صلاح ستيتيه : الشعر غموضاً وغياباً

 

يتوجب علينا إيلاء اهتمام كبير للعناوين التي يطلقها الشعراء على كتبهم. «عتمات متربصة» واحد من هذه العناوين العامرة بأسرارها المكينة. العتمة، هنا، مدعاة لخشية مرتين: لما هي عليه، وخصوصاً لتوثبها، إذ أنها تتهيأ للانقضاض على فريستها. الهم ماثلٌ، إذن، وبما أننا أمام عمل يقوم على التفقد الشعري، فإن هذه العتمة لها طبيعة داخلية. ولكن ما الذي تحفه المخاطر إذ يصدر عن باطن الإنسان الغامض؟
الاختصاصيون يجمعون على معرفة الجواب، ومنهم الشعراء أنفسهم، لألفتهم الشديدة مع هذه العتمة: ما يهدد الإنسان، ما يهدد الشاعر، هو اللاوعي. هذه العتمات التي بالمرصاد، تراقب بعضها البعض، وهي القوى التي تبني اللاوعي بتناقضاته كلها، فينشأ من هذا البناء القولُ الشعري، وربما القولُ المنقذ، سعياً لإزاحة هذه العتمة.
كتاب شربل داغر عامر بلاوعيه: اللاوعي الشخصي واللاوعي الاجتماعي، ذلك أنه يتوجب على شاعر من الشرق، من لبنان، في المأساة التي يعيشها أهل هذا البلد، منذ عقود، وفي حروب عديدة، يتوجب عليه أن يجعل اللاوعيين هذين يتحاوران.
المأساة العمومية لا تتمايز دائماً عن المأساة الشخصية، وتقول لغةُ هذه لغةَ تلك، فضلاً عن أن العكس صحيح بدوره. لهذا يمكن الحديث، في هذا الكتاب، عن شكل إنساني مغفل، كما لو أن المتكلم في القصيدة، بعيداً عن عيشه المخصوص، يحمل كلام غيره أيضاً المشدود إلى كلام أحدهم والمدرك لتعدده. هكذا يتعين القول الشعري في منظور، في عمق الكائن، في الشاعر، الذي أطلقَ عليه الشاعر بيار جان-جوف تسمية «القائل»، إلى غيره من ركاب المغامرة. وأجده ماثلاً ، في صورة جلية، في هذه الأسطر من قصيدة »رشم«:
«وإذا بي لا أقيم في حدودي،
فالريح تملي
والشراع ورقة الهبوب،
ما يجعلني احتمالات في جسد،
بل احتماله الأصفى. »
هل أجعل المشهد معتماً؟ هل أجنح إلى تفسير مأسوي لهذا الشعر المصنوع من كلمات بسيطة، من نداءات مباشرة، من أسئلة أساسية في نهاية المطاف على قدر ما هي بسيطة؟ لعلي أفعل ذلك، لعلي أُحمِّل هذا الشعر ما لا يسعه، إذ أنه لا يتوانى عن قول الخفة كذلك، وإن في جنازة، وفي هبوب الريح:
«فكيف أستنفر جوقاً للهوه
وأرفع فوق شجرة
مرقصاً لأشباح من دخان!؟
مَن يكتب مَن
أو
هل يكتب عن؟
أللريح أن تضع النقاط على الحروف
أم لها أن تكنس أمام بابي؟»
للشاعر فانتازيا مخصوصة، ولحسن الحظ، وهي تسمح، إزاء القدر المأسوي الذي أشرت إليه، والذي يمثل خلفية أي شعر جاد في العربية، بل تبقي هذه الفانتازيا على حرية اللعب الخلاق، وعلى سحره الأخاذ خصوصاً:
«لكونه غائباً
يندس في خفائه
في فراش من لمعان مؤرق

لكونه غائباً
يتداركها بخفة لاعبِ كرة السلة
(...)
تلدني كلماتي
بما لا يسعه قماطي».
ولا تكتمل دورة هذا الكلام إلا إذا انتهينا إلى الفهم بأن الغائب الذي يجري الحديث عنه، والذي له «خفة» لاعب كرة السلة، هو الموت، الذي يحتفل به الشاعر. هذا ما يزيد من غموض القول، الذي يتردد بين الجرح ونوع من المحاكاة الفانتازيبة، وذلك لإظهار الشقة في حال إنسانية نزاعية لا تخلو من فصام. هكذا ترون كيف أن الشاعر هو نفسه غرض الشعر، لا الفريسة، بفعل لعبته المزدوجة، حيث ضمير المتكلم الفردي في الفرنسية يختلف قليلاً في تركيبه (je ) عن لفظ فرنسي آخر (jeu ) يشير إلى اللعب. هكذا يستتر المتكلم خلف »حاطب ليل«، حسب قوله، لكي يفلت منا، ويفلت من نفسه. لعبة مزدوجة، وأنا مزدوجة: ازدواج الإنسان مع نفسه، ازدواج الميت مع الحي، والواحد مع الآخر. هذا هو ما تلمسه، بشكل سري، هذه المختارات الكثيفة، على ما أرى.
يتساءل الشاعر: "كيف لي أن أسافر من يدي إلى يدي؟«: لا أحسن جواباً عن هذا السؤال الذي يطرحه داغر. وحدهم الشعراء يطرحون مثل هذه الأسئلة المستحيلة، التي تجيب عنها قصائدهم إن استطاعت، ولا تجيب عنها في الغالب. أهذا في القصائد كلها؟ لعل قصائد شربل داغر تتعين في هذه الأسطر القليلة، والتي تنضح بعذاب خفي، وساخر طلباً للتحدي:
«هذه عروسي، أعرفها،
لها ساق من دون موسيقى،
وقوام أخضر،
وعينان تزهران علي شباك الضجر،
ألا تكون حَبَقَةً لا يشمها
إلا من يمسك بها؟»
ومن يُمسك بها، ومن لا يُمسك بها أيضاً، يحتفظ في سره بوديعة عطرها العريق. على أية حال، هذا العطر العريق الذي للغائبة، للغائب، للغياب، الذي يشيع في جنبات مجموعة القصائد الأخيرة في المختارات، له عنوان »قصيدة الغائب«، وهو أبلغ توصلات الحالة الشعرية، على أن تعود إلى كل واحد منكم، مستعيناً بمفاتيحي المتواضعة هذه، لذةُ اكتشاف هذا الشعر، وتنشقُ هذا العطر بمحبة.

(نشرت جريدة "الحياة" النص بترجمته العربية في 23 حزيران-يونيو 2005، قبل أن يصدر في صيغته الفرنسية، في مجلة "أوروبا" الفرنسية الدورية، باريس، أيار-مايو، 2006).