بين كتاب "الخروج من العائلة"، وكتاب "الخروج إلى الشارع"، من سيرة الشاعر، الروائي والأكاديمي شربل داغر، ترتسم تخوم تطلّ على عتبات تأسيسيّة في تكوينه الفكري والإبداعي. وإذا كان، في كتابه السيري "الخروج من العائلة" الحائز على جائزة ابن بطوطة في دورتها التاسعة، يفتتح زمن الكتابة من لحظة معيّنة، أو صورة واقعية أو متخيّلة : "أضعُ صورة أمامي، ممّا تبقى، وأكتب ابتداءً منها. أو أتخيل صورة، فأتعقبُها، وأتبعُها، بخفة المتزلج وأسرعَ منه"، مستدعيًا خيالًا متخفّيًا بهيئة ذاكرة، ويبني سرده عليه، فإنّه في "الخروج إلى الشارع" الصادر أخيرًا عن منشورات المتوسط، يبدو، على الرغم من أنه يستدعي الذاكرة، إلّا أنه لا يلاعبها بالطريقة نفسها، كما لو أنه يزور تاريخه في كلّ مرحلة عمريّة بما يقابلها. فتراه هناك طفلًا يستعيد طفولته ويعيد تركيبها بمتعة اللعب كما لو كانت قطعًا من "البازل"، يشكّل مناظره الملوّنة. وهنا، في "الخروج إلى الشارع"، ينتقل إلى التفكّر بتلك المرحلة، تفكّر المستكشف الواعي بقيمة التفاصيل كلّها، كاشفًا عن اشتباك تكوّنه بالفضاء العام لبيروت، في مرحلة مفصلية من تاريخها، وما ساهمت في الوقت نفسه بدفعه في أنساق ربما لم يكن يفكّر فيها، لكنها "النار والريح"، كما جاء في أحد الفصول. النار التي كانت تتقد في داخله فتشعل شغفه وطموحه وتطلّعه نحو المستقبل، من دون معرفة اتجاه الريح. لكنّ ريحًا في النهاية أضرمت بيروت في حربها الأهلية، وإعصارها دفعت رياحه بالشاب الجامح إلى مصير آخر، ربما يسرده في كتب لاحقة. اشتباك سيرته بسيرة بيروت، استمرّ فيما أنجز من كتب شعرية.

يستهلّ الفصل المعنون "كلية التربية"، بجملة شعرية من أحد دواوينه : "كنتُ أصعد على درج، تنبسط درجاته أمامي كلما وقعتْ قدمي على الهواء"، كما لو أن نهاية تلك المرحلة، التي ابتدأت بالنزول إلى الكليّة، وإلى الكافتيريا، كانت بداية مشوار الصعود نحو المستقبل، ومن يتابع شعره يرى أن للنزول فيه موقعًا يتكرّر، مثل طفل يلاعب الهواء ويترك لخطواته أن تقوده، "أنا بدوري نزلت إلى بيروت، وأنا مقيم فيها، مع أهلي، منذ أواسط الخمسينيات"، إلى ماذا يشير النزول إذا لم يكن إلى الـ "المنبسط"؟ أو إلى القاع حيث تكمن الأسرار؟ قبلها النزول من القرية، ثم النزول إلى حيث بيروت بفضائها، بأسرارها، بمجتمعها أو مجتمعاتها، حيث تنبسط أمامه ويسلّم خطواته، التي تسبقه، للريح : "أنا لم أفهم ما كان يحدث لي، كما لو أنني أنحاز إلى استدعاءات النزول من دون رفيق، من دون معرفة سابقة، كما لو أن العالم الجديد، عالم الهجرة إليه، أريده في غموض احتمالاته، مثل من يسافر إلى ما لا يعرف، كما لو أنني من دون ماضٍٍ، ولا أرغب في أي دفتر قديم". لذلك كان للكافتيريا دورها الأبرز، وسحرها الطاغي، يرى فيها تكوّنه الأساسي، ففي عتمتها انكشفت له ثقافات، وانكشف عليها، وفيها. اكتشف أيضًا ملامح هويات أخرى، "إذ ما راح يتكشف من هوياتنا كان أقرب إلى ميولنا السياسية". لذلك يرى في كافتيريا الكلية ما هو مؤسس رئيس في تكوّنه، ولو كان له أن يختار أمكنة خاصّة في تاريخه، لاختار تلك الكافتيريا ليكتب عنها، ويجعلها "عتبة الرشد"، حيث يتبين أمام درجاتها تلك الاندفاعة التي جعلته، مع رفاقه، "من دون هوادة، من دون تردّد".

