ما يجمع بين كتابين من شعري صدرا في السنة عينها؟
تعود العبارة التي تتصدر عنوان الكتاب الأول، وهو مختارات من شعري: "لا يصل الكلام، بل يسير" (دار ميم للنشر، الجزائر، 2014)، إلى قصيدة في كتاب "حاطب ليل" السابق. وهو معنى يفيد عن موقفي من القصيدة خصوصاً، ومن الكلام عموماً. كما يشير إلى موقف نقدي اقتنعتُ به، وتابعتُه في أكثر من قصيدة. وهو موقف يخفف من نظرية لطالما راجت في الخطاب، وهي أن الكلام يستهدف القارىء استهدافاً محكماً، فيما أعتقد أن الكلام يتوجه إلى قارىء، من دون أن يقصده أحياناً، ويصل إليه وإلى غيره مختلفاً بالضرورة، ما لا يمكن التأكد منه تماماً، ولا حصره، ولا التدقيق في وصوله.
فالكلام إذ يتقدم لا يتقدم مثل "رسالة" يتم بثها، وتصل وفق إرادة مرسِلها، ولا تنتقل تماماً بأمانة إلى متلقيها، كما أرادها مرسلها. الكلام يسبق قائله ويتعداه، كما يبلغ القارىء مثل عدوى، مثل طاقة تقع أبعد مما تصل وإلى من تصل. ذلك أن القارىء ليس واحداً، وإنما هو مجموعة من القراء، المختلفين. وفي ذلك يكون القول أكثر احتراماً لهوية القارىء، لطريقة تذوقه لما يقرأ.
إنها "مختارات" شعرية، إذ إنني لست من دعاة نشر "الأعمال الكاملة" للشاعر، وهو على قيد الحياة، مثلما يفعل شعراء عرب كثيرون. في باريس، على سبيل المثال، في سلسلة "لابلياد" الذائعة الصيت، يتم نشر الأعمال "الكاملة" بعد وفاة الكاتب، كما يعمل على إصدارها نقاد ومحققون أدبيون مرموقون، ممن يعملون لا على نشرها من جديد، وإنما على تحقيقها ودرسها.
هذا ما عرفناه بدورنا في تقاليد الشعراء العرب القدامى، إذ كان الشعراء يعتنون بها في أخريات حياتهم، أو يقوم بها النقاد والشراح بعد وفاتهم في الغالب، أو كان الشاعر يجمع رواة شعره ويدقق في مدوناتهم قبل أن ينتهي إلى إقرارها في صيغة ختامية. والظريف في الأمر هو أن هذه العادة المتبعة حالياً لا تعدو كونها نوعاً من الدعاية المسبقة، أو من الدعاية الذاتية التي يقوم بها الشاعر لنفسه، خصوصاً وأن عدداً كبيراً من أعمال الشعراء "الكاملة" تصدر بتمويل منهم، كما هو معروف.
أما الكتاب الشعري الآخر فقد صدر في القاهرة عن "دار العين للنشر"، ويشتمل عنوانه: "على طرف لساني"، على طرائف بين اللغات. فالعربية، مثل الفرنسية، تخص اللسان بدلالتين: واحدة تعين أداة النطق، والثانية تعين اللغة. وقد تكون الدلالة الواحدة توسعاً أو استعاضة عن الأخرى. ومن طرائف اللغات أيضاً ما يجتمع في جملة العنوان، إذ إن معناها مشترك كذلك بين العربية والفرنسية. ويشير إلى ما ننساه من كلمات أو جمل فيما نتكلم، مدركين أننا نملكه في جهازنا اللغوي. إنه نوع من النسيان، ولكن الحاضر، في آن.
هذه العلاقة بين الغياب والحضور تقوم عليها القصيدة. وتقوم عليها علاقة المتكلم باللغة كما بالوجود. كم نتحقق من كوننا نعرف أسماء أو ألفاظاً أو جملاً من دون أن تحضر فوق لساننا حين نحتاجها! وكم نتحقق من كوننا نعرف أسماء أو ألفاظاً أو جملاً بمجرد قراءتنا لها! لهذا لا يسع المتكلم تذكر أو معرفة ما يخزنه من اللغة فيه. وهو أكثر من تذكر لفظي وحسب، إذ يشير إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن اللغة تحمل الوجود في هذه الأحوال، تحمل الإنسان في نهاية المطاف بوصفه مقيماً في هذا الوجود.
إلا أن للعنوان دلالة أخرى، قد تكون أقرب أو أشد تعييناً لقصائد الكتاب. كتبت في قصيدة سابقة: "لا يستقيم سطري قبل مران حواسي". وهو تبيان لما أذهب إليه من جديد، إذ تكون القصيدة تذوقاً لما تقول وتُعبر. القصيدة تتذوق فيما تنكتب. القصيدة تمد لسانها لكي تتحسس، لكي تستطعم بما تتجه صوبه، بما تتناوله. كما كتبت سابقاً: "لسان الشعر أذوق به ويتكلمني".
