(كنتُ قد كتبتُ هذا النص قبل ثلاث سنوات، في ربيع 2017، من دون أن أنشره. كتبتُه إثر زيارة معرض ثنائي جمع الفنان الأميركي ريشار سيرا بالفنان العراقي الأصل مهدي مطشر، في أحد القصور التاريخية، "قصر تو" (Tau)، في مدينة رينس الفرنسية. ولقد وجدتُ، قبل أيام، فيديو فرنسيا يسجل بعض صور هذا المعرض، ما استدعى النص القديم من غيبته):
الحوار بأكثر من لغة. بين عالَم القصر وعالم الفن. بين ارتفاع الأحجار واستقامة الأشكال. بين أن ترتفع بنظرك لرؤية الأشكال المعمارية وبين أن تحدَّ نظرك وفق مقاسات العمل الفني. بين أن تقف أمام لوحة وبين أن تنتقل من لوحة إلى أخرى، أو بينهما.
الحوار بأكثر من لغة. بين أن ترى أو أن تقرأ. بين أن تقرأ فيما ترى، أو بالعكس. بين امتدادات الأسود أو استقامات الألف. بين أن ترى أو أن تسمو بنظرك إلى ما هو أبعد من الشكل. بين الشكل وما يتجلى فيه، وبين ما يختفي وراء الشكل مثل عمق أو مرجع.
بين أن تتحاور مع أعمال متقابلة مثل مرآة، من دون أن تعكس الصور ذاتها. وبين أن تتحاور ابتداء من الأعمال، في ما تُخفي وهي تُظهر، فيما تَعرض وهي تَحجب.
هذا المعرض يقع بين بين. بين فنانَين. بين منظورَين للفن. هذا ما جمعَه مقتني المجموعة ديدييه مواسوليه (Didier Moisselet) في عينه المندهشة، على أنه يعرضه لمتعة عين الآخر.
بات محبُّ الفن يعتاد على ملاقاة الفن في أمكنة عرض غير معهودة. باتت لعينيه ذاكرة "مبرمَجة" بمعنى ما، ما يسمح له برؤية الأعمال الفنية قبل رؤيتها، ما يسمح له بقبولها بمجرد عبور الخط الفاصل بين الخارج والداخل. يقبلها، على أنها "مقترح" بصري، ما لا يوافق بالضرورة ما اعتاد عليه من أنواع الفن. يقبلُها، على أنها عالَم قائم بنفسه، وإن يصدر في زمن، ووفق صنع مهني بعينه. يقبلُها، على أنه قارىء أبجدية بصرية وحسب، من دون أن يعرف تماماً ما له أن يقرأ في تتابع الحروف، في تشكل الكلمات والفقرات. بات محبُّ الفن، بهذا المعنى، قارئاً-شريكاً، على أن في العمل الفني المعروض ما يسمح له بالتواصل، بانتظام الحوار.
بين ريشار سيرا ومهدي مطشر لقاء مدهش. لقاء متوقع ومفاجىْ في آن. ما أن ترى إلى أعمالهما المرفوعة فوق جدران "قصر تو"، أو المبسوطة فوق أرضيته، تشعر بشئ من الألفة، من القربى، ما دام أن في الأعمال ما يجمع بينها. يجمعها في مقترحات بصرية، تطلب دهشة العين، واستثارة الانفعال، والتأمل المديد أبعد من الشكل.
لهما معاً لغة مقتضبة وكثيفة في التعبير : تقتصر على تعاكسٍ يطلبه الأسود مع غيره، أو مع فراغه المحيط؛ أو تقوم على أبجدية محدودة، بل على تجليات السطر الباهرة. فالسطر قد يمتد أو يتوقف وفق حركة تلقائية وحرة، أو قد ينضبط وفق حساب وقياسات، ما تقوى عليه المسطرة وحدها.
إلا أن هذه اللغة تعبيرٌ وتمثيلٌ في الوقت عينه. يلجأ الفنان إلى ما يرتئيه من اللغة الشكلية-اللونية، إلى ما يكتفي به، مثل عازف يكتفي بِوَترٍ وحسب من عدته الموسيقية، ويطلب منه تأدية ما تقوى عليه جوقة من العازفين والمنشدين. ففي مثل هذه الأعمال اقتصاد شديد ظاهر، وقدرة على التحكم، سابقة ولاحقة. هذا يشير إلى عمليات ذهنية-ثقافية-نفسية عديدة ومعقدة، وإلى عمليات صنعية مركزة، لا تلبث أن تنتهي فوق الحامل المادي بضربة، أو باستطالة سطر أو حرف. فبين ما تنطلق منه هذه الأعمال الفنية وما تنتهي إليه فوق الحامل مسارٌ مديد، يكاد أن يختصر تاريخ التصوير نفسه.