إذا كان الخط الزمني في بداية السرد يتعرج بين الحاضر واسترجاعات الماضي، فإنه يؤسس لما سيلي بعودة اجتماع رفاق الكلية "رفاق العمر" الذين تفرقوا، وسيحصيهم في مجموعة مؤلفة من ثلاثين اسمًا هو من بينهم، ليشكلوا لاحقًا، في غالبيتهم، شخصيات السرد، الجيل الأكثر حضورًا وتصويرًا لبيروت أوائل السبعينيات، إلى بداية الحرب الأهلية، جيل الشباب الذي كان يمور بطاقة وحيوية وميول سياسية ونشاط كان يستطيع في وقت ما أن يساهم في صنع السياسات، ويرغم الحكومة على تحقيق بعض المطالب، شباب الجامعات تحديدًا، ربما كان لحركات الشباب الأوروبي في أكثر من بلد، خاصة في فرنسا 1968، صدى في نفوسهم، كما نتبين في اعتلائه منبر قاعة الجمعية العمومية في الجامعة، وقراءة بعض من البيانات التي كانت تترجمها مجلة "مواقف".

الاعتماد على الذاكرة، أم الاستعانة بأرشيف؟

عندما نقرأ هذا الكتاب السيري، تلفتنا اللغة الأدبية والأسلوب الحكائي السلس، والاقتصاد في اللغة أيضًا، إنما بالاستناد إلى ما يحفل به من تواريخ وأحداث وأسماء وشخصيات، يصبح من البديهي السؤال عن هذا الاسترجاع : هل هو من الذاكرة فقط، خاصة وأنه حافل بالتداعيات الذاتية والوجدانيات والتمعن في ماضيه ذاك: "أمعن النظر في ما حرّك أيامي، ولا يزال، تحريكًا، جَبلت فيه التوهمات أو التخيلات أو التصورات أو الوقائع، جبلة خاصة، لها نكهة ومناخ انفعالي وألق" ؟ أم إن أرشيفًا غنيًّا من الوثائق والمحفوظات والصور كان الكاتب يستند إليه؟ عندما نقرأ "هذا ما أستطيع النظر إليه – اليوم – بقدر من التجرد، فأكون المنقب والدارس عما كنته، عمّا عثرت عليه في محفوظاتي، تفقد الجرائد، لماذا لا أتفقد أوراقي؟ ". وفي مكان آخر : "هذا ما وجدت في أوراقي، منقولًا عن جرائد لبنانية مختلفة"، لا بد أن نعدّ هذا الكتاب بمرتبة شاهد، أو وثيقة على مرحلة مهمة وبالغة الحساسية بالنسبة إلى تاريخ لبنان المعاصر، والحرب الأهلية التي تركت ندوبها على وجهه، وفي روح أبنائه، ومنهم شربل داغر.

بدأ لديه التكون الفكري السياسي في صيدا، بعد أن كان "شمعونيًا بحكم الميل العائلي"، لكن في صيدا تعرف على من انتهجوا خطًّا حزبيًّا في السياسة، موزعين على أحزاب عدة: السوري القومي الاجتماعي، الشيوعي اللبناني، منظمة الاشتراكيين اللبنانيين الجناح اليساري للقوميين العرب، وغيرها، فخرج منها أكثر ميلًا إلى الماركسية، وفي سنته الجامعية الأولى في كلية التربية انتظم في "منظمة العمل الشيوعي"، التي كانت ممنوعة، لكن أعضاءها يمارسون العمل تحت مسمى "لجان العمل الطلابي"، وصار في سنته الجامعية الثانية الناطق باسمها، والمسؤول عن نشاطها. وانطلق في نشاطه السياسي وعمل على تثقيف نفسه، خاصة لناحية القراءات الماركسية. وزاد عليها الاطلاع على تجارب ماوتسي تونغ، أو "لاهوت التحرير" في دول أمريكا الجنوبية، أو بعض الأدب الاشتراكي كأنطونيو غرامشي وروجيه غارودي ولوكاش.