هكذا تكون القصيدة "تجربة"، مثل المسرحية أو اللوحة أو السيرة وغيرها. وهو ما يحلو لي الحديث عنه، عن أن الكتاب "تجربة"، وأنه "عمل قيد التقدم"؛ وهو تركيب لفظي يمكن نقله أو صياغته وفق أكثر من صيغة، كأن تقول: نص قيد الكتابة، عمل قيد العَمَلان، أو لوحة قيد التشكل، وغيرها بما يفيد عن أن العمل ليس تدويناً، ولا تقييد "حالة" أو "فكرة" وغيرها؛ وأنه بالأحرى عمل يتعين في جريانه، في حصوله، بما يقدم لكاتبه أحوالاً و"مقترحات"، فيحتفظ منها أو يشطب، ويعدل أو يحيد بما يعمله صوب وجهة أخرى...
وهي تجربة كتابية بالتالي تذهب فيها القصيدة إلى حيث لم تعرف الحياة، بدليل أن الكاتب، روائياً ومسرحياً، لا يعرف جميع الشخصيات التي تناولها في كتابته.
ولقد اجتمعت في كتبي الشعرية – على ما أعتقد – تجارب مختلفة، قد تكون مفاجئة لكثيرين. فقد سبق لي، منذ العام 2006، أن تخليت عن كيفية معروفة في كتابة القصيدة، وهي القصيدة التي يتكفل بها متكلم، قد يكون الشاعر نفسه أو بديله أو رمزه. واتجهت حينها صوب صيغة أخرى، تكالمية إذا جاز القول، تقوم على أن النص يتكفل به متكلمون ومتكلمات، أي أصوات.
وهو ما عولتُ عليه في أكثر من كتاب شعري، بما فيه كتاب: "على طرف لساني"، حتى إن كتاباَ شعرياً بعينه، "ترانزيت"، قام في مجموعه على نص تكالمي واحد. وقد سمى البعض هذا الكتاب وهذه القصائد بالذات بالعمل المسرحي، فيما أرى إلى هذا الحاصل الكتابي نظرة مختلفة. طبعاً لهذه النصوص صلات بالمسرح، لجهة تمتع بالقصيدة بسياقات مكانية وزمانية ومادية تحددها، أشبه بوجود مادي للقصيدة، ما يقيمها فيها وخارجها في الوقت عينه.
إلا أن من يدقق في هذه النصوص يلاحظ كذلك قيامها وفق لحظة شعرية، أو وفق استعارة ليس إلا، ما يجعلها تبطل السياقات المكانية والزمانية والمادية التي تقوم عليها، أي ما يجعلها لحظة حيوية وكثيفة هي ما تقوم عليه القصيدة عادة.
لا أقول بأن تفسيري هو الصائب. هذا ما أقترحه، ولغيري أن يرى تصوراً آخر. لكنني أعتقد بأن هذه التجربة لا تناسب تماماً القول بأنها مسرحية... هذا ما استصعبَه صديقان يعملان في المسرح: نبيل الأظن في باريس، وشارل ديك في لبنان، إذ حدثاني عن صعوبة نقل هذه الأعمال الكتابية إلى الخشبة، عدا أن لغة هذه الأعمال تصلح للقراءة، لا للاستماع، كما في العرض المسرحي...
ما يعنيني من هذه التجربة كذلك هو تخلص القصيدة من تحكم الشاعر بها... ما يعنيني منها هو أن الشاعر ينصرف إلى ما يكونه في وجوده الإنساني التعددي والمتناقض، وهو أنه ملكة تكلمية تتوزعها أصوات وأصوات... ذلك أن بعض النقد يرى إلى الشاعر مثل مكبر صوت، مثل المؤدي، أي مثل وظيفة بلاغية واجتماعية، ولا يرى إليه في حاجته التعبيرية التي تصدر عنه لكنها تتعداه أيضاً.
هذا ما يجعل مهمة الدارس صعبة، إذ ينتقل النص من نمط جملة إلى أخرى، ما يدعوه، من دون شك، إلى اعتماد قراءة تلحظ "طبقات" الكلام المتنوعة، كما تلحظ إمكانات الانتقال.
هذا ما يصعِّب عمل الدارس الذي يطلب البحث عني بين هذه الجمل المختلفة، بين هؤلاء المتكلمين والمتكلمات، إذ إنني طلبت هذا النوع من الكتابة لأساب عديدة، منها – بل أهمها ربما- هي الخروج من كون القصيدة هوية أو مدونة للشاعر نفسه، كاتبها.
وقد يكون في طلبي لهذا النوع من القصيدة استمراراً في السعي صوب ما يمكن تسميته بـ"مادية" الكلمة: هذا ما فعله الشاعر ستيفان ملرمه. هذا ما فعله غيره بعده وفق منظور معماري أو تشكيلي، حين طلبوا للقصيدة حضوراً عيانياً، تلمسه العين الرائية لجهة شكلانيته. هذا المسعى دفعني ربما من أجل الذهاب أبعد في هذا المسعى، وهو أن يكون للقصيدة حضور مادي أوسع من التجارب السابقة، وهو أن تخرج من إطارها الكلامي وحسب صوب سياقات تحدددها في فضاء مفتوح، متعين في أمكنة وأزمنة وسياقات وشخوص وغيرها. بل أردت أن تصبح للجملة حركة، أداء... تتقافز من سياق إلى آخر، بين ما تقوله وخارجها. وهي في ذلك تشبه اللوحة في "عصر النهضة" الإيطالي والأوروبي التي كانت ترسم في خلفية المشهد أو اللقطة التي تصورها نافذة تفضي على فضاء آخر، أبعد منها، ويزيد من عمقها بالتالي.