تكاد يد سيرا أن تظهر قرب أعماله، مثل امتداد لها، مثل انبثاق عنها، ولكن بعد أن جرى الاكتفاء بجانب وحسب من ضربتها العنيفة. سيرا، في ذلك، لا يتوانى، سواء في نحته، أو في تصويره، عن مدِّ يده إلى ما هو موجود ليغير فيه، ليضيف إليه، ما يشبه إعادة البناء أو التأسيس أحياناً. فكثافة السواد نوع من تسويد (من سواد) صفحة الكون بعد فراغها، بعد بياضها التكويني. وهو ما يَظهر في اللوحة، ما دام أن ضربة الريشة الغليظة تخرق صمت الخلاء مثل طير يمزق أفق النظر, السواد فعلُ كتابة، فعلُ وجود، فعلُ إدامة الإنسان في الوجود.
إلا أن ما يرمي إليه السواد أحياناً مختلف بطبيعته، بما يريده من اللون. فالسواد، هنا، مرآة، لا البياض (كما هو عليه اعتيادياً). لكن السواد مرآة لذاته، لما يحمله وينشره. فالفنان يعرف، قبل الناظر إلى أعماله، أن اللون الأسود يتلقى الأضواء الخارجية عليه، المحيطة به حكماً، ما يجعل صفحته متلونة، متنوعة، بين قوة تموجات اللون المعتم وخفوتها. الأسود لا يعود ممتداً، مبسوطاً، وإنما يصبح له عمق، كما لو أنك تدخل إلى عتمة منيرة.
الضربة، مثل السواد، يلتقيان بدورهما في أعمال مطشر، إلا أن حضورهما مختلف عما هو عليه عند سيرا، ويشيران إلى تجربة أخرى. فالضربة تنتظم وفق محددات المسطرة، والبيكار، ما يتعين في الشكل المستقيم، والدائري، والمزوّى وغيرها. يبتدئ مطشر من رفض حاسم للريشة (أو للأزميل)، والصورة، والهيئة، والمشهد، من دون أن ينقطع عن الشكل وتوليداته. هو أقرب إلى فيثاغورس بهذا المعنى الفلسفي والاختصاري. فالعالَم عددٌ محسوب، وله قياسات منتظمة، ما يُمثِّل التجلي الأجمل للوجود.
هذا ما يجعل "الألف" (العربية) عنده أكثر من حرف أول في الأبجدية (العربية)، وأكثر من حرف يَختصر (حسب أحد المتصوفة المسلمين القدامى) الحروف كلها... الألف ليست شكلاً ظاهراً وحسب، وإنما هي معطى أنطولوجي، تكويني بهذا المعنى.
عملُ مطشر يحيل (بهذا المعنى) إلى مرجعيات من ثقافته العراقية والإسلامية، إلا أن ما يبنيه يوافق، بل يشارك (على طريقته) في تجديد فن التصوير، هنا وهناك في العالم. فهو لا يعيد إظهار "المربع السحري" إلا لكي يستولد منه تشكيلات باهرة، مفاجئة، للعين. وهو لا يخط حرف الألف مثل الخطاط التقليدي أو المجدِّد، وإنما يعامله مثل معطى للمعالجة التشكيلية.
مع ذلك، لا ينتظم الحوار بين سيرا ومطشر بسهولة، ولا يتناغمان، أو يتكاملان (كما قد يحلو للبعض القول)، وإنما ينطلقان من وضعية تكاد أن تكون متشابهة، وهي أن التصوير يعيد تشكيل العالم، ولا يصوره. فالفن عندهما عملية ثقافية قبل أن تكون صنعاً مادياَ ومهنياً. عملية تعيد تشكيل الصورة، لأنها أعادت النظر إلى الوجود وفق نظرة مختلفة، نظرةٍ تربط بين الفن والوجود ربطاً جديداً، مختلفاً.
في إمكان مؤرخي الفن أن يستعيدوا صلة هاتين التجربتين بما فعلته التجريدية في تاريخ التصوير : التجريدية ذات الأساس الاختصاري (minimaliste) لدى سيرا، والتجريدية ذات الأساس المفهومي والهندسي والخطي لدى مطشر. في إمكان غيرهم من الدارسين أن يلاحظوا التفاعلات بين قيام فن للصورة من دون صورة في التصوير الغربي، وبين تقاليد فنية عديدة وقديمة (التجارب الخطية في اليابان، أو في العالمَين العربي والإسلامي)... إلا أن ما يقوم به سيرا ومطشر يتعدى ذلك، ولكن بعد أن يعول عليه ويستفيد منه، مثل سابق ينطلق منه، فلا يكرره، بل يجدد ابتداء منه. فوراء الأشكال القليلة التي تقوم عليها تجربة الفنانََين غابة كثيفة من المرجعيات والخيارات. أشكال اختصارية وفق هذا المعنى، إذ تنحِّي الكثير لتستبقي القليل.
هاتان التجربتان تنطلقان، بل تعملان على تحديد جديد للوضعية التي يطلبها الفنان أمام التصوير : يبدو سيرا شديد الانصراف إلى عالم اللوحة، بين ما ينطلق منه وما يبدأ به، بين ما يعمل عليه وما يستبقيه فوق الحامل المادي. هكذا تراه يمشي وهو يرسم، أو يرسم وهو يمشي، في ارتفاع مناسب للوحة، وهو الارتفاع المناسب، في الوقت عينه، لمتلقي اللوحة نفسه. بينما يبدو مطشر وفق حال أخرى: تراه منكباً على الحامل المادي مثل خطاط على ورقة مخطوطه، على أن ما يعمل عليه ينطلق مما يحمله في ذاكرته ويعمل عليه حسب قياسات تتعدى الهندسة إلى التشكيل، ولا تحتفظ بظاهر الحرف (العربي) وإنما تحوله تحويلاً يكاد أن يكون باطنياً له، أي ما يتعدى شكله المرسوم.
إلا أن إعادة تحديد الوضعية تشمل أيضاً علاقة اللوحة بالوجود: فسيرا لا يصور ما هو موجود، بل ما يسري في تموجات الشكل الداخلية، كما لو أنه يبني وجوداً آخر، وجوداً موازياً، له ألقُ ظهوره الخاص. أما مطشر فهو لا يصور بقدر ما يرسم، ولا يرسم يقدر ما يخط خطوطاً؛ وهي خطوط – وإن انطلقت من الألف (العربية)، أو من توليدات "المربع السحري" – ترتفع أو تمتد أو تدور حول مركزها مثل أعمدةٍ لكونٍ مخفي لكنه يخرج – أخيراً - إلى النظر.
يدور النقاش، بل السجال، أينما كان، حول هوية هذه العروض التشكيلية، في "البينالات" قبل المتاحف ودور العرض. ولا يعدو أن يكون تعبير "الفن المعاصر" غير ملائم للتدليل على هذه الفنون الناشئة، والتي تقلب المشهد التشكيلي رأساً على عقب. فبعد عقود من الكلام عن "الحديث"، و"ما بعد الحديث"، يدور الكلام اليوم عن الفن "المعاصر"، من دن أن يحمل الاسم الجديد حمولة فلسفية وازنة، كما في السابق مع اللفظين الآخرين.
"المعاصر" لفظ اصطلاحي أقل طموحاً، وربما أقل ادعاء، إلا أنه شديد التنوع. غير أن الأعمال الفنية التي تنتسب إليه تبدو شديدة الخصام مع الأعمال السابقة عليها. كما لو أن "المعاصر" يشير إلى تشكيلية مختلفة جذرياً عما سبقها، من دون أن تتمتع بعد باسم مناسب لحمولتها الفنية والجمالية.
"المعاصر" تعبير زمني عما يجري في الفن، لكنه يشير إلى أعمال شديدة التفرق والاختلاف في ما بينها، فكيف مع ما سبقها! وهي المفارقة التي ينتبه إليها الزائر بمجرد الوقوف أمام الأعمال المعروضة في القصر التاريخي بمدينة رينس. فأعمال سيرا تنتسب وتندرج في ما عُرف من تجليات التجريدية، بأنواعها المختلفة، بين غنائية وشكلية وغيرها، بينما تندرج أعمال مطشر في سياق آخر، تجريدي هو الآخر، لكنه أقرب إلى الأعمال "المفهومية".
ذلك أن مفهوم "الفن" يتغير، قبل الأعمال التي تنتسب إليه؛ وهو ما يفسر الصراح المحتدم. إلا أن أسباب الصراع لا تتأتى فقط من المنافسة في السوق، وإنما أيضاً من مواجهة معلنة بين الفن السابق (فن اللوحة باختصار) والفن "المعاصر"، كما لو أن الجديد يطرد القديم ويحل مكانه تماماً، فيما يمكن النظر إلى الصراع وفق نظرة مختلفة، وأكثر انفتاحاً. فكثير من مقترحات الفن “المعاصر" يخالف الفن السابق عليه، ويعارضه معارضة تامة، مثل أعمال معروفة لسيرا أو لمطشر. ذلك أن هذه تقترح أنواعاً جديدة في الفن، وتوسع نطاقه بالتالي. هي مقترحات تبتعد كلياً، في بعص إنتاجاتها، عن كل ما قام عليه التصوير منذ "عصر النهضة" على الأقل، ولا يمكن بالتالي وضعها في النطاق عينه، بل خارجه. فنون مغايرة بالتالي، تجدد النظر إلى ما يمكن أن يُعرض على العين، وتجدد وتوسع مفهوم الفن نفسه، ما يجدد خطاباً جمالياً كان قد شهد استقراراً مفهومياً مريباً.

Richard Serra/Medhi Moutashar "Beyong the form"