلك شربل داغر الكاتب والأكاديمي اللبناني القدرة على تشكيل أدواته وتغييرها بحسب الشرط الجمالي والثقافي والمعرفي، الذي يستوجب بتأثيره، التحول من مرحلة فنية إلى أخرى مغايرة، وعالمه الإبداعي والنقدي ينتمي إلى الشعر والأدب والنقد بوصفها حقولا معرفية. وهو يمتلك القدرة على تجديد المفاهيم وإدراك الحدث، وتمثيله بأسلوب مغاير، ومنهج ينزع بالضرورة لرصد المشهد الأدبي القديم والمعاصر في آن معا. كم تنشغل كتاباته بقضايا أساسية هي في صميم تشكيل المشهد الثقافي منذ “عصر النهضة”، ما يعني أنه أشد تجذرا في فهم معوقات النمو والتقدم.

حققتَ نقديّا روايتَين مجهولتَين في بدايات السرد العربي، وهما: الرواية العربية الأولى، وفق بحوثك "وي. إذن لستُ بإفرنجي" لخليل الخوري، الصادرة في العام 1859، ورواية مجهولة لفرنسيس مراش "دُرُّ الصَّدف في غرائب الصٌّدف"، الصادرة في العام 1872: هناك من يرى أن رواية “زينب” هي أول رواية عربية مكتملة الأركان. ماذا تقول؟

لا أجد سببا لخلاف في الموضوع، فالروايتان المذكورتان، وغيرهما من الروايات المجهولة، تشكل بواكير الرواية العربية. وهو ما كان بعض الدارسين لا يعرفونه، وغيرهم يعرفونه ويتجاهلونه.

هذه الحال مؤسفة، إذ أن التعصب الوطني يحول دون الدرس السليم، ويقود بعض الدارسين إلى مواقف متعصبة، ولا تخلو أحيانا من عنصرية حتى.

ما تذكره، في السؤال، عن الروايتين، من جهة، وعن رواية “زينب”، من جهة ثانية، يحتاج إلى فحص مدقق، إذ أن الروايات الثلاث وغيرها عينات من تاريخ سردي لم يتم درسه في صورة وافية وسليمة. المئات من الروايات سقطت في الإهمال، وأنكرَها الدرس تحت ذرائع مختلفة: الجهل، أو التعصب. وهو ما لا يستقيم في تشكيل درس تاريخي مناسب للرواية العربية.

ماذا يعني القول إن “زينب” مكتملة الأركان؟ أيعني أن غيرها ناقص الأركان؟ هذا غير صحيح. هذا ينتسب إلى أحكام قيمة، كأن نقول إن هذه الرواية “أجمل” أو “أكثر تمكنا” من أدواتها الفنية من تلك.

لرواية “زينب” قيمة فنية أكيدة، وهو ما انصرف إليه دارسون من دون أن يولوه الدرس المناسب. إلا أن قيمتها لا تتحصل إلا حين ندرجها في سياق يجمعها بغيرها. التشديد على “فنية” رواية “زينب” قد يوقع الداعين إليها في فخ من حيث لا يفقهون: ماذا نقول في فنيتها لو قورنت بفنية تالية عليها، عند نجيب محفوظ أو قبله؟ أنقول إن هذه أقوى اكتمالا في مقوماتها الفنية من تلك؟

هوية الرواية

 

عينة من تاريخ سردي لم يتم درسه في صورة وافية وسليمة
عينة من تاريخ سردي لم يتم درسه في صورة وافية وسليمة

 

 برأيك هل نجحت الرواية العربية في توصيف الهوية العربية؟ وهل الذاكرة عزاء لهوية لم تتحقق؟

تصعب، في حوار، الإجابة التامة والوافية عن هذا السؤال، لأن تاريخ الرواية يتعدى المئة وخمسين سنة، عدا أن ما أخبرتنا عنه الروايات المعنية لا يوفر صورة واحدة وثابتة عن الهوية العربية. فهذه الهوية متعددة ومتحولة، ولا يمكن اختصارها في صيغة جامدة، وهو ما نجده على هذه الأحوال في الروايات العربية، إذ هي متنوعة ومختلفة بدورها.