وهو إذ يسرد تاريخه الشخصي في تلك المرحلة، وانتقاله من سنة جامعية إلى أخرى، مع كل ما تمور به الحياة من تفاصيل على الصعيد الشخصي، كان يربط التواريخ المهمة بحدث سياسي وقعَ حينها، أو وضع سياسي كان سائدًا : "التحقت بالكلية بعد شهر من انتخاب سليمان فرنجية رئيسًا للبلاد بفارق صوت واحد عن الياس سركيس"، وكان تعيين صائب سلام رئيسًا للحكومة، والاثنان لهما إرث عائلي تقليدي في السياسة، كما أشار إلى اتفاق القاهرة 1969، الذي عنى أن تتنازل الدولة اللبنانية عن جزء من سيادتها، بالتنازل عن منطقة للقوى الفدائية الفلسطينية في سبيل مواجهة إسرائيل، "فتح"، ودور صائب سلام الذي احتفظ لنفسه بوزارة الداخلية في "تنفيس" الإضراب"... أو في 13 نيسان/ أبريل يحمل ذاكرة شخصية عن الرحلة التي قام بها، هو وماري، الصبية التي وقع في حبها، التي ستصبح زوجته، وذاكرة عامة، عن "بوسطة عين الرمانة" التي قتل فيها أكثر من عشرين فلسطينيًا على يد قوات الكتائب اللبنانية، وهكذا بين انتسابه إلى الجامعة 1971، وخروجه من لبنان في العام 1976، يضع بين أيدينا فسيفساء مشغولة بدقة عن حالة لبنان بشكل عام، وحال بيروت بشكل خاص. فبيروت حاضرة بقوة في السرد، بشوارعها وأحيائها، ودور السينما فيها، ومسارحها، وأبنيتها، وعائلاتها، وكورنيشها، ومقاهيها ومطاعمها، وفضائها الاجتماعي والثقافي والسياسي والإعلامي، بيروت الموارة بالأحداث، الصاخبة، المفتوحة لكل تناقضات المنطقة العربية وصراعاتها، بيروت التي ما عادت كما كانت حينها، يؤرخ للحركات الطلابية، للأحزاب والتحالفات والانشقاقات، للوجود الفلسطيني والمخيمات، والصراع بين المنظمات والفصائل، للاقتتال والحرب الأهلية.

إذا كان يؤخذ على الكتابة السيرية أنها تتمركز على "أنا" الكاتب على حساب القضايا الأخرى، في الغالب، فإن هذا الكتاب يشكل حالة مختلفة، فلقد عمل الكاتب على سرد التاريخ الجغرافي، السياسي، الاجتماعي، الديموغرافي، للبنان والنظر إليه نظرة تحليلية نقدية، من خلال مسيرة شاب انغمس في بداية شبابه في القضايا العامة، وفي الحركة الطلابية التي أثبتت حضورًا فاعلًا ومؤثرًا في حينها، وصار عدد كبير من عناصرها أسماء لامعة في الميدان الثقافي والإبداعي خاصة بالنسبة للحركة الشعرية التي يوليها اهتمامًا خاصًّا وتشكّل الذكريات مع أسماء شعرية لامعة ومؤسسة للحركة الشعرية في لبنان ركنًا أساسيًّا في السرد، كذلك في الحقل الإعلامي والسياسي. وجاء السرد حافلًا بالأسماء التي كانت جزءًا فاعلًا من ذلك الماضي، ممن كانوا من رفاقه، أو رفاقه في العمل الحزبي والنضالي، أو أساتذته مثل المطران جورج خضر، وأدونيس، وخليل حاوي وميشال عاصي وغيرهم.

