الدكتور شربل داغر، الأستاذ المحاضر في جامعة البلمند، في جديده : "الشعر العربي الحديث : القصيدة المنثورة»، الصادر في بيروت عن «منتدى المعارف»، مع مراجع، يعيد النظر ويكرّ البصر في ما اتفق على تسميته بالقصيدة المنثورة. فلا عجب أن يستعمل بحثه المتأنق والمؤصل برأسين أساسيين في تحديث القصيدة العربية : الريحاني وجبران. إذ كان أمين الريحاني أوّل من كتب الشعر المنثور بدليل نشره إحدى القصائد في مجلّة «الهلال» عام 1905، وكان جرجي زيدان قدّمها بهذه الصفة، وبهذه الأوليّة. وهو ما تكرّس أيضاً بعد نشر كتاب الريحاني «هتاف الأودية» الذي ضمّ قصائده تحت العنوان الفرعي: «شعر منثور». أما جبران في «دمعة وابتسامة»، فساهم باكراً في هذا النوع الأدبي الجديد، وها هنا يحاكي جبران مزامير داود ونشيد سليمان وسفر أيوب ومراثي إرميا وتخيّلات أشعيا وعظات الناصري. وفي هذا المجال يرى المؤلف داغر أنه كان للتوراة، في نصيبيها العربي والإنكليزي، أبعد الأثر على الأسلوب الذي اختاره جبران لنفسه، فتفرّد به بين كتاّب العرب وكتاّب الإنكليز، فلم يسبقه إليه عند الفرنجة غير نيتشه.  

 

خطة تأليف

أما المفاجئ في مبحث المؤلّف داغر، وهو محقٌ في ذلك، فهو اعتباره أن لمصطفى لطفي المنفلوطي أثراً جليّاً في توليد تشكّلات جديدة في النثر، تقرّبه واقعاً من بعض الشعر. ثم يلتفت داغر إلى مسألة هامّة مفادها أنّ المنفلوطي أتى إلى أساليب النثر الفرنسي من خلال العربية، بخلاف مي زيادة التي أتت من الفرنسية إلى العربية، ما جعلها «النسوية» الأولى من دون شك في العربية.

ومما لا بدّ منه رجوع داغر في تقميشه إلى القصيدة قيد البحث في الدوريات الأدبية، فمن «أبولو» القاهرة إلى «الأديب» البيروتية وصولاً إلى «شعر» البيروتية تتويجاً لمسرى قصيدة النثر، مروراً بتجارب جماعتَي دمشق وبغداد. ثم أنّ داغر يفي توفيق صايغ حقّه على خارطة الحداثة في أن هذا الشاعر الفريد من نوعه وقف إلى جانب جبرا إبراهيم جبرا ومحمد الماغوط في منزلة واحدة من تأصيل القصيدة المنثورة، من دون أن يغفل الباحث تجارب سابقة ولاحقة، كما عند ثريّا ملحس وفؤاد سليمان وآلبير أديب وأورخان ميسر وحسين مردان وشوقي أبي شقرا، مع ما رافق ذلك من نقد وردّ وسجال، كما عند عيسى اسكندر المعلوف وإلياس خليل زخريا وراجي الراعي.

يندرج هذا الكتاب في خطة سابقة للبحث والتأليف، عمل بموجبها على إعادة النظر في التجديد الشعري في القصيدة العربية المتأخرة. هذا ما بدأ به الدارس في كتاب «العربية والتمدن: في اشتباه العلاقات بين النهضة والمثاقفة والحداثة» دار النهار للنشر، 2009 ، الذي استوجب إعادة النظر في ما يسمّى «عصر النهضة»، وفي حراكه العام. وهو الكتاب الذي أدّى واقعاً وتحليلاً إلى النظر في حال «الحداثة» ومواعيدها، وانتهى إلى «تحقيب» جديد للشعر العربي المتأخر.

هذا ما كشف، في أولى نتائجه، عن شعر مغمور في العربية: «الشعر العصري» كما جرت تسميته من نقّاده قبل شعرائه، متعينٍ بين ستينيات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين في بيئات عربية مختلفة، مثل بيروت، القاهرة، دمشق، حلب، تونس، بغداد… ، ما تعين في الكتاب الثاني في هذه الخطة: «الشعر العربي الحديث : القصيدة العصرية» منتدى المعارف، 2010.   

