كان لي دوما موقف متردد من السيرة الذاتية.
كُتابُها الاوائل تحرجوا منها، فكتبوها من دون أن يتقيدوا بقواعدها.
وهو حرجٌ اجتماعي، وليس حرجا ادبيا، ما دام ان أسماءهم اللامعة ومكاناتهم تقدمت الى سِيَرهم قبل أي شاغل أدبي.
هذا ما فضحَه وعرّاه محمد شكري، بسيرته الموجعة والفاقعة، الذي ما كان له أن يخسر بكتابة سيرته، مقابل ما كان يحلم بالفوز به : ان يصبح أديبا.
أنا تحرجتُ بدوري من كتابة السيرة الذاتية، ولكن لأسباب أدبية تحديدا.
اعتقد ان هذا النوع السردي - وهو جديد في الأدب، هنا وهناك - لا ينتسب إلى الأدب تماما، بل هو ناتجٌ اجتماعي في الأدب، ويتعلق بصورة الأديب "الخارجية" خصوصا.
فالأدب، عندي، ينتسب دوما إلى التخييل، وإن استندَ صراحة او ضمنا الى معطيات متأتية من حياة الأديب نفسها.
الأدب، عندي، لا يصدر عن الصدق، والأمانة، والدقة، فهي صفات غير قائمة في عمل الأدباء، ولا سيما عند الشعراء منهم.
ولا زلت مقتنعا بأن اجمل الشعر أكذبه...
لا زلت اتحقق، في تدريسي لهذا النوع السردي، من أن كتابته بعد وقت، بعد سنوات وسنوات في حياة الكاتب، هو من قبيل التذكر... وهو تذكرٌ يتكلُ - حتى في حال الأمانة في النقل - على ما بقي في الذاكرة، فيما الذاكرة "تخون"، و"تختار من تلقاء حركتها"، كما يُقال عنها.
الكاتب يكتب سيرته الذاتية كيفما كَتب، وفي أي نوع كتابي. وهو ما يقوم به الأدب بين العيش والتخيل، على أساس "اللّعِب" الذي هو في أساس أي ابداع، في ظني.
ولعلي لا أبالغ في القول إذا قلتُ إن كتابة السيرة الذاتية هي سعيٌ لتلميع صورة اجتماعية للكاتب، حتى لو كانت هذه الصورة تنهل من ضيق العيش، أو من وحل الأيام.
في ما يخصني، كتبتُ سيرة خروجي من العائلة بلسان المتكلم الذي يعود إلى ماضيه، ويتفقده مثلما نفعل عندما نزور بيتنا القديم، أو وجه حبيبتنا الاولى، أو دفتر مساعينا الكتابية في أيام المراهقة...
عدتُ إليه ابتداءً من لحظة عيشي، من عين الكتابة التي تعي أنها تكتب عن ماض، هو ماضي الإنسان الذي يحرّك بأصابعه أطرافَ حياته التي انقضت.
لا يمكن أن تكون السيرة الذاتية، في حسابي، وإذا كنتُ أمينا مع نفسي، سوى سيرة مؤلمة، لا "سيرة نجاح" (حسب عبارة أميركية).
فأنا، إذ أكتبُها، أكتب عن غيابي، وأجلس لتصوير هيئتي، على أنني أيضا، ضمن العملية نفسها، المصور الفوتوغرافي الذي يلتقط صورته.
(مع عماد الدين موسى، في ملف، في "ضفة ثالثة"، عن السيرة الذاتية، في 8-1-2021).