كما يصعب كذلك التسليم بـ”هوية عربية” كما لو أنها أكيدة وناجزة، فيما الرواية العربية ضعيفة، بالمقابل، ودون التطلع المطلوب بلوغه. فما يسمى “الهوية العربية” تحول وتغير في مدى تاريخنا المتأخر. ولقد تناسينا، بداية، أن الهوية العربية المقصودة بقيت لعقود متداخلة بالهوية العثمانية، وأن الهوية “العربية”، في عهد تال، قسمت العرب إلى “تقدميين” و”رجعيين”، وسط تمييزات واختلافات بين هويات أخرى لدى الشعب الواحد: فينيقية، فرعونية، متوسطية وغيرها. وماذا نقول عن هذه الهوية العربية، وقد أسقطها البعض بعد وقت لصالح هوية إسلامية، مذهبية في بعض الأحوال؟

لهذا أرى أن التشديد على الهوية العربية قد لا يوفر للمواطن العربي مرتكزا ثابتا في وجوده، بخلاف ما توفره الرواية العربية في إنتاجاتها وتمثلاتها وتعبيراتها عن الإنسان والهوية وغيرها. فتاريخ الرواية العربية يشتمل على مقادير من التراكم والتبلور ما لا نجده في التعبيرات السياسية والأيديولوجية.

الرواية تواكب الأجيال العربية بقدر أوفى من التعبير الصادق عنها، فيما تقوم الأيديولوجيا والسياسات بالضغط على المواطن، وبالتشديد على مرتكزات هويته. لهذا أستحسن النظر إلى الرواية العربية بوصفها المرآة الأكثر أمانًا في التعبير عن مسار الهوية العربية في تشكلاتها وتحولاتها.

وهو ما دعاني، منذ سنوات بعيدة، إلى الحديث عن “عالم العربية” بدل الحديث عن “العالم العربي”، أو عن العروبة.

اختلاف المواقف

يرى الدكتور جابر عصفور أننا في زمن الرواية، في حين يرى الدكتور محمد عبدالمطلب أننا في زمن الشعر، بينما يرى الدكتور عبدالقادر القط أننا في زمن الدراما التلفزيونية. في أي زمن نحن؟

أراني أمام مسألة يشدُّ فيها الدكاترة الزملاء الثلاثة اللحاف كلٌّ إلى جهته، وفق تعبير فرنسي، ما يهدد اللحاف بالتمزق. أبالغ طبعا في الكلام، إذ أنني أجد في كلام كل واحد منهم بعض السداد في الرؤية النقدية، لكنني أرى، قبل تفصيل الرأي والإجابة، أن في تفضيل كل واحد منهم عاملا مغيَّبا، وهو أساس التفضيل. فرأي الدكتور عصفور – وهو معروف للغاية، ودافع عنه بقوة في أكثر من كتاب وبحث – يقوم لإبطال تفضيل عربي سابق كان يقول إن “الشعر ديوان العرب”.

 إنه محق في حكمه، إذ إن مقارنة بسيطة تكفي للتدليل على ذلك: التفاوت البين بين إصدارات الشعر وبين إصدارات الروايات، بين العنايات النقدية المتراجعة في درس الشعر وبين تنامي الدراسات المعتنية بدرس الرواية، بين الإقبال الواسع على الرواية وبين تناقص الإقبال على الشعر… وهناك أسباب أخرى تعزز موقف الدكتور عصفور.

إلا أن لموقف الدكتور القط رجاحة، هو الآخر، لو شاهدنا نجاحات الدراما التلفزيونية إزاء الأنواع الفنية والأدبية الأخرى. وهو ما يمكن للدارس التحقق منه سريعا من دون العودة إلى أرقام المتابعات وأجهزة الاستقصاء وغيرها. أما موقف الدكتور عبدالمطلب فهو يتمسك ويشدد على “تصدر” الشعر لغيره في الأحكام الجمالية التي يستند إليها الذوق والقيمة والحُكم…

يتضح لنا أن لكل حكم أسسا لا يستند إليها الحكم الآخر، لأن كل واحد منها استند إلى ميدان غير الآخر: رأي الدكتور عصفور يحصر نطاقه في “أدب النخبة” بين القصيدة والرواية، فيما يقيم الدكتور القط حكمه في نطاق أوسع إذ يشتمل على أدب الجمهور وفنه، فيما ينقل الدكتور عبدالمطلب الحكم إلى خارج الأدب والفن، إلى الفلسفة الجمالية خصوصًا.

هذه الاختلافات مفيدة، ومنشطة للنقد والجدل، شريطة ألا نجعل منها أدوات لصراع، لتمايز، لا يجد في الأدب أو في الفن أسبابه، وإنما خارجها.

ما لا يتيحه الشعر

 

لذة الاكتشاف المباغت
لذة الاكتشاف المباغت

 

بعد عشر مجموعات شعرية، لماذا اتجهت إلى كتابة الرواية؟

بعد عشر مجموعات شعرية، أنجزتُ مجموعة جديدة تصدر بعد شهور قليلة، وأستعد لمشاركة القارئ والناقد صدور أعمالي الشعرية في مجلدين في نهاية العام الجاري. إلى جانب هذه، كتبت أكثر من رواية، وأخطط لرواية جديدة.

يصور البعض إقبال الشاعر العربي، ومنهم أنا، على كتابة أنواع أخرى غير الشعر، على أنه نوع من إعلان الخسارة، ومن اللحاق بالركب الناجح. فالشعراء الذين كتبوا الرواية بعد الشعر لم ينقطعوا عن كتابة القصائد، ما يعني أن علينا البحث عن أسباب أخرى: قد يكون أولها الإقبال على الرواية، وضعف الإقبال على الشعر، إلا أن هناك جانبا إضافيّا، ضمنيّا، وهو أن للرواية جوائز مالية، ما لا يتوافر للشعر، بكل أسف.

غير أن هناك سببا مزيدا، وهو أنني – في ما يتعلق بتجربتي – أمتحن قدراتي على كتابة الرواية بشروطها الفنية المختلفة تماما عن شروط الشعر. ألا ترى معي أن مثل هذا السبب أظهر أن عددا من المتقدمين في كتابة الرواية العربية شعراء قبل أي شيء آخر، ما يُظهر صحة رهانهم؟

يعنيني، من ناحيتي، إبراز نزوعي إلى الرواية، وهي أنها تتيح لي ما لا يتيحه الشعر: القصيدة تبقى قصيدة المتكلم، فيما تجنح الرواية إلى أن تكون، في الغالب، رواية ضمير الغائب، أي الكثرة الكاثرة، ما لا يقوى الشاعر على جمعه في بناء أدبي، فيما يقوى الروائي على الانتشار في أكثر من هيئة وموقف وشخصية ومصير وغيرها.

نقطة أخيرة: من يعرفون انشغالاتي الكتابية لم تصبهم الدهشة لمّا صدرت روايتي الأولى، إذ عرفوا انصرافي الكتابي إلى غير ميدان وكتابة، ما يستجيب لنزوعات دفينة في نفسي، وإلى خبرات ومعارف ثقافية ومهنية حصلتُها ومارستها بين الصحافة والبحث والترجمة والتخييل الكتابي.

الشريك الغامض

في ديوان شعري أخير لك، “على طرف لساني”، فكَّ الشاعر ارتباطه مع الطمأنينة، وهشَّمَ نوافذ التلقائية ومجيء الكلام الشعري على السليقة. فالديوان يعد متاهة شعرية. ما دلالة التنكر للحقيقة والإقامة في الحلم وعذابات المعنى؟

قلما أعرف، في القصيدة، مسارها قبل أن أنتهي منها. فكيف إن أردت الحديث عن كتاب شعري بكامله. هذا ما يغري في القصيدة وحده ومن دون غيرها، فيما لا تعرف لذة الاكتشاف المباغت في البحث، ولا حتى في الرواية: قد تنطلق القصيدة مثل الرواية من مشهد، من شعور، إلا أن المسار يختلف بينهما. ففي القصيدة نقطة المنطلق قد تتأكد من دون أن تستبين مآلها اللاحق، وقد تنعدم تمامًا وتتجه القصيدة في وجهة أخرى. أما في الرواية فنقطة المنطلق تحمل في جانب كبير منها خطة بناء، خطة وقائع ومسارات واحتمالات.

يعود هذا الأمر إلى التيه الذي يقوم عليه الشعر في البحث عن معنى لا يزال قيد الاكتشاف. وهو ما يختلف فيه الشعر عن غيره، إذ هو بحث وتخويض في ما يختفي فينا، ونسعى إلى استجلائه.

الشعر شريك الغامض فينا، ولم يعد، كما في السابق، تلبية لوظائف اجتماعية أو سياسية يتكفل بها الشاعر، ويتباهى بها، كتقربه من الخليفة أو من الحاكم. الشعر، في الأزمنة الحديثة، بات مقرونا بما هو فردي للغاية، ومستور، ومن دون منفعة ظاهرة له. أما الإقامة في الحلم فهي لا تعدو كونها تجريبا للحياة حيث لا نتوقعها، أو حيث نأمل بوجودها، وبقيامها. وهو ما يتجاوب مع عذابات المعنى، حيث إن الخروج من المتداول الاجتماعي عن الشعر يكون في البحث عن معنى، وهو ما ليس بالمتوافر بالضرورة، إلا في المكابدة والبحث ومساءلة الاحتمالات المختلفة.

الشاعر والقصيدة

هل تعتقد أن القصيدة تقيم مصالحة مؤقتة مع انكسار الذات؟

في مقدور القصيدة أن تجري مصالحة، وفي مقدورها أن تخاصم وتعاند. للقصيدة ما يجعلها بتصرف الشاعر: يفعل بها، وتفعل به.

للقصيدة علاقات مختلفة مع ما تنطلق منه، وما تسعى إلى التعبير عنه. لها دوافع متعددة ومتباينة: قامت القصيدة القديمة، في جانب كبير من أصنافها الشعرية، على تلبية أهداف خارجية عليها، وصرفت للشاعر نفسه مساحة محدودة من إنتاجه الشعري. فالشاعر القديم عمل في خدمة قصيدته، وظهرت بالتالي مقدرته الشعرية وبتمايز مع أقرانه الشعراء. ولا يسعنا أن نتبين علاقة الشاعر القديم بذاته، إلا في بعض المواضع، ومع بعض الشعراء.

هذه العلاقة اختلفت مع الشعر الحديث، إذ بات الشاعر أكثر تحكما بقصيدته من قبل، وأكثر تفاعلا مع ذاته فيها. مع ذلك ظهرت وظائفية جديدة للقصيدة تتمثل في ما يسمى بالقصيدة السياسية التي تجد في الشاعر خطيبا مفوها عنها… مع ذلك يمكن القول إن القصيدة الحديثة باتت أكثر إنصاتا وتعبيرا عن خلجات النفس وتعبيراتها، من قلق وخشية وحب وأمل ورجاء وخلافها. في مثل هذه العلاقات الناشئة تجد الذات أحيانا نوعا من المصالحة، ما يرضيها، وما يخفف عنها انكساراتها أمام واقع ضاغط وعنيف في أحوال كثيرة.

فالذات قد لا تجد، في ما تعيشه، ما يرضيها، ما يرضي تطلعاتها، إذ تبدو أشد غربة وانفرادا وحوارا مع نفسها من دون أن تجد في الحوار ما يرضيها، أو ما يرضي صورتها عن الذات وعن علاقاتها بالآخر وبالسياق العام.

 

شربل داغر مع شوقي أبي شقرا ومحمود شريح
شربل داغر مع شوقي أبي شقرا ومحمود شريح

 

كتابك "الشعرية العربية الحديثة" عمدة في التنظير للشعر ولبنيته: هل ترى أن كتابك سدَّ فراغا في هذه الإشكالية؟

شكرا لتقديرك. في الواقع، جرى اعتماد هذا الكتاب في أكثر من جامعة عربية، ضمن مقررات طلبة الماجستير والدكتوراه. وهو، في أساسه، الجزء الأهم من أطروحتي الأولى لتحصيل شهادة الدكتوراه في جامعة السوربون الجديدة – باريس الثالثة. ما سعيت إليه في الكتاب هو ما جذبَ الدارسين إليه، وهو أنني أخضعتُ القصيدة العربية الحديثة لأكثر من امتحان في تحليل أوجهها البنائية المختلفة: درسَ الكتاب القصيدة في مستوياتها الأربعة: الهيئة الطباعية التي تَمثُل بها للقارئ وتأثيراتها على شعرية القصيدة؛ المستوى الوزني-الإيقاعي في صيغه وتراكيبه التفعيلية أو في تشكلاته الإيقاعية أو في تعطلها أيضا؛ المستوى النحوي بما يعنيه من بناء للجملة والجُّمل، من نواحي علاقاتها بالوزن والإيقاع والمعنى؛ مستوى المعنى، أي التعبيرات والتجليات لجهة تقاطعاتها مع المبثوث الأيديولوجي والاجتماعي. وهي امتحانات أجريتها على أكثر من شاعر، في أكثر من عهد شعري، إذ طلبتُ درس القصيدة في عدة مجلات عربية جامعة، وفي عقود زمنية مختلفة.

حال النقد العربي

ما هي آفاق النقد الثقافي عربيّا؟ لماذا تحول من إشكالية بحثية إلى معركة بين الباحثين حول المنهج والموضوع؟

لا يسع الدارس توقع مآل هذا المذهب النقدي أو ذاك، أي الطلب عليه والبناء عليه في الدرس الجاد. يعرف النقد الثقافي انتعاشا أكيدا في الوقت الحالي، ولا سيما في درس الرواية، إلا أن في هذا التنامي ما يقلق تماما. فظهور “النقد الثقافي” أتى بصورة غريبة في النقد العربي، عدا أن البعض هلل له، وأعلنه بوصفه “بديلًا” لغيره من المنظومات النقدية قاطبة.

 في هذا ما يقلق، إذ إن مدارس النقد تظهر وتنشط وتتراجع وفق حسابات تتأتى، في جانب كبير منها، من سياقات فلسفية وتاريخية وتداولية، بين تقدم وتراجع لها. وما ظهرَ عليه “النقد الثقافي” في الثقافة العربية اتسم بالكثير من الإعلانات الصادمة، وبالقليل من الإنجازات الأكيدة، في واقع الأمر. وهو ما يتأتى من كون هذه المدرسة لم تشدد أبدا على بناء عدتها المنهجية الصارمة، وإنما أتت كنوع للتخلص من التشدد المنهجي المطلوب في مدارس البنيوية، من جهة، وأتت عودة مأمونة إلى النقد التقليدي واقعا، وهو ما أسميته، في أحد كتبي، بعودة التذوق الأدبي.

ما أنا مقتنع به، وأعمل عليه، هو أن النقد العربي، بجميع مدارسه، يفتقر إلى ما هو أبسط وبديهي أكثر من الاتكال على هذه المدرسة أو تلك: ففي الاتكال تصيدُ فرص، في أحسن الأحوال. ما يُفتقر إليه في النقد هو المدونة المناسبة واللازمة له، أي التحقق من توافر إنتاجات الأدب، بين رواية وشعر ومشرح وغيرها، وتصنيفها وتوثيقها، وربطها بالسياقات العامة، خصوصا في القرن التاسع عشر. وهو ما ليس بالمتوافر في جوانب أساسية منه حتى أيامنا هذه.

كما مازلنا نفتقر إلى تعدد وتنوع المقاربات المنهجية، من مقاربات تاريخية واجتماعية ونفسية وغيرها لدرس أبنية الأدب وتعبيراته. فهذه الدراسات قليلة، حتى لا أقول معدومة، وهي لازمة في الإحاطة بأدبية هذا الأدب.

ما أشدد عليه أيضا – بعيدا عن هذه المدرسة النقدية أو تلك – هو أن تكون للمنهج عدة نقدية فعالة، ويستطيع ناقدها أو منتقدها أن يحتكما معا إلى العدة النقدية ويختصمان فيها؛ أي ألا يكون النقد كما في بعض “النقد الثقافي” قائما على أقوال كهذه: هذا ما أعتقد به… هذا ما أرى… هذا حقي.. لا تمنعني من إبداء الرأي… هذه الأقوال وغيرها لا تعدو كونها أحكاما ذوقية، في أحسن الأحوال، مما يجري التداول فيه في حوار، في جلسة، أي ما لا يبني للنقد متنه المناسب.

حرية الثقافة

 

حضور الثقافة العربية يتعاظم
حضور الثقافة العربية يتعاظم

 

ما الذي تحتاج إليه ثقافتنا العربية لتحرير مسألتَي الجندر والنقد النسائي مما راج عنهما من تصورات في المدونة الثقافية العربية؟

تحتاج الثقافة العربية إلى المزيد من التجدد في مناهجها ومقارباتها، وهو ما لن يتيحه غير مناخات من الحرية في البحث والنقد. وهي مناخات لا تتحكم بها نُظم فكرية وتعليمية قائمة وحسب، وإنما تتحكم بها أيضا عقلية ذكورية فاعلة. فالدراسات التي تُعنى بالمرأة، وجودا وتعبيرا، لا تزال ضعيفة، ولا تحظى دوما بما يناسبها من اهتمام وعناية ومشروعات. إلا أن التغير واجبٌ وقادم من دون شك: يكفي أن نلقي نظرة على أعداد الكاتبات والناقدات والباحثات والجامعيات في العالم العربي لكي نتأكد من تغيرات سوسيولوجية راجحة، لا بد أن تلقي بمفاعيلها على الخطاب الدارس. وهو ما يتلمسه المراقب هنا وهناك، مثل تجمع “باحثات” في بيروت، وغيره أيضا الذي ينمي مشاركة المرأة العربية الباحثة. وإذ أشدد على هذا التبدل النوعي، الذي تضطلع به النساء، فلأنني أعتبر أن إحداث التغير لن يكون ممكنا وأكيدا من دون مبادرة النساء الباحثات وفعلهن المستديم في الثقافة.

لحظةش عالمية

هل تعتقد أن الثقافة العربية ترقى إلى مستوى دمجها حضاريّا بالمشهد الكوني؟

نعايش، بل يعايش العالم، مع الثورة الإلكترونية، صيغة جديدة للمشهد الكوني، لم يعد حتى في مقدورنا البقاء خارجها. هذا ما نتحقق منه في غير أمر في حياتنا اليومية، في تواصلنا مع أنفسنا ومع الغير. وهو ما نتبينه في تجليات الثقافة نفسها، من أغنيات وأفلام ومسلسلات تلفزيونية وغيرها. فكيف في الكتاب، الذي يصيب قطاعا أضيق، ويشمل النخبة خصوصا! ففي هذا القطاع إمكانات التفاعل والاندماج أشد من غيرها في قطاعات أخرى.

ما يستوقف خصوصا، في العقدين الأخيرين، هو تبدل صيغة علاقتنا بثقافة غيرنا، أو تبدل حضور ثقافتنا في ثقافة الغير. فمن يتابع بعض السياسات الغربية يتحقق، في الرواية (جائزة “البوكر”، على سبيل المثال)، أو في المزادات العلنية والمعارض الدولية التي تصيب الفنون العربية الحديثة، من أن هذه السياسات تسعى لإدماجنا في ما تسميه المشهد الكوني. ومن يتابع إصدارات الكتب، والترجمات من العربية إلى غير لغة ذات انتشار دولي، يتحقق كذلك من تزايد هذه السياسات ومن تنميتها المتزايدة، ما يعني أن حضور الثقافة العربية يتعاظم عما كان عليه قبل خمسين سنة على سبيل المثال.

هكذا نتبين وجود سياسات لـ”إدماجنا”، فيما لا نتحقق من وجود سياسات تنمي حضورنا في العالم.

سياسات التنوير

كيف تفسر انتكاسة حركة التنوير التي عرفها العالم العربي في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين بتأثير فكر الأنوار الذي مهد للثورة الفرنسية والذي عملت هذه الثورة على نشره في العالم أجمع؟

فشلُ التنوير لا تقع مسؤوليته على التنويريين أنفسهم، وإنما يعود إلى أن ما قاموا به، وما دعوا إليه، قام على الوعظ والتبشير والاقتراح لأغراض إصلاحية نبيلة. إلا أن مشروعاتهم هذه بقيت دون الشرط الأساس لقيام التنوير، وهو سياسات التنوير نفسها. فمن دون سياسات مناسبة للتنوير لا يمكن له أن يقوم وأن ينمو وأن يصبح واقعا تاريخيّا وثقافيّا.

وهي مهمة، بل مهمات، ملقاة على عاتق السياسة والمجتمع قبل المثقفين أنفسهم. فالمال وحده لا يكفي لإحداث النقلة المطلوبة، إن لم تصحبه وترشده سياسات تجعل الإنسان موضوع التنمية وهدفها.

أعطاب الثقافة والمثقفين

 

القصيدة مثل الرواية تنطلق من مشهد
القصيدة مثل الرواية تنطلق من مشهد

 

ما هي الأعطاب التي أصابت المثقفين العرب؟ وما أسباب تشظيهم؟

أعطاب المثقف العربي هي من أعطاب الثقافة والمجتمع، من دون أن يعني هذا إغفال عدم قدرتهم، في أحوال كثيرة، على بلورة مشروعات وسلوكيات تنهض بالثقافة والمثقفين. فمن يتابع المشهد الثقافي العربي يتحقق، في أحوال كثيرة، من أن سياسات المثقف في نطاقه، وبين أقرانه، لا تختلف كثيرا عما يمارسه الحاكم نفسه في نطاق المثقفين والثقافة.

واللافت، في السنوات الأخيرة، هو أن أعدادا من النخب العربية لم تعد تعمل وفق منطق المعارضة، أي إيجاد أجهزة ثقافية أو تمثيلية مناهضة للحكم، كما كان يظهر ذلك في عقود سابقة، وإنما باتت تعمل وفق منطق “الحظوة” والانتفاع من أي جهاز، بما فيه أجهزة المثقفين نفسها.

 فبدل الانضواءات الحزبية السابقة، باتت تظهر ظواهر شللية، انتفاعية، تجهد في أن تستفيد من ميزانيات تسيير هذه الأجهزة، وما تتيحه هذه المواقع من علاقات وخدمات وغيرها. فما كان يشيع في حكومة، مع وزراء، أو في قيادات في الإدارة العامة، بات يتمدد في كل جهاز وإدارة… بكل أسف، وتهاوتْ بالتالي المشروعات العامة، وبات الشأن الثقافي مرهونا بسياسات النجاح الشخصي لهذا الكاتب أو ذاك.

العودة إلى لبنان

أقمتَ في باريس ما يزيد على ثمانية عشر عاما، ثم عدتَ إلى لبنان: ماذا أعطتك باريس وماذا أخذت منك؟

عدتُ إلى لبنان بقرار اختياري، فيما أٌكرهت على الخروج منه في مطلع الحرب اللبنانية. وفي هذا ما يفسر هذا. إلا أن اضطراري للهجرة لم يكن بالقرار السهل: خرجت من بيروت وفي جيبي ألف ليرة لبنانية، من دون عناوين أو أرقام هواتف، تصحبني لغة فرنسية كنت أجيد القراءة فيها، من دون الكتابة الميسرة أو المحادثة السلسة بها. لهذا بدت سنوات إقامتي في باريس أقرب إلى إعادة تأهيل، إن جاز القول: تأهيل لغوي، وثقافي، ومنهجي خصوصا، وتأهيل في العيش نفسه، إذ كان لي أن أتعلم وأتقيد بسلوكيات ما كنت معتادا عليها، أو شاعرا حتى بوجوبها. ولقد كانت منذ وصولي مناسبة لإعادة قراءة نقدية في أسباب اندلاع الحرب نفسها، وللتحقق من عنفية البنى التقليدية.

إعادة التأهيل كانت اختيارية، مما يقبل به الفرد أو لا يقبل به، مما يختاره أو يسقطه. وهو ما يقع في الخيارات أكثر من العادة نفسها. وهو ما أعايشه في نفسي، في علاقاتي بغيري، في مواقفي وخياراتي، بمجرد عودتي إلى لبنان. لهذا عدتُ مختلفا، ما ينتبه إليه غيري قبلي، إذ يقولون لي: لا نفكر مثلك، نحن، ما يجعلني في موقع الخارج عليهم. وهو ما أنتبه إليه إذ أقول لبعضهم أحيانا: أنتم اللبنانيين..، منفصلا عنهم في ما أقول.

هذا لا يخفي، مع ذلك، انغماسي الشديد في ما يحيط بي، وفي ما أعتبره مهمة الكاتب في ثقافته وبلده. فمن يراجع كتبي الكثيرة يتحقق من انشغالها بقضايا أساسية هي في صميم تشكيل المشهد الثقافي منذ “عصر النهضة”، ما يعني أنني عدت لكي أكون أشد تجذرا في فهم معوقات النمو والتقدم.

أما ما أخذتْه مني الهجرة، فكثير: أحلام وأوهام، من دون أن أتبين دوما الوهم من الحلم، والحلم من الوهم. أيّا كانت طبيعة هذا من ذاك، فإنهما حرَّكا عواطفي وانشغالاتي، طامعا في أن يكون ما أنتجتُ تعويضا مجزيا عن تبدد الأحلام وانقشاع الأوهام.

بطاقة الكاتب

 

في مقهى كان يرتاده الكاتب البرتغالي فرنندو بيساو بلشبونة
في مقهى كان يرتاده الكاتب البرتغالي فرنندو بيساو بلشبونة

 

كاتب وشاعر وناقد وروائي وأكاديمي لبناني من مواليد جنوب لبنان 1950، خريج جامعة السوربون الجديدة، باريس الثالثة، حصل على شهادتي دكتوراه في الآداب العربية، وفلسفة الفن، وهو حاليا أستاذ متفرغ في جامعة البلمند اللبنانية.

أصدر أكثر من ستين كتابا بالعربية والفرنسية. من كتبه النقدية “التقاليد الشفوية العربية” (بالفرنسية)، “الشعرية العربية الحديثة”، “العربية والتمدن”، “في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة”، “الشعر العربي الحديث”، “القصيدة العصرية”، “القصيدة والزمن”، “الفن الإسلامي في المصادر العربية”، “الفن العربي الحديث/ ظهور اللوحة”.

وفي الشعر صدرت له: عشر مجموعات شعرية منها “فتات البياض”، “رشم”، “تخت شرقي”، “حاطب ليل”، “إغرابا لشكل”، “على طرف لساني”.

وفي الرواية صدر له “وصية هابيل”، “بدل عن ضائع”، “شهوة الترجمان”، “ابنة بونابرت المصرية”.

وفي الترجمة صدر له “العابر الهائل بنعال من ريح” وهي ترجمة لرسائل رامبو إلى العربية، “أنطولوجيا الشعر الزنجي الأفريقي”، “الوصية”، لريلكه.

وفي مجال التحقيق صدر له (تحقيق وتقديم) “درُّ الصَّدف في غرائب الصُّدف” (1872)، لفرنسيس مراش، (تحقيق وتقديم) “وَيْ. إذن لستُ بإفرنجي: الرواية العربية الأولى الرائدة” (1859)، لخليل الخوري.