هذا المسعى قاد الدارس، في وقفة تالية، إلى تناول الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وقام، في تجارب مختلفة، على بناء ما جرت تسميته «كيان النصّ»، أي ابتداء القصيدة من الشاعر، ومن تدبيراته وخياراته. هذا ما تعيّن في كتاب : "الشعر العربي الحديث: كيان النصّ"، عن منتدى المعارف، 2014 . وهي الخطة التي قضت، بالتالي، بإصدار هذا الكتاب.

 

خلط ونزاع

البحت عن «القصيدة المنثورة» لا يعدو كونه البحث عن تجربة موازية ـ على ما انتهى إليه التحقق التاريخي ـ للحقبة التاريخية- الشعرية التي جرى درسها، إذ تعينت هذه القصيدة بين عام 1904 وعام 1960. وهو بحث لم تتوفّر مادته بيُسر، أي «المدوّنة»، إذ إن قسماً واسعاً منها لم يبلغ النشر الكتابي، بل بقي مطويّاً في مجلات وجرائد كثيرة بين بيروت والقاهرة خصوصاً. وما افتقر إليه الدرس، قبل مباشرته، يتمثّل بالكتب أو الدراسات التاريخية والنقدية حول هذه التجربة. فما وجد الدارس غير كتاب يتيم في العام 1922، لا يعدو كونه كتاباً من المختارات، ومقال وحيد في مجلة يرقى إلى عام 1929، ودراسة متأخرة ترقى إلى العام 2010، واضعاً على جنب الكتب والدراسات التي تناولت الشعر المنثور عرضاً في معرض درسها «قصيدةَ النثر».
هذا ما عمل الدارس عليه على مدى سنوات، أي تجميع مادته، والتحقق منها، إذ إن إعادة النشر تمتاز عربياً في أحوال كثيرة بالنشر من دون نسبة تاريخية صحيحة، عدا أن بعض الكتّاب يعمدون أحياناً إلى زيادة أو حذفٍ في كتبهم من دون تحديد القديم من المستعاد.

إلا أن مصاعب أخرى سبقت البحث ثم التأليف، وتمثلت هذه المصاعب بافتقار العدّة الدراسية إلى خطاب نقدي وتاريخي اعتنى بدرس هذه المذاهب أو بتجلياتها وإنتاجاتها في العالم العربي، وإن توافرت بعض الكتب والدراسات، بما فيها عند أكاديميين، فهي تخلط بين «الشعر المنثور» وبين «قصيدة النثر» كما جرت التسمية، فيما يستحسن الدارس تسميتها وفقاً للفظها الفرنسي: «القصيدة بالنثر» ، كما تخلط خصوصاً بين «الشعر المنثور» و«الشعر الطلق» و«الشعر الحرّ» وتسميات مثيرة غيرها وبين تجارب كثيرة في الشعر الأميركي والفرنسي والإنكليزي في تعالقاتها مع تجارب شعرية عربية مختلفة.  

هذه المصاعب تفاقمت منهجياً، إذ سعى داغر إلى تدبير «عدّة» مناسبة لدرس هذه القصيدة، فإذا به يتحقق من أن أبنية هذا الشعر متعدّدة ومتنوّعة، وتقوم وفق «نزاع بنائي» في بنائه العام. وهي تجارب كتابية عاشت على حدود أنواع كتابية مختلفة، إذ نشأت على مقربة من الصحافة، بل «في حضنها»، إذا جاز القول، قبل أن تبلغ مرحلة «الكتاب الشعري» القائم بنفسه. كما هي تجارب تنوّعت في إحالاتها ومراجعها على مذاهب وأساليب أدبية وشعرية مختلفة رومنسية، سوريالية، طاغور، تي. إس. إليوت، نثر المتصوفة... إلا أن ما استوقف الدارس خصوصاً قام على إيجاد ما يناسب هذه القصيدة من أدوات تحليلية، إذ تقوم واقعاً وكتابياً على «خلط» بنائي في المستويات المختلفة. لكل قصيدة شكل طباعي، إيقاع، نحو، ومعنى بين النثر والشعر، وعلى تشكيلات وتوليدات منهما. لهذا قام الدرس، في منطلقة، على تبيّن ما يمكن أن تكون عليه «الشعرية» في إنتاجات القربى والتوالد بين النثر والشعر.

الشعر العربي الحديث: القصيدة المنثورة، اسهام كان لا بُدّ منه لغناه في درس مسيرة تاريخ هذه القصيدة منذ نشأتها حتى يومنا هذا.

(جريدة "البناء"، بيروت، 11 نيسان-أبريل 2017).