وكانت النتيجة المتوقعة، بعد كل الأحداث التي وقعت وكل الاحتقان المسيطر، أن الحرب اندلعت "وفرضت إحداثياتها على الأرض، وباتت بيروت ترتسم فيها حدود خافية وتتمزق بين شرقية وغربية"، في وقت كانت المواقف والتصريحات والبيانات تتحدث بعدُ في السياسة، عن "العزل"، و"الإصلاح"، و"المشاركة"، و"حماية لبنان"، فيما يلمع حديد السلاح أكثر فأكثر. ثم "تصاعد الشقاق بين منظمة التحرير ومعها القوى المشتركة من ناحية، وبين سوريا وقوات الصاعقة من جهة ثانية".

هذا الواقع الذي وصل إليه لبنان، والخيبات التي حصدها مع عديد من رفاقه، وتحطم الأحلام والطموحات الجامحة، أمام قرقعة السلاح والخطاب العنيف، وتخلي "المنظمة" عنه، بعد أن راحت تستعد للعمل السري، وبعد أن جرى تعيينه في ثانوية لا يريد العمل فيها، ولم يكن يطمح بأن ينتهي مدرّسًا، أصبح بلا عمل، من دون عائلة، من دون سند مالي، ومن دون حبيبته التي غادرت إلى باريس.

يقول: "وجدتُ، في كتاباتي، هذه الفقرات: خرجتُ في العتمة، بجواز سفٍر مزور، في سفينة تجاريّة صغيرة، خرجتُ منهزمًا، بدليل أنهم - قادتي الحريصين على سلامتي - رفعوا أيديهم عني، وأصبحتُ مطاردًا من دون سقف، أو هوية ضامنة، أو أفق منير".

طوى هذه السنوات خلفه، ولحق بماري إلى باريس، وما زال مسكونًا بصدى الحرب، التي عاشها وعايشها مع رفاق جيله. وها هو يقول في تقديم كتابه على صفحته في موقع فيسبوك: "في الكتاب شهادة شملت العديد ممن اتصلت بهم، أو جمعني بهم حراك تلك السنوات" وينهي: "شهادة تنتهي إلى هزيمة داخلية، وإلى انطباق قوى خارجية على لبنان، وحتى اليوم".

كتبَ عديد من الأدباء والمثقفين العرب سيرهم الذاتية، وكان من بينهم من قدموا أعمالًا جديرة بالاهتمام والدرس، وكثيرون منهم عبروا عن أنفسهم بشكل أدبي رفيع، ومنهم من يمكن تصنيف كتابتهم تحت مسمى أدب الاعتراف، كمحمد شكري على سبيل المثال، ويأتي كتاب شربل داغر ليشكل بصمة خاصة به. كتاب يروي التاريخ بأسلوب أدبي رفيع، ويروي تجربته بأسلوب شيق، من دون تجميل أو تورية، بل قدم نفسه كإنسان يمكن أن يحلم ويطمح ويسعى، ويمكن أن يخطئ ويضعف ويتعثر، بل استعرض ذلك الماضي، على الصعيدين الشخصي والعام، بطريقة نقدية دارسة. وأخمّن أن مشروعه هذا لن يقف عند هذه المرحلة، فلديه كثير مما ينوي قوله، بعد فحص ودراسة واستقراء واستنتاج، فهو يقول في الفقرة الأخيرة من الكتاب، بعد استحضار "رامبو" إلى تداعياته مخاطبًا إياه : "لم تصاحبني يا رامبو، في هربي الليلي، لكنك استقبلتني بكلتا اليدين، وبصفعة من كل يد". كما يقول : "دفعوني إلى بوابة الخروج، إلى الشارع المعتم، لكنهم أنقذوني، على الرغم منهم ومني، أنقذوني من دون أن أدري، لم يكن لدي وقت لأحاسبهم، كان لي وقت طويل لأحاسب نفسي"."

 

مجلة "نزوى"، عُمان، العدد 117